q
للإمام الكاظم ألقاباً كثيرة من جملتها (الوفي) و(الأمين) و(الصابر)، لكن أشهر ألقابه (الكاظم)، فهل يمتاز الإمام الكاظم عن بقية الأئمة المعصومين بصفة الكظم؟ الجواب: كلا؛ فكان كل الأئمة كاظمين للغيظ، بل كلهم كانوا صادقين، وهداة ومهديون، فلماذا يلقب الإمام موسى بن جعفر بـ(الكاظم)...

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعداءهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)[1]. صدق الله العلي العظيم

في علم النفس هنالك بحثان: بحث حول المثير، وبحث حول الاستجابة لذلك المثير؛ ماذا يعني المثير؟ وماذا تعني الاستجابة؟

توجد في كل الأفراد صفات كامنة، وهي لا تظهر في مراحل المراهقة والبلوغ والشباب فقط، وإنما هي كامنة منذ ولادة الطفل وعندما يفتح الإنسان عينه على هذه الحياة، فالطفل وهو في المهد وعمره يوم أو يومان أو عدة أشهر، تكون الصفات كامنة فيه على شكل بذور ونواة، لذا نرى الطفل يغضب إذا أُخذ منه اللبن، ويرضى إذا أُعيد اليه، وبمرور الزمن تنمو الصفات الكامنة في نفس الطفل، حتى تصل مراحلها الكاملة، ثم تظهر في ظل ظروف وأوضاع معينة فيطلق عليها بـ (المثير)، لأنها تثير رد فعل معين، و ردّ الفعل هذا يطلق عليه (الاستجابة).

ظروف خاصة لبروز الصفات الحسنة

ومثالٌ على (المثير) و (الاستجابة) من التاريخ، ذلك الرجل الفقير الذي كان ملازما للمسجد في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان يأتي المسجد كل يوم لصلاة الصبح وصلاة الظهر وصلاة المغرب، وكان ظاهره مثل الآخرين ولا يميزه شيء، ولكن بما أن الله سبحانه وتعالى لا يترك عباده المؤمنين دون امتحان، ولابد أن يؤخذ يوماً من نقطة معينة، فقد تحول ذلك الرجل الفقير إلى ثري، فتراجع عدد المرات التي يأتي فيها إلى المسجد، وعندما زادت أمواله وكبرت شخصيته، انقطع عن المسجد بالمرة، فهذه الثروة كانت (المثير) عند ذلك الرجل واسمه (ثعلبة) والموقف الذي اتخذه هو (استجابة) منه لهذا المثير، وانتهى به الأمر إلى حيث قال الله تعالى: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه)[2]، وفي زمان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أراد أن يدفع الزكاة، ولكن الرسول الأعظم لم يقبل منه الزكاة، كما لم يقبل منه حتى بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فقد ظهرت حقيقته عندما طرأ الظرف الواقعي.

حصل أن اجتمع مجموعة في مكان ما وأخذوا يتداولون قضية الخلافة؛ من يكون الخليفة؟ فقال الإمام الصادق (صلوات الله عليه): (إن الخليفة – الحاكم- هو صاحب القباء الأصفر)[3].

لقد كان المنصور رجلاً فقيراً في البداية، وكان يمدح علياً (صلوات الله عليه) ويعطيه الناس الأموال لمدحه، ولكن الصفة والحقيقة الكامنة في نفسه ظهرت عندما تحقق ما قاله الإمام الصادق وأصبح هو صاحب (القباء الأصفر)، فأصبح الخليفة وامتلك أسباب القدرة، وهي التي تشكل (المثير) الذي يظهر الكوامن، وإذا بهذا الرجل نفسه يقتل الإمام الصادق (صلوات الله عليه) بعد أن كان من أوليائه ومحبيه في البداية.

لماذا يقال للإمام موسى بن جعفر (الكاظم)؟

إن للإمام الكاظم (صلوات الله عليه) ألقاباً كثيرة من جملتها (الوفي) و(الأمين) و(الصابر)، لكن أشهر ألقابه (الكاظم)، فهل يمتاز الإمام الكاظم عن بقية الأئمة المعصومين بصفة الكظم؟ الجواب: كلا؛ فكان كل الأئمة كاظمين للغيظ، بل كلهم كانوا صادقين، وهداة ومهديون، فلماذا يلقب الإمام موسى بن جعفر بـ(الكاظم) ويُقال له الإمام الكاظم؟ أو لماذا يُقال للإمام جعفر بن محمد بـ(الصادق)؟

ان النفسية واحدة، فكلهم نور واحد وهم أطهار كما جاء في الزيارة: (أشهد أنك طهر طاهر مطهر)، وليس هو فقط؛ بل (من طهر طاهر مطهر)[4]، فكل الأئمة المعصومين أطهار من أطهار؛ ذرية بعضها من بعض، ولكن وجدت مثيرات وأوضاع معينة فظهرت الصفة والحقيقة الكامنة في النفس، وقد مرّ الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) بظروف كشفت فيه صفة الصدق أمام الجميع، علماً إن هذه الصفة كانت فيه وفي كل آبائه، كما إن كل الأئمة المعصومين كاظمون، ولكن أحداثاً معينة أظهرت هذه الجوهرة الطاهرة في نفس الإمام الكاظم (صلوات الله عليه). فقد مر الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) بمواقف كثيرة كان فيها كاظماً، وكان مصداق الآية القرآنية: (... والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، أما من ناحية اللغة، فان (الكظم) يقال للقربة عندما تمتلئ بالماء إلى حافتها ويبدأ الماء بالانصباب، وعندما نريد الحؤول دون ذلك نأخذ الوتاء ونشد به رأس القربة، فيُقال لذلك: كظمت القربة.

وكل واحد منّا ربما يتعرض لموقف منفعل، سواءً لدى دخوله بيته، أو لدى ذهابه إلى متجر للتبضع، وقد يتعرض إلى موقف منفعل في كل لحظة، لكن بإمكان الإنسان التحكم في نفسه اذا ما امتلأت بالغيظ، وألا يسمح لهذا الغيظ بالظهور إلى الخارج، وهذا يطلق عليه كظم الغيظ، ويطلق على هذا الرجل بـ(الكاظم).

كظم الغيظ فرصة للمراجعة

في احد الأيام يدخل الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان وهنالك رجل يحمل عداءً ضد الإمام، وكلما كان يرى الإمام، يبدأ بشتمه أمام الملأ، بل ويضيف إلى ذلك شتم الإمام علي (صلوات الله عليه)، فكان الإمام الكاظم يسمع بشتمه وشتم أبيه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ويمر اليوم تلو اليوم وذلك الرجل مستمر على طريقته، فقال مجموعة من أصحاب الإمام (صلوات الله عليه): إئذن لنا أن نقتل هذا الرجل لأنه سب الإمام، فمنعهم من ذلك أشد المنع، فهذا الموقف لا تتم مواجهته بموقف مماثل والعنف لا يواجه بالعنف، ويقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (وأن تعفو أقرب للتقوى)[5].

لكن لماذا لا يجب مواجهة العنف بمثله؟ الجواب هو أنَّ الرجل الذي يشن الهجوم ويشتم ويقوم بموقف انفعالي، إنما يفعل ذلك انطلاقاً من ضغوط وقناعات معينة، فإذا لم نرد عليه بالمثل، سنعطيه وقتاً ليعيد التفكير فيما اتخذه من موقف، كما يحصل بين الزوج و زوجته، فإذا تجاوز أحدهما على الآخر ولم يرد أحدهما على الآخر بانفعال، فان ثورة الغضب ستنتهي ويعود الطرف الغاضب ليفكر من جديد في صحة الموقف أو الكلمة التي قالها، ويندم، تقول الآية المباركة: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة)[6]، فبعد لحظات الانفعال بقليل يعيد الإنسان تفكيره من جديد ويتساءل عن سبب قيامه بذلك العمل، ولكن إذا كان الرد بالمثل، الشتم بالشتم، فانه يفرز العناد ليس عند الكبار فقط، بل حتى عند الأطفال، إذ نلاحظ أحياناً الطفل يكون متمرداً في البيت، فإذا تم ردّه بالعنف سيرد بالعنف أيضا، فبعد هذا العنف المضاد، لن يبقى مجال للتفكير عند هذا الطفل أو ذلك الكبير بالدفاع عن ذاته، فيرد عليك وتتصلب عنده قناعاته، وهكذا يدور الأمر في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل ولا ينتهي الأمر إلى نتيجة، ولكن إذا عملنا بما أمرنا الله سبحانه وتعالى، وبما مشى عليه أولياء الله فإن هنالك احتمالاً كبيراً أن يعيد الطرف تفكيره ويرجع إلى الحق.

من هنا كان نهي الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) عن إبداء رد الفعل إزاء عمل ذلك الرجل، وبعد أيام سأل الإمام الكاظم عن مكان سكن ذلك الرجل؟ قالوا: عنده بستان خارج المدينة، فركب الإمام دابته وذهب إلى ذلك المكان ونزل عند ذلك الرجل الذي كان يشتمه ويشتم أمير المؤمنين، وأخذ يحدثه ويلاطفه، ثم قال: كم صرفت على هذا البستان؟ قال: مئة دينار ذهب قال: كم ترجو أن تحصل من وراء هذا البستان؟ قال: لا أعلم الغيب، - طبعا الكلام غير منطقي لأن الإمام لم يسأله كم تحصل- فقال له الإمام: لم أقل لك كم تحصل؟ وإنما كم تأمل أن تحصل؟ فقال: مائتي دينار يعني ضعف ما صرفه فأخرج الإمام صلوات الله عليه من جيبه صرة فيها ثلاثمائة دينار قال: خذ هذا المبلغ وإنْ شاء الله تحصل على ما أمّلت من زرعك، في اليوم الثاني عندما كان الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) يريد دخول مسجد رسول الله، ويراه ذلك الرجل كان يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته...[7] شتان ما بين هذا الموقف وذاك؛ كان البارحة يشتم الإمام وفي اليوم التالي يقول: إن هذا هو الخليفة من قبل الله على الخلق كافة، لذا أخذ أصحابه يخاصمونه، وهو يخاصمهم، فعاد الإمام (صلوات الله عليه) إلى البيت وقال لأصحابه: أهذا أفضل أم ذلك الذي كنتم تنوونه؟

ينقل عن السيد أبي الحسن الأصفهاني رحمه الله وهو أحد مراجع الدين الكبار، وهو الذي بنى القاعدة الثقافية لمذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) – حسب قول بعض العلماء- فما نجده اليوم من نهضة ثقافية فهي من بركات هذا المرجع الكبير، وكان هنالك رجلٌ شاعرٌ يهاجم السيد الاصفهاني في كل مكان، وكان يتكلم ضده، وحصل في يوم من الأيام أن أنشأ قصيدة ضد السيد الأصفهاني، وأخذ يتلو قصيدته في المجالس و المحافل، بالمقابل فان السيد (رحمه الله) وتبعا للتربية التي تلقاها في مدرسة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وفي مدرسة الإمام الكاظم (صلوات الله عليه)، توجه الى بيت ذلك الرجل الشاعر، وينقل هو نفسه بأنه في إحدى أيام الظهيرة سمعت طرقاً على الباب، فتحت الباب وإذا بالسيد الاصفهاني واقفاً أمامي عند الباب بعينه وذاته، يقول: فأسقط في يدي، فسلم السيد عليّ وقال: تسمح لي بالدخول والجلوس عندك؟! قلت: تفضل؛ فدخل السيد إلى البيت؛ جلس قليلاً، ثم تكلم معي، وقال لي: عندك قصيدة حولي، إذا تتفضل تأتي بها وتقرأها لي! يقول: أُصِبْتُ بارتباك شديد، والسيد مصر عليّ بأن آتي له بالقصيدة ولم أجد مندوحة عن ذلك، يقول: فأحضرت القصيدة وأنا خجل مرتبك، وأخذت أقرأ القصيدة والسيد يستمع، بعد أن أكملت القصيدة، أخذ القصيدة وقال لي: كل قصيدة لها جائزة، وهذه جائزتك! وجلس قليلا، ثم غادر البيت، وعلى أثر هذا الموقف، تحول ذلك الرجل الذي رأى أخلاق العالم الكبير، إلى مدافع عن هذا العالم، يقول الله سبحانه وتعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيّئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)[8].

نقرأ في دعاء مكارم الأخلاق: (...أن أقابل من حرمني بالصلة وأن أكافئ من اغتابني بحسن الذكر)، فإذا واجه الإنسان العنف باللطف، وإذا تسود هذه القاعدة في المجتمع، فان وضع مجتمعنا وأسرنا وبيوتنا وعوائلنا يكون أفضل بكثير.

باقة من روايات في كظم الغيظ

- عن الإمام الباقر (صلوات الله عليه) قال: (من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمنا و إيمانا يوم القيامة)[9]، أي ان الله سبحانه وتعالى سيمنح ذلك الانسان الأمان الذي يحتاجه في ذلك اليوم.

- قال الله تعالى لموسى (صلوات الله عليه): (يا موسى: أمسك غضبك عمن ملكّتك عليه أكف عنك غضبي كما كففت غضبك عن الناس...)[10].

- عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (من كف غضبه ستر الله عورته)[11]، لأن كل الأوراق تظهر عندما يحدث الانفعال والخصام، ويبدأ هذا الطرف ينشر فضائح الطرف المقابل، وبالعكس أيضاً، وإذا بالإنسان يفتضح أمام الناس، ولكن إذا كف غضبه وسكت سُترت فضائحه.

- عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (عقوبة الغَضوب والحسود والحقود تبدأ بأنفسهم)[12]، فأول من يتأذى من الغضب ويحترق بنارها هو الغاضب نفسه، فهو يحرق نفسه قبل أن يحرق الآخرين، وهذه عقوبة يسلطها الله على الغاضب والمنفعل، (وكذلك الحسود والحقود).

- عن رسول الله صلى الله عليه: (إن هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقد في قلب ابن آدم وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه و انتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه)[13]، فهكذا انسان يصبح عبداً للشيطان و أسيراً له و ألعوبة بيده.

ونحن يجب علينا أن نصمم للسيطرة على أنفسنا بإذن الله، فالذي يسيطر على نفسه في مواقف الانفعال يحفظ دينه ودنياه وإذا لم يحفظ نفسه خسر دينه ودنياه وخسر أخرته.

نسأل الله سبحانه وتعالى في هذه الأيام أن يوفقنا لذلك وأن يوفقنا لإحياء ذكرى الإمام الكاظم صلوات الله وسلامه عليه حتى نستفيد من أخلاقه واسلوبه وسنته وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

* من محاضرات الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي

............................................
[1] - آل عمران: 134.
[2] - التوبة: 77.
[3] - ينابيع المودة لذوي القربى: ج 3، ص 50.
[4] - كامل الزيارات ـ ص 101 ( من زيارة لأمير المؤمنين (ع) ).
[5] - البقرة: 237.
[6] - القيامة: 1 – 2.
[7] - راجع: كشف الغمة: ج 3، ص 20.
[8] - فصلت: 34.
[9] - بحار الأنوار: ج 7، ص 303.
[10] - الكافي: ج 2، ص 303.
[11] - المصدر نفسه، والرواية واردة عن ابي عبد الله الصادق (ع).
[12] - ميزان الحكمة: ج 3، ص 2264.
[13] - الكافي: ج 2، ص 305.

اضف تعليق