q
أين أزماتنا ومشاكلنا من البرنامج المتكامل الذي وضعه الامام السجاد، قبل اربعة عشر قرناً، ليس لشعب واحد يعاني من مشاكل في سكنه ولقمة عيشه، إنما وضعها لأمة قتلت آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض، ومكّنت طغاة دمويين من الحكم ليعيثوا في الارض فساداً؟...

أيّ دولة بالعالم تشهد تغييراً في نظامها السياسي والاجتماعي، تهتم بجانب معين فتركّز جهدها عليه، كما حصل في دولة جنوب افريقيا التي تحولت من نظام الفصل العنصري، الى نظام سياسي يحكمه أهل البلد ذوي البشرة السوداء، مع تمتع البيض بحرية العيش فيه، وكما حصل في دولة رواندا التي شهدت حرب إبادة قبلية راح ضحيتها حوالي مليون انسان، ثم تفرّغ اليوم أهلها للتعايش والتعاون لبناء بلدهم، وأمثلة أخرى من العالم في أزمان بعيدة، فتجارب من هذا النوع يكتب لها النجاح –غالباً- لان العلماء والحكماء يعكفون على صياغة البدائل لمشكلة محددة، كأن تكون العنصرية، او العنف، او الاستبداد السياسي، بينما اذا كان ثمة بلد يعيش التمزق من الداخل والتأمر عليه من الخارج، مع سلسلة معقدة من الازمات، هل يرتجى منه الخروج سالماً والوصول الى بر الأمان؟

الامام زين العابدين، عليه السلام، وهو رجلٌ واحد، ليس معه إخوة أشداء يعضدونه، ولا أبناء عشيرة، و لاجماعة يتبعونه، لان الناجي الوحيد من معركة الطف، ففي هذه المعركة سقطت القامات الشامخة لبني هاشم، من العباس وإخوته، وعلي الأكبر، وابناء الامام الحسن المجتبى، وابناء عقيل بن أبي طالب، وبقي مع الإمام السجاد، طفل صغير للإمام الحسن المجتبى، وهو الحسن المثنى الذي أصيب بجراحات وهو يدافع عن عمّه الامام الحسين. هذه الوحدة الموحشة، كانت ممزوجة بألم الواقع المُر الذي خلقه النظام الأموي في الامة، حيث قساوة القلوب، وجدب النفوس، وتلويث الافكار بالتضليل والتغرير والخداع، حتى بلغ الضيق بالإمام السجاد، عليه السلام، أن قال ذات مرة ما مضمون الرواية: "لم يبق لنا في مكة والمدينة من المحبين سوى عشرون شخصاً".

هكذا تسلّم الإمام السجاد الأمة من بعد أبيه الحسين؛ ممزقة من الداخل، حيث الهزيمة النفسية ومشاعر الضعة والذل، بعد تلطّخ ايديهم بدماء أهل بيت رسول الله، ثم تعرضهم للاستباحة في واقعة الحرّة، وجرى ما جرى، ومن الخارج تتعرض لسياسات القمع الممنهج التي بدأت بمشورة أجنبية من لدن المستشار الرومي ليزيد باستقدام شخصية دموية (عبيد الله بن زياد) "فهو الأقدر على قيادة العراق"! وعلى هذا النهج سار بقية الخلفاء الأمويين، وما ظهور شخص مثل الحجاج في العراق، إلا دليل تاريخي على ذلك.

فماذا يصنع الإمام السجاد أمام واقع كهذا؟

هل يستخدم المال لاستمالة الناس وكسب المؤيدين، وكان قادراً على ذلك، فالتاريخ يؤكد الأئمة كان لديهم رصيداً مالياً هائلاً من الاراضي الزراعية المعطاءة التي أحياها أمير المؤمنين، عليه السلام، في فترة ابتعاده عن الحكم، وحسب المصادر؛ زرع طيلة تلك السنوات حوالي مائة ألف نخلة، ولكنه لم يفعل ذلك، لأنه كان يتطلع الى البعيد في مصير الأمة، وأن تكتب تاريخاً جديداً لها، وتتحول الى الإصلاح والتطور والتقدم، والبداية تكون من ذات الانسان، وليس من عوامل خارجية لا يكتب لها الدوام.

سُميّ الامام زين العابدين، بالسجاد، حتى تكون سجداته الطويلة ومضات مشعة تدل الناس على طريق الخروج من ظلمات النفس وجدبها، عندما تمزق كل إغلال الأرض، من مال، وسلطة، وشهوات، لينطلق الانسان الى رحاب الرحمة الإلهية والقوة القاهرة، بينما الأدعية والمناجاة التي كان يتمتم بها ليلاً ونهاراً، و دونها ابنه زيد الشهيد، تمثل برنامجاً متكاملاً للإصلاح الذاتي، ولتنظيم العلاقات بين الفرد والمجتمع، وقبلها تنظم العلاقة بين الانسان الفرد مع ربه، بل ولتكون منهاجاً لحياة سعيدة للأمة في إحلال السلم والاستقرار والرفاهية. كل هذا نجده في الصحيفة السجادية.

حقاً؛ انه لانجازٌ باهر لا مثيل له من شخصية مثل الامام السجاد، وفي ظروف نفسية كتلك التي مرّ بها، وايضاً الظروف الاجتماعية العصيبة المحيطة به، شخصٌ أُخذ منه كل شيء، ثم يأتي ويعطي للناس وللأجيال كل شيء، وقد أذعن العلماء اليوم، من مسلمين وغير مسلمين، بحصافة النهج التغييري البارع لهذا الكتاب الكريم، لانه يمثل مشروعاً متكاملاً لبناء الانسان من الداخل، فاذا قلبنا الأدعية والمناجاة بين دفتي هذه الصحيفة المباركة، نجد أنها تستجيب سلفاً لأي مشكلة نفسية يعاني منها الانسان، وتمثل عقبة امامه للتقدم في الحياة؛ بدءاً بالثقة بالنفس، والخوف من المجهول، واختلال العلاقات بين افراد الأسرة، وايضاً مع افراد المجتمع.

يكفي أن نلقي نظرة على دعاء مكارم الأخلاق لنجد كيف أن الإمام يبين الطريق لبناء أفضل وأقوى العلاقات بين بني البشر، فهو يدعو الله –تعالى- بأن "سددني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصِلة، وأخالف من اغتابني الى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة".

ماذا يعني هذا؟!

أقلّ ما يمكن وصفه بأنه ترويض نفسي على فعل الخير بقطع النظر عن المحيط الخارجي السيئ، الذي لن يتغير اذا جوبه بالسوء، كما أجمع على هذا العلماء، وأكدت التجارب في ميادين شتى.

أما عن مناجاته الخمسة عشر الواردة في الصحيفة السجادية، فهي الاخرى تمثل برامج متكاملة لبناء وإصلاح النفس البشرية، وللعودة الى الحالة الانسانية التي أرادها الله –تعالى- لعباده، فهو، عليه السلام، يناجي ربه بأحوال مختلفة تمثل النفس البشرية، ولتكون خير رسالة الى الاجيال عبر التاريخ، لذا نقرأ عناوين "مناجاة المحبين"، و"مناجاة الخائفين"، و"مناجاة الراغبين"، و"مناجاة الشاكرين"، وغيرها من العناوين التي تلامس شغاف القلوب فتزيل عنها الرين والصدأ بسبب استحكام الهوى وتغييب العقل.

هذه الأدعية والمناجاة، وهي في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الأمة، لم تكن سوى كلمات، الى جانب آلاف الكلمات التي يسمعها الناس، من شعر وخطابة وفتاوى وتنظيرات، إلا ان المائز بينها وبين كل هذا الركام، أنها تخاطب القلوب والنفوس المتعبة من فساد الواقع الخارجي، فالانسان مهما هوّن على نفسه بالمال والملذات والامتيازات، يبقى له وتر من الفطرة يؤنبه بعنف، فيعجز عن خداع نفسه اذا تمكن من خداع الآخرين، ولذا نجد أن الثورات والانتفاضات الجماهيرية انطلقت من تلك الفترة ضد الظلم والطغيان وكل أنواع الفساد السياسي والاجتماعي، وعمّت الآفاق، فانتشر الوعي وارتفع منسوب الثقافة الدينية لدى الناس، و ليكون الإمام السجّاد واضع القواعد الاولى لظهور العلماء والفقهاء والمحدثين في عهد ولده الامام الباقر، ومن ثمّ؛ الامام الصادق، عليهما السلام.

أين نحن من هذا السفر العظيم؟

وأين أزماتنا ومشاكلنا من البرنامج المتكامل الذي وضعه الامام السجاد، قبل اربعة عشر قرناً، ليس لشعب واحد يعاني من مشاكل في سكنه ولقمة عيشه، إنما وضعها لأمة قتلت آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض، ومكّنت طغاة دمويين من الحكم ليعيثوا في الارض فساداً؟

أحد مراجع الدين الشيعة أرسل نسخة من الصحيفة السجادية الى الشيخ الجوهري الطنطاوي، العالم الأزهري صاحب "الجواهر في تفسير القرآن" المتوفى 1940، فجاءه الجواب: "ومن الشقَاء أنَّا إلى الآن لم نَقِفْ عَلى هذا الأثر القَيِّم الخالد في مواريث النُبوَّة وأهل البيت، وإنِّي كُلَّما تأمَّلتُها رأيتها فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق".

فحريٌ بنا في بلد مثل العراق، وأي بلد اسلامي آخر، أن نتسابق على اقتباس كلمات هذه الصحيفة لتكون دروساً لطلبة المدارس والجامعات، وأن تكون على جدران المحاكم والدوائر الحكومية والامنية، يحفظها الجميع، حتى لا يتكرر خطأنا مع القرآن الكريم الذي سبقنا الآخرون في قراءته ومعرفته وتطبيقه، رغم تحذير أمير المؤمنين لنا، وها هم الغربيون يطبقون أحكام القرآن وتعاليمه في حياتهم الاجتماعية والسياسية، فيما نحن نضع القرآن الكريم، كما نضع الصحيفة السجادية على الرفوف، بتصور أننا وصلنا الى ما هو أحدث !

اضف تعليق