المؤمن، بل ومطلق العاقل، مهما كان رأيه وموقفه من بين الآراء الثلاث، ومهما كان قاطعاً بصحة رأيه، فإن الدين الإسلامي، والعقل، والحكمة، تقتضي أنَّ يتحلى تعامله مع الرأي الآخر، والأطراف الأخرى، بالحكمة والموعظة الحسنة، مما يمكن أن نسمّيه بـأدب الاختلاف مع الآخر، والذي يعتمد في أسسه على ثقافة الاختلاف...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنينَ وَالْقَناطيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[1].

والحديث يقع في فصلين: الأول: الموقف من الشهوات، الثاني: الموقف من الانتخابات.

الفصل الأول: الموقف من الشهوات

في الآية الشريفة بصائر كثيرة، نشير إلى بعضها بإيجاز:

سرّ التعبير عن المشتهيات بالشهوات!

1- إنّ المراد من الشهوات المشتهيات، وحيث أنّ الشهوات من النساء، والبنين، والذهب... هي كلّها أعيان أو جواهر، فكان ينبغي أن توصف بالمشتهيات لأنها ما يشتهيه الإنسان، أمّا الشهوات فهي حالة قائمة بالإنسان، وهي رابط بين الإنسان والذهب أو المرأة، وليست عين الذهب أو المرأة، فلماذا استبدل التعبير بـ (المشتهيات) بالتعبير بـ (الشهوات)؟

لعلّ الوجه في التعبير عن المشتهيات والأعيان بـالشهوات، هو المبالغة، فكأنّها هي الشهوة بعينها، لا ذات ثبتت لها كونها مشتهاة فهو كقولك: (زيد عدل)، مع أنّه عادل، أي ذو عدالة.

ولعلّ السبب أنّ الكثير من الناس، وللأسف، ينظرون إلى المال أو المرأة نظرة شهوية محضة فكأنّ المرأة، لديهم، هي الشهوة المحضة بعينها، لا أنها إنسانة لها حقوق وعليها واجبات والشهوة تدور في هذه المنظومة وتتأطّر بها، وكأنّ المال هو الشهوة بعينها لا أنه وسيلة لإعمار الدنيا والآخرة وكونه مشتهى، يجب أن يدور في هذا الإطار.

وحيث ينظر الكثير من الناس إلى تلك الجواهر نظرة شهوية محضة، لذلك تُغريهم الأموال، أو النساء، أو سائر الشهوات، وتوقع به... والذي يُؤخذ على الغرب، ومن دار في فلكه، أنّه أصبح ينظر إلى المرأة كسلعة يتاجر بها وبجمالها لا أكثر... فهذا هو موطن من مواطن التبصّر والحذر أيضاً.

من الذي يزيّن للناس حب الشهوات؟

2- إنّه وقع الكلام في الفاعل للتنزيين على أقوال:

الأوّل: إنّ المزيِّن هو الله تعالى، لأنّه هو الذي غرس في الإنسان الميل الغريزيّ إلى الشهوات.

الثاني: إنّه الشيطان، لأنّه هو الذي يُسوِّل للإنسان، ويُزيِّن له، ويُوسوس له لارتكاب الشهوات.

الثالث: إنّه الله تعالى في كلّ تزيينٍ حَسَنٍ، والشيطان في كلّ تزيينٍ سيّئ، والتزيين الحسن هو الشهوات المـُحلَّلة بنفسها، والمحبّذة بلحاظ غايتها؛ فالمال حسنٌ إذا أريد به الآخرة، ومعونة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وبناء المساجد، والحُسينيّات، والمدارس، والمكتبات، والمياتم، والمصانع والمعامل، وشقّ الطرق، والأنهر، والأنفاق، وبناء الجسور، والسدود... إلخ.

وقد زيّن الله تعالى للإنسان حبّ المال لأجل الوصول عبره إلى بناء المجتمع الإنساني المتكامل وخدمة الناس وإلى الفلاح الأخروي أيضاً، (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها)[2]، و(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)[3]، عكس الشيطان الذي يُزيِّن للإنسان المال لكي يستخدمه في المحرّمات.

وكذلك المرأة، فقد زيّن الله تعالى للإنسان الزواج بها، والتمتّع بزوجته، بل وأثاب عليه ثواباً عظيماً... وهكذا الحرث والأنعام التي يدفع زكاتها أو خُمسها... إلخ.

ولكن المـُستظهر أنّه لا مانعة جمع بين المعاني، فإنّ الله تعالى زيّن للإنسان الشهوات المـُحلَّلة ليسعد بها في الدنيا، وليُفلِحَ في الآخرة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)[4]، كما أنه تعالى زيّن له الشهوات المـُحرَّمة بغاية الامتحان.

وأمّا الشيطان، فإنّه يزين الشهوات المـُحرَّمة كي يرتكبها الإنسان فيحرم من رحمة الله ويشقى في الدنيا قبل الآخرة.

وقال بعضهم: إنّ بعض القدريّة اختار المعنى الثاني كي لا يلزم الجبر، وفيه: إنّ كون الله تعالى هو المـُزيِّن لا يستلزم الجبر، لأنّه تزيين اقتضائيّ، لا عِلِّي، إذ للإنسان الإرادة والاختيار، فإنّ ما يُحبّه الإنسان، أو يرغب فيه، أو يبدو له جميلاً جدًّا، صالحًا كان أم طالحًا، قد يعمله، وقد لا يعمله، بحسب إرادته.

تزيين الشهوات يستتبع امتحاناً صعباً

3- إنّ هذا التزيين يستبطن ويستتبع امتحانًا صعبًا جدًّا، (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[5]، والناجح في الامتحان هو من ينظر إليه بعين الحذر الشديد، ويُقدِّره حقّ قدره، وأمّا من يستهين به ويستسهله، فكثيرًا ما يسقط في شباكه ويغوص في أوحاله بل يغرق في مستنقعاته.

ألا ترى أنّ من يعتبر امتحان التخرّج من الجامعة صعبًا، فيجتهد في الدروس ليل نهار، ينجح عادةً؟ عكس من لا يُعطي الامتحانات الوقت والاهتمام والجدِّيّة اللازمة؟

مثالٌ آخر: لا بد أن يتعرّض للدغات الحيّات والأفاعي (الكوبرا مثلًا) من يعيش في مكان تكثر فيه، (أو حتى في غرفة توجد فيها حيّة أو عقرب مثلاً)، إذا استهان بها ولم يحذر، أمّا الذي يحتاط أكبر الاحتياط، فإنّه عادةً يكون بمنجاة.

وكذلك الشهوات، فمن نظر إلى الأموال والذهب والفضة، والنساء، والزّرع، و... بعين الحذر الشديد، وأنّها قد تغويه وتُردِيه إذا لم يحصل عليها من حِلّها، ولم يُنفِقها في محلّها، فإنّه أبعدُ عن أن يُحاول الحصول عليها من حرام (كالرِّشوة، والرِّبا، والاختلاس، و...)، أو أن يصرفها في الحرام (كالإنفاق في القمار والخمرة وغيرهما)، أو أن يكنزها ويمنعها حقوقها (كالخُمس والزكاة).

عكس من يُقبِل عليها راغبًا، شديد الرغبة، غير مُتحذِّر من شدّة احتمالات تعلّقه بها، وإيقاعها به، ولذا ورد: (مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ)[6]، و(مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ دُنْيَا، وَطَالِبُ عِلْمٍ...) وطلب العلم محمود، لأنّه كمال، بينما طلب المال مذموم إذا كان لذاته فإنه رقّ وعبودية.

والمشكلة في الإنسان أنّه لا يقدّر أبداً، عادةً، خطورة الشهوات، ومنها الرياسة، والمال، والجمال، وغيرها مما ذُكر في الآية الشريفة أو ذُكر في غيرها من النصوص الدينية، حقّ تقديرها أبداً، ولذا تجده إذا بُشِّر برياسة جامعة أو حوزة أو حزب أو عشيرة أو حكومة أو حتى مؤسسة صغيرة، فإنه يهشّ لها ويبشّ، مع أنّ عليه أن يعتبرها مغرماً لا مغنماً، وحتى لو ارتآى أنّ وظيفته الشرعية فرضاً تقتضي التصدي، إلا أنّ عليه أن يكون من أخطار الرياسة والأموال والشهرة و.. على دينه، على أقصى درجات الحذر.

وقد ورد في الحديث عن أبي الحسن (عليه السلام): (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فَقَالَ إِنَّهُ يُحِبُّ الرِّئَاسَةَ فَقَالَ: مَا ذِئْبَانِ‏ ضَارِيَانِ‏ فِي‏ غَنَمٍ‏ قَدْ تَفَرَّقَ رِعَاؤُهَا بِأَضَرَّ فِي دِينِ الْمُسْلِمِ مِنَ الرِّئَاسَةِ)[7].

واللفتات المحذرة في الرواية، إلى جوار الأدب التصويري فيها، متعددة شديدة الوقع والدلالة:

أ- ذلك أنَّ الذئب حيوان شرس جداً، فتاك، لا يرحم، وليس كالأسد مثلاً الذي يفترس بمقدار حاجته فقط، فإذا شبع لم يهاجم أبداً إلا أن يشعر بالتهديد من الطرف الآخر.. أما الذئب فإنه قاسٍ دمويّ، فإذا دخل القطيع مزّق الأغنام تمزيقاً من غير حاجة له إلى ذلك أبداً.

ب- فهذا لو كان ذئباً واحداً، فكيف لو كانا ذئبين؟ فإن الأمل في النجاة حينئذٍ يتضاءل جداً، إذ يهاجمها هذا الذئب يمنة، والآخر يسرة.. وهكذا..

ج- وهناك لفتة أخرى، وهي أنَّ مكمن الخطورة في الذئب، كالسباع المفترسة الأخرى، لا تكمن في قوته فقط، بل في سرعته المذهلة التي لا يمكن للإنسان مجاراتها عادةً؛ فإنّ المهاجم إذا كان بطيئاً، العقرب مثلاً، أمكن للإنسان مهاجمته وقتله قبل أن يهاجم ويلدغ، أما لو كان سريعاً جداً كالحية والكوبرا مثلاً، فإن الإنسان لا يمكنه عادةً الخلاص منه إلا إذا كان حذراً جداً، سريعاً جداً، مستعداً جيداً جداً.

والرياسة هكذا.. فإنها تتميّز بتلك الميزات الخطرة التي تتميّز بها الذئاب، إذ هي فتّاكة جداً بدين المسلم، فهي وحشٍ ضارّ لا يرحم، ولا تتوقّف عند حدّ، فلا تقتصر على إيجاد ثُلمة واحدة في دينه، بل تتوسّع لتهدم دينه كلّه من أساسه، ذلك أنّها مهد الرشوة، والاختلاس، والاحتيال، والتجبّر، والظلم، وغصب أموال الآخرين ومصادرة حقوقهم، والاحتجاب، وألف معصية ومعصية، ومع ذلك كله فإنّ فتكها بدين المسلم سريع جداً، كفتك الذئاب بقطيع الغنم.. فإنّ الرياسة لا تُمهل عادةً، بل يبدأ إفسادها لدين المسلم منذ اللحظات الأولى لجلوسه على كرسيّ الرياسة.

ومع ذلك كلّه، ورغم شِدّة خطورتها وشراستها وفتاكيتها، فإنّ الإنسان يكون في مواجهتها بلا حماية عادة، أي يكون كالْغَنَم التي تفرّق عنها رِعاؤها في مواجهة الذّئاب الضّارية، فأَيّة حماية وأَيّة حماة لها حينئذٍ؟

فما أروع هذا التصوير، والتشبيه، والتنظير المذكور في الرواية الشريفة؟.

وعليه: فعلى الإنسان المسلم أن يحذر من التصدّي للرياسة كما يحذر الذّئاب الشّرسة، ولو اضطرّ إليها لسبب أو آخر، فإنّ عليه أن يكون حذراً أشدّ الحذر، وأن يجدد في نفسه حالة الترقّب والحذر، ويبقيها حيّة على مدار السّاعات، بل والدّقائق.. وإلّا فلربّما صرعته في لحظة، فلا يفيق ولا يبرأ ولا ينجو بعدها، لا سمح الله، أبداً.

ولكي نتعرف على بعض خطورة الرياسة ومخاطرها، لنتوقف عند الروايتين التاليتين:

الرئاسة باب من أبواب النار، حسب الحديث

عن هشام بن سالم عن محمد بن مسلم قال: (كُنْتُ قَاعِداً عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَلَى بَابِ دَارِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ يَمُرُّونَ‏ أَفْوَاجاً، فَقَالَ‏ لِبَعْضِ‏ مَنْ عِنْدَهُ: حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ أَمْرٌ؟ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وُلِّيَ الْمَدِينَةَ وَالٍ، فَغَدَا النَّاسُ يُهَنِّئُونَهُ. فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُغْدَى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ يُهَنَّأُ بِهِ، وَإِنَّهُ لَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ)[8].

فالرئاسة باب من أبواب النار، وأيُّ شخصٍ عاقلٍ يفتح على نفسه باباً من أبواب النار؟

فإذا تجسّد المرء في نفسه ذلك حقاً واستحضره أمامه دوماً، لشكّل له رادعاً، بإذن الله تعالى حقاً.

وهناك رواية أخرى تروي لنا قصة معبرة جداً عن ذلك الذي طلب من الإمام الصادق (عليه السلام) أن يتوسط له ليحصل على منصب في الحكومة (أي منصب: كاتب، أو محاسب، أو سكرتير، أو مساعد، أو حاكم على منطقة أو...)، وهي:

تجنب الظلم أيسر من تناول السماء باليد!

عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن داود بن زربي، قال: أخبرني مولى لعلي بن الحسين (عليه السلام) قال: (كُنْتُ بِالْكُوفَةِ فَقَدِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) الْحِيرَةَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَوْ كَلَّمْتَ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ أَوْ بَعْضَ هَؤُلَاءِ فَأَدْخُلَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ، فَقَالَ (عليه السلام): مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ!!.

قَالَ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَتَفَكَّرْتُ، فَقُلْتُ: مَا أَحْسَبُهُ مَنَعَنِي‏ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ‏ أَظْلِمَ‏ أَوْ أَجُورَ، وَاللَّهِ لآَتِيَنَّهُ، وَلَأُعْطِيَنَّهُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ أَلَّا أَظْلِمَ أَحَداً وَلَا أَجُورَ، وَلَأَعْدِلَنَّ.

قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي فَكَّرْتُ فِي إِبَائِكَ عَلَيَّ، فَظَنَنْتُ أَنَّكَ إِنَّمَا مَنَعْتَنِي وَكَرِهْتَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ أَجُورَ أَوْ أَظْلِمَ، وَإِنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ، وَكُلَّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ عَلَيَّ، وَعَلَيَّ إِنْ ظَلَمْتُ أَحَداً أَوْ جُرْتُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ أَعْدِلْ.

قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟

قَالَ: فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: تَنَاوُلُ السَّمَاءِ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ[9])،[10].

فلاحظ قوله (عليه السلام): (تَنَاوُلُ السَّمَاءِ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ)!!

والغريب أنَّ الناس عادة تتصور أنَّها إذا وصلت إلى الرياسة لا تتغير، لكنّ الإمام (عليه السلام) يصرح بـ (تَنَاوُلُ السَّمَاءِ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ)، واللطيف أنَّ الإمام طلب منه أن يكرر وعوده (كَيْفَ قُلْتَ؟) ولعله لنكتة تركيز الجواب في ذهنه أو كي لا يتوهم أنَّ الإمام لعله لم يسمع جيداً، حلفه بالطلاق والعتاق أو أنَّ الإمام لربما حمله على أنه متسامح في وعده، فقال أعد لكي يكرر مؤكِّداً أنَّهُ جاد جداً وأنه واثق من نفسه مطمئن من وفائه بوعده جداً.. ومع ذلك قال له الإمام، إنَّ تناول السماء، وهو مستحيل للإنسان بدون وسيلة وآلة، أيسر عليك من هذا!

فإذا أحاط الإنسان بذلك خُبْراً، وعلم أنَّ ثقته بنفسه وبكونه محصّناً أمام الرياسة والمال والمرأة.. خطأ تماماً.. أدرك أنه واهم حالم إلا إذا استشعر مدى خطورتها وفتاكيتها وسرعة عملها، فلا يكون حينئذٍ كمن يقال له: هذه كوبرا أو هذا ذئب أو نمر أو دب فيقول: فليكن وما شأنها! وما أقدرني عليها!

الفصل الثاني: الموقف من الانتخابات

هنالك ثلاث نظريات في الموقف من الانتخابات: المتاركة، المشاركة، التفصيل.

وقد اختلف العقلاء في جميع بلاد العالم التي تُجْرَى فيها انتخابات، حقيقية كانت أم صورية أم بينهما، إلى هذه الآراء، سواء في بلاد الغرب أم الشرق، ولكل رأي أدلته وحججه وشواهده:

المتاركة

الرأي الأول: المتاركة، وذلك استناداً إلى حجج، لديهم، عديدة:

منها: أنَّ اعتزال السياسة هو الأفضل، لأنها كلها حيل وألاعيب، وهي مستنقع آسن لا نستطيع أن نخرج منه إن دخلنا فيه.

ومنها: أنَّنا نرأب بأنفسنا أن نكون حطباً لنار هذا الطرف أو ذاك.

ومنها: اليأس من الإصلاح، وأنَّ النتائج معلومة سلفاً، سواء أفاز هذا الطرف وهذا المرشح أو ذاك...

المشاركة

الرأي الثاني: المشاركة، وذلك استناداً إلى حجج، لديهم، عديدة:

منها: أنَّ أصواتنا حقٌّ لنا، فلماذا نهدرها؟

ومنها: أنَّ غاية الأمر أن يدور الأمر بين السيئ والأسوأ، من القوائم أو من المرشحين، إذ ليس بينهم عادةً حسن، فكيف بالأحسن؟ ومجيء السيئ أقل ضرراً من مجيء الأسوأ، فلو لم ننتخب السيئ جاء الأسوأ، فهي معادلة الأهم والمهم.

انتخاب الأصلح

الرأي الثالث: وهو يقع في الوسط بينهما: أنَّ الصحيح هو أن ننتخب الصالح، وإن كانت حظوظه في النجاح ضئيلة، بل حتى منعدمة، أو حتى أنَّ نرشح نحن الصالح، كما خبرناه سنين طوالاً، إن لم يوجد بين المرشحين صالح، وذلك لجهتين:

أولاً: أنَّ انتخاب جمعٍ من الناس، وإن قلّوا، للصالح يشكّل رسالةً للفاسدين، فكلما ازداد المنتخبون له، ازدادت الرسالة قوةً ومنعطفاً وتأثيراً.

ثانياً: أنَّ الأمر تراكمي، فلو أعطينا أصواتنا للصالح الآن فإننا أولاً: لم نفعل أمراً سيئاً عبر انتخاب السيئ، وثانياً: إنه وإن لم يصل إلى قبة البرلمان أو إلى الرئاسة، إلا أنَّه إذا وجد جماعة تقف خلفه، فإنه وإن فشل في هذه الدورة، إلا أنَّ ذلك سيشجعه على الترشح للدورة القادمة، وقد ينجح فيها أو في التي بعدها.. عكس ما لو قلنا: لا نعطيه أصواتنا إلا لو أحرزنا نجاحه.. فإنه سينسحب او إذا رشح نفسه فسيحصل حينئذٍ على أصوات قليلة جداً، مما لن يشجعه في ترشيح نفسه في الدورات اللاحقة.

أدب التعامل مع الآخر وثقافة الاختلاف

وليس الكلام الآن في تقييم هذه النظريات الثلاث، والمفاضلة بينها، إذ الكلام كله مسوق لأمرٍ آخر، فوق ذلك كله، مهيمن على النظريات الثلاث، وهو أنَّ الإنسان المؤمن، بل ومطلق العاقل، مهما كان رأيه وموقفه من بين الآراء الثلاث، ومهما كان قاطعاً بصحة رأيه، فإن الدين الإسلامي، والعقل، والحكمة، تقتضي أنَّ يتحلى تعامله مع الرأي الآخر، والأطراف الأخرى، بالحكمة والموعظة الحسنة، مما يمكن أن نسمّيه بـأدب الاختلاف مع الآخر، والذي يعتمد في أسسه على ثقافة الاختلاف.

وقد صاغت لنا الآيات القرآنية ثقافة الاختلاف وكيفية التعامل معه، وحددت أُسسها عبر نصوصٍ مختلفة، تحمل دلالات وأبعاداً متنوّعة:

- قال تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ في‏ ضَلالٍ مُبينٍ)[11]، فمع وضوح أنَّ الأنبياء (عليهم السلام) قاطعون بكونهم على حقٍّ مطلق، والطرف الآخر على باطلٍ مطلق، ولكن مع ذلك جرى الحوار بلغةٍ حياديةٍ منصفة، كي يتم الاحتكام إلى الأدلة بدون تشنّجٍ عاطفي من الطرف الآخر.

- قال تعالى: (ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ)[12]، فإذا كان (سبيل الله)، وهو الحقّ المطلق، تجب الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فما بالك بعالم السياسة والآراء السياسية التي هي في أفضل الظروف ظنونٌ معتبرة!

- وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ)[13]، والغريب هو أن الأمر في الآية الكريمة كان بالدفع بالتي هي أحسن، لا بالحسن، فكيف بالدفع بالسيئ؟ ثم كيف بالدفع بالتي هي أسوأ؟ وهما – أي السيئ والأسوأ – ما اعتاد عليه الكثير من الناس!

- وقال تعالى في موقفٍ أغرب، عن هابيل: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَني‏ ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمينَ)[14].

فرغم أنَّه يريد قتله بظلمٍ مُسلَّم، والخصم، قابيل، أيضاً عالمٌ بأنَّه جائرٌ ظالم، إلا أنَّ هابيل رفض أن ينزل إلى مستواه[15]، ويقابله الإساءة، حتى بالمقابلة بالمثل، رغم أنَّ له حقّ الدفاع عن النفس.

وورد في دعاء مكارم الأخلاق: (وَسَدِّدْنِي لِأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ)[16].

وهذه قمة الأخلاق الفاضلة التي يدعو إليها أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا اغتابك، وتكلم ضدك في المحافل والمجالس، فإن عليك أن تدعو الله كي يُسَدِّدك، لكي تنشر فضائله بين الناس وتكتم رذائله، على العكس مما يفعله خصمك تماماً، إذ (كل إناءٍ بالذي فيه ينضح).

فهكذا يجب أن يكون موقف كل حزب، أو سياسي، أو مرشح، أو جماعته، من الأطراف الأخرى، مهما اختلفوا في الرأي والموقف.

يهرّج ضد المرجع لكن المرجع يؤكّد عدالته!

وقد نقل عن أحد مراجع التقليد أنه كان أحد مقلديه يُصلِّي خلف إمام جماعة، وكان ذلك الإمام يغتاب مرجع التقليد ويتهمه بتُهم شتّى.. فجاء المقلِّد سائلاً المرجع: هل تجوز لي الصلاة خلفه؟ لأنه فاسق نظراً لارتكابه الكبيرة بل الكبائر؟.

فأجاب المرجع بكل هدوء وسموّ خُلُق: نعم، صلِّ خلفه.

ولمـّا سأله: كيف؟ أليس فاسقاً؟

قال: لا.

قال: كيف؟

أجاب المرجع: لأنني أَحمل فعله على الصحة، وأقول: إنّه قاطعٌ أو ظانٌّ ظنّاً معتبراً لديه بأنني منحرف أو مبتدع، ولذلك يرى وظيفته الشرعية أن يغتابني، ويقع فيّ حسب صحيحة داود بن سرحان!..

لاحظوا هذا الموقف المذهل، والذي أنتج، بعد فترة، أن تَنَبَّه إمام الجماعة إلى خطئه، فجاء إلى المرجع معتذراً نادماً، (حيث أخبره ذلك المأموم بما جرى، فهزّ ذلك الموقف السامي ضميره بشدة، وقرّر أن يبدأ تحقيقاً عن ذلك المرجع، بعيداً عمّا توارث سماعه من المحيطين به).

ولنضرب مثلين لطيفين لكيفية التعامل مع الخلافات والاختلافات أحدهما عن الاختلاف الفقهي، والآخر عن الخلاف العقائدي:

الخلاف الفقهي رغم عمقه، لا يبعث على التوتر والصراع

الأول: أنَّ بعض الفقهاء يرى أنَّ الـ15 رضعة هي المـُحرِّمة، والتي تجعل الطفلة الأجنبية الرضيعة، بشرائط الرضاع، أختاً للمرتضع معها – مثلاً – بينما ذهب بعضهم إلى أنَّ عشر رضعات هي المحرِّمة.

فلو كانت هذه الفتاة قد ارتضعت معه 12 رضعة – مثلاً – وكانا يُقَلِّدان من يقول بالمحرّمية عند بلوغ الرضعات 15، فإنه إذا تزوجها، فهل للطرف الآخر، المقلِّد لمن يرى أنها أخته من الرضاعة لأنه يرى أنَّ الـ10 رضعات محرّمة، هل له أن يُهرِّج ضده بأنه تزوج أخته، وأن الزواج بالأخت من أعظم المحرمات...؟ كلا ليس له التهريج وألف كلا.

وبعبارة جامعة: إننا نقول بفتح باب الاجتهاد، فكل آراء المجتهدين الجامعين للشرائط يجب أن تكون محترمة، لأنها بين حكمٍ واقعيٍّ وظاهريّ.

نعم، لكل طرف أن يروّج لما يعتقده ويدافع عنه، ولكن الكلام هو: بدون تسقيط الطرف الآخر أو تخوينه.

قصة الخلاف بين عالمين من أكبر علمائنا قبل ألف سنة!

الثاني: وهي حادثةٌ عبَرَت حاجز الزمن، ووصلت إلينا مخترقةً أكثر من ألف ومائة وخمسين عامًا، لكنها لا تزال تدوي كعِبرة من أعظم عِبَر التاريخ، وهي أنَّ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري اتخذ موقفاً حادًّا جداً من أحمد بن محمد بن خالد البرقي، حتى إنّه طرده من الحوزة العلمية في قم، ونفاه من قم!

والقصة فيها دقائق هامة، وإجمالها:

من هو الأشعري؟

إنَّ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري كان من أصحاب الأئمة: الرضا، الجواد، الهادي (عليهم السلام). وقد عرّفه الشيخ الطوسي بـ: (شيخ القميين، ووجههم، وفقيههم)، وكان جدّه هو السائب بن مالك ممّن وفد على الرسول (صلى الله عليه وآله)، فابتدأت سلسلتهم في الإسلام بجده الأعلى.. وكان الأشعري راوياً مهماً، فلقد وقع في أسانيد (2290) رواية، (وحِفظ رواية واحدة مهم جداً، فكيف بحفظ هذا الكم الهائل؟!)

بل كان كل من أبيه محمد، وعيسى جده، وعمران عمه، وأولاد عمه: زكريا بن آدم، وزكريا بن إدريس، وآدم بن إسحاق وغيرهم، وجوه أجلة رواة الحديث مذكورون في الرجال[17]، وقد روى عنه رواة عظام كـ: علي بن إبراهيم القمي محمد بن يحيى العطار، محمد بن الحسن الصفار..

من هو البرقي؟

ب- وكان أحمد بن محمد بن خالد البرقي (الذي توفي 280 أو 274) أيضاً شخصية علمائية مهمة، وكان من أصحاب الإمام الجواد والإمام الهادي (عليهما السلام) وهو صاحب كتاب المحاسن الشهير الذي يروي عنه الكليني والطوسي وغيرهما وقد روى عن مائتي شخص كما نقل كتب أكثر من 100 شخص، كما روى 830 رواية.

وقد أثنى على أحمد بن محمد البرقي معظم العلماء، مثل النجاشي والشيخ الطوسي والعلامة الحلي، واعتبروه ثقة يعتمد على حديثه[18].

وقد ذكر الوحيد البهبهاني في كتاب الفوائد الرجالية رداً على من ضعّف البرقي بسبب روايته عن الضعفاء، وقال بأن وثاقة البرقي مما لا شك فيها، وروايته عن الضعفاء تدل على خطأ منهجه في الحديث لا على عدم وثاقته[19]، كما يعتقد ابن الغضائري أيضاً بأن تضعيف القميين لأحمد بن محمد البرقي يتعلق بأولئك الذين روى أحمد الأحاديث عنهم وليس نفسه[20].

وقال المجلسي: إلى جانب هذا الكتاب (المحاسن) ألف البرقي ثلاثة وتسعين كتاباً آخر فيفنون العلوم وأسماء هذه الكتب موجودة في فهارس أصحاب الرجال)[21].

وكانت أسرة البرقي أسرة جهاد إذ ان يوسف بن عمر – والي العراق كان قد حبس جد البرقي بعد قضية زيد الشهيد ثم قتله، فهرب أحمد بن محمد بن خالد البرقي مع أبيه وهو صغير إلى منطقة برقة في قم ولبث فيها.

قال الشيخ النجاشي: (كان ثقة في نفسه)[22].

۲ـ قال الشيخ الطوسي: (كان ثقة في نفسه)[23].

۳ـ قال العلّامة الحلّي: (كوفي، ثقة، غير أنّه كثير الرواية عن الضعفاء، واعتمد المراسيل)[24].

بداية الخلاف.. وتطوره.. والنتيجة الغريبة

والشاهد ان خلافاً رجاليا – عقائدياً نشب بين هذين العَلَمين، حيث أنّ البرقي كان، كما سبق، يكثر الرواية (أو كان يروي) عن الضعفاء وذلك من وجهة نظر الأشعري خطأ فادح منهجي لا يغتفر إذ كيف يؤخذ دين الله تعالى (وهو أعز من كل شيء) من الضعفاء؟

أقول: وللبرقي أيضاً عذره ولعله كان يعتمدها نظراً لشواهد مضمونية أو لاعتضادها بغيرها أو كان يرى ضرورة أن ينقل التراث كما ينقله المجلسي في البحار ولا يلغيه حسب اجتهاده، وانه أمين في النقل وعلى المجتهد الذي تصله الرواية التحقيق والتوثيق أو التضعيف بحسب مبناه.

وعلى أي فحيث قطع الأشعري أو اطمأنّ بخطورة منهج البرقي وحيث كان الأشعري هو أكبر علماء قم وكان السلطان يزوره، لذا أصدر أمراً بإخراج البرقي من قم!

وقد أدّت روايته عن الرواة الضعفاء واستناده على الأحاديث المرسلة إلى قيام أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري شيخ المحدثين بنفيه من قم[25].

وموطن الشاهد هو ان هذا الموقف العنيف كان خاطئاً إذ أن اختلاف الاجتهادات مهما كان خطيراً وفي الشأن العقائدي (فكيف بالشأن السياسي– الأهون) لا يعالج بالعنف بل بالحوار وعلى مبنى فتح باب الاجتهاد.

وعلى أي اكتشف الاشعري بعد فترةٍ انه كان مخطئاً في موقفه العنيف، لذلك وككل شهم غيور أعلن خطأه واعتذر للبرقي علناً وأعاده إلى قم.. ثم لما توفي البرقي بعد فترة خرج في جنازة البرقي حافي القدمين وحاسر الرأس بدون عمامة كي يصحح موقفه[26].

قال العلامة في الخلاصة، القسم الأول، الباب 7، من فصل الهمزة (7): (قال ابن الغضائري: طعن عليه القميون، وليس الطعن فيه، إنما الطعن في من يروي عنه، فإنه كان لا يبالي عمن يأخذ، على طريقة أهل الأخبار، وكان أحمد ابن عيسى أبعده عن قم، ثم أعاده إليها واعتذر إليه، وقال: وجدت كتابا في وساطة بين أحمد بن محمد بن عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد، لما توفي مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافيا، حاسرا، ليبرئ نفسه مما قذفه به)[27].

وهكذا نجد أنّ الأشعري مشى في جنازة البرقي حافياً حاسراً ندماً على موقفه العنيف منه وهي ظاهرة نادرة لا يُعمل بها إلا لدى الفجائع الكبرى: ان يخلع أعلم علماء الحوزة عمامته ويمشي حاسراً وحافياً في جنازة شخص ما؟

فهذه عبرة لنا: مهما اختلفنا مع الآخر، الذي يعتقد بأمر حسب حجة شرعية بينه وبين ربه، وإن كنا لا نجدها حجة شرعية، بل حتى لو اختلفنا مع الآخر العالم بخطئه، فإن علينا انتهاج منهج (ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ) كما فصّلنا ذلك في كتاب (قولوا للناس حسناً ولا تسبوا).

والجدير ذكره ان ما مضى من كلام ابن الغضائري (وجدت كتاباً في وساطة بين الأشعري والبرقي) يلفت النظر جداً إلى أهمية فتح قنوات حوار بين الطرفين المختلفين ومحورية دور الوسطاء حيث أدت الوساطة إلى رأب الصدع وإصلاح الأمر تماماً بل لو أنها أدت إلى إصلاح نسبي فهو حسن أيضاً دون شك.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

........................................................

[1] سورة آل عمران: 14.

[2] سورة هود: 61.

[3] سورة البقرة: 201.

[4] سورة الأعراف: 32.

[5] سورة العنكبوت: 1-3.

[6] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص136.

[7] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص297.

[8] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص107.

[9] أي لا يمكنك الوفاء بتلك الايمان، والدخول في أعمال هؤلاء بغير ارتكاب ظلم محال، فتناول السماء بيدك ايسر ممّا عزمت عليه.( آت)

[10] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص108.

[11] سورة سبأ: 24.

[12] سورة النحل: 125.

[13] سورة فصلت: 34-35.

[14] سورة المائدة: 28.

[15] ولعل المقصود أن يقتله مسبقاً كضربة استباقية.

[16] الصحيفة السجادية: دعاء مكارم الأخلاق.

[17] الأسترابادي، منهج المقال، ج 2، ص 192.

[18] النجاشي، الرجال، 1416هـ، ص76؛ الشيخ الطوسي، الفهرست، 1417هـ، ص62؛ العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، 1417هـ، ص63.

[19] الوحيد البهبهاني، الفوائد الرجالية، ص43.

[20] ابن الغضائري، الرجال، 1422هـ، ص39.

[21] المجلسي، شرح الفقيه، 1414هـ، ج1، ص 193.

[22] رجال النجاشي: ۷۶ رقم۱۸۲.

[23] الفهرست: 62 رقم 45.

[24] خلاصة الأقوال: 63.

[25] الشيخ الطوسي، الفهرست، 1417هـ، ص62؛ العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، 1417هـ، ص63؛ العلامة الحلي، الرجال، 1402هـ، ص14، ش7؛ فرشجيان، رواد التشيع، 1384ش، ص104.

[26] الشيخ الطوسي، الفهرست، 1417هـ، ص62؛ العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، 1417هـ، ص63؛ العلامة الحلي، الرجال، 1402هـ، ص14، ش7؛ فرشجيان، رواد التشيع، 1384ش، ص104.

[27] العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، ج1 ص63.

اضف تعليق