هم تجار، يتسترون بشعارات الإيمان والتصدق والإخلاص، ليستغلوا أطيب ما في المؤمنين البسطاء، وإنما المعيب أن يفقد الجواب في عالم يضج بالمتخمين. فما دام في العالم فقير واحد، محروم من ذلك الجواب؛ فالناس كلهم فقراء الضمير. يكشف عن النزق الحاكم على تصرفات المسرف، لأنه ممارسة بلا جدوى...
المبذرون: من هم؟
((إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا)).الإسراء: 27
((إن المبذرين)) – من أقدم العصور – ((كانوا)) – ولا يزالون – يمثلون قمة الانحراف، على مستوى واحد مع الشياطين. فهم ((إخوان الشياطين))، لا أعوانهم، ولا أتباعهم. لأنهم يشاطرون الشياطين، خطف العقائد الصادقة من أفكار البسطاء المؤمنين.
فمن هم المبذرون؟
هل هم المترفون الذين يرشون الأموال على أهوائهم وملذاتهم؟
كلا... لأنهم منضوحون، يأكلون ويتمتعون كالأنعام. فهم أذناب الشياطين، وربما يأتون في الدرجة الأخيرة من أذناب الشياطين، ومهما توغلوا في الترف، أصبحوا أخف في قبضة الشياطين، إلى أدنى المستويات في التقييم الشيطاني. ولن يرتفعوا –بأي حال من الأحوال– إلى مستوى إخوان الشياطين أو أعوانهم. وهم –في أسوأ الحالات– فساق لا كفار، فلا وجه للتذكير بأن الشيطان كفور.
فمن هم –إذن– المبذرون الذين هم إخوان الشياطين؟
إنهم –من باب المصداق لا الحصر– المحسنون الذين ينفقون أموالهم بسخاء، ولكنهم لا ينفقونها حيث يرضى الله والضمير، وإنما ينفقونها حيث يمكنهم استثمارها في الوقت المناسب. فهم كالزارع، الذي ينثر البذور في الأرض المناسبة في وقت معين وبشكل مدروس، ليحصدها –بعد حين– أضعافاً مضاعفة. بفارق: أن دور الزارع واحد في السر والعلن، وهؤلاء يمارسون دوراً مختلفاً عن الدور الذي يتبرقعون به.
فهم تجار، يتسترون بشعارات الإيمان والتصدق والإخلاص، ليستغلوا أطيب ما في المؤمنين البسطاء، وهو الإيمان والصدق والإخلاص.
فهؤلاء... هم إخوان الشياطين، في انحرافهم والتوائهم. ((و)) إذا ((كان الشيطان لربه كفوراً))، لا يكتفي بكفره وإنما يدفع الآخرين إلى الكفر؛ فهؤلاء – أيضاً –يؤدون ذات الدور، فهم كفار– في نوعية عملهم – وإن أعلنوا الإسلام، ولا يكتفون بكفرهم، وإنما يجرُّون الآخرين –وراءهم- إلى ممارسة الكفر تحت غطاء أفضل شعارات الإسلام.
لعل ما ندعوه (إحساناً) ليس سوى تصفية حساب بين دائن ومدين.
فالإحسان يبقى في طراوة وهجه، ما دام ينتزع من نفوس المستضعفين شعورهم بالضعف، ولا يستبدله بشعور أن حياتهم هبة من المحسنين. وينقلب فضيلة جرباء، إذا رافقه شعور المدل بفضله على المدل عليه.
أن يفقد ولد والديه – أحدهما أو كليهما – ليس بالأمر الغريب، وإنما الغريب أن يفقد عطف الأبوة والأمومة في أرض تعج بالآباء والأمهات. فما دام في الأرض يتيم واحد، محروم من ذلك العطف؛ فالناس كلهم يتامى الإنسانية.
أن يشكو عجوز نقصاً في ضروراته فليس بمعيب، وهو نموذج كبير – بمقتضى تنقلات الحياة – وإنما المعيب أن يفقد الجواب في عالم يضج بالمتخمين. فما دام في العالم فقير واحد، محروم من ذلك الجواب؛ فالناس كلهم فقراء الضمير.
أن ينزف جريح على الرصيف، ولا تمتد إليه يد نجدة أو إسعاف؛ فعزاؤه مسل فيمن استنزفتهم الدروب قبله. وإنما النزيف الذي لا علاج له، أن يتم ذلك في دنيا يفجر فيها العاطلون الثورات. فما دام جريح واحد ينزف، فالدنيا كلها تنزف.
أن يترسب في القاع مسكين فليس بعجيب، فالحياة صراع يسقط فيه الكثير. وإنما العجيب أن يتخلى عنه المجتمع –، فيكتب بخط أسود –: (المجتمع، مسكين).
الإسراف والمسرف
((وكذلك: نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) طه: 127
(الإسراف) هو إهدار الشيء، واستهلاكه بدون استيفاء الفائدة المعتادة منه. والإسراف –ذاته– يكشف عن النزق الحاكم على تصرفات المسرف، لأنه ممارسة بلا جدوى. وكل ممارسة بلا جدوى، محاولة لملء فراغ –في النفس– بغير المضمون المناسب له. وهذه المحاولة، من النزق الذي: يكرهه كل فرد في الآخر، ويستحبه في نفسه.
والإسراف أقسام:
1- الإسراف في المواد الكونية التي ليست تحت حيازة أحد. كإتلاف: النباتات البرية، والمياه، والمعادن، والحيوانات الوحشية...
2- الإسراف في مال الغير – سواء كان بعلمه وموافقته، أو بدون علمه، أو بدون موافقته ـ كإتلاف الأشياء النقدية أو العينية، الداخلة في حيازة الغير.
3- الإسراف في مال المسرف نفسه. كإتلاف الإنسان بعض الأشياء النقدية أو العينية، الداخلة في حيازته.
4- الإسراف في نفس المسرف نفسه. كإتلاف الإنسان بعض أعضائه أو طاقاته؛ ببتر إصبع من أصابعه، أو تعطيل سامعته...
وإذا أردنا تقويم الإسراف، فلا بد من النظر فيما يلي:
1- الحد الذي يميز الإسراف، يبتدئ بالقليل والتافه الذي يملك ولا يمول. وهو كل ما يمكن الاستفادة منه بشكل من الأشكال، وإن لم يكن باستطاعته الاستفادة منه، ففي الحديث: (إلقاء النواة، وثمالة الإناء ولو على الشاطئ؛ من الإسراف)(3).
فكل شيء موجود؛ وجد بحكمة، واتخذ مساره برسالة. وفي مقياس الكون، كل موجود عضو في الكون وله رسالته؛ مهما كان في تقييمنا. لأن تقييمنا ناتج عن حاجتنا، وحاجاتنا –أو عدم حاجاتنا– إلى شيء، لا يغير شيئاً من واقعه. وأما الكون: فهو بحاجة إلى جميع أشيائه، وهو أعرف باستهلاك ما يستغني عنه.
2- لا يشترط في تحقق الإسراف أن يكون كل ما تعمله نزقاً، فإعطاء أي شيء أكثر مما يناسبه إسراف: فالأكل أكثر مما يحتاج إليه الجسم، إسراف في المادة التي تأكلها، وفي جسمك الذي تحمله أكثر من طاقته. وإعطاء الوقت لأصدقائك وأسرتك وعملك... أكثر مما ينبغي، إسراف في القسم الزائد منه.
3- كل الأقسام الأربعة من الإسراف، تتساوى في المسؤولية، وتختلف في التعبير عن درجة النزق: فالإسراف في المباحات التي ليست تحت حيازة أحد، قد يكون أقل نزقاً من الإسراف في مال الغير. وهو أقل نزقاً من الإسراف في مال نفسه، وإن كان الإسراف في مال الغير يؤدي إلى الضمان.
4- بما أن المسرف يحاول أن يملأ فراغاً يلح عليه ويعذبه، فالإسراف –في منطق المسرف– عمل مشروع لسد حاجة يشعر باستبدادها به. ولكن هذا... منطق يلزم أن يدرس قبل أن يصبح منطلقاً لعمل، لاحتوائه على مغالطة، نابعة من تصور صحية جميع الفراغات التي يشعر بها الإنسان. وهذا... خطأ، للأسباب التالية:
الأول: إن الإنسان – بمقتضى تركيبته الأرضية – يشعر بفراغات توسعية، لا يمكنه الاسترسال معها. فلا مطامع الإنسان تتوقف عند حدود هذه الحياة، ولا رغباته قابلة للاستجابة بإمكانات هذه الحياة. فلا بد من ترويض أكثر مطامحه ورغباته، حتى يتخلص من التخبط في المستحيل.
الثاني: إن الإنسان يعاني من فراغات مرضية، لا يصح الاعتراف بها، أو السماح لها بالتحرك: كحب الاستئثار، والاستعلاء... وغريزة الغضب، والجشع... وهذه الغرائز، كفيلة بإخراج الفرد من نطاق حقوقه إلى حقوق الآخرين، وهذا التجاوز، يجعل من يمارسه مجرماً هداماً، يلزم تحديد نشاطه بالعقاب. فلا بد – قبل التفكير في التجاوب مع الفراغات – من معرفة ما: إذا كانت صحية، يلزم التجاوب معها. أو مرضية، يلزم معالجتها.
الثالث: فإذا كانت الفراغات صحية، فلا بد –قبل التجاوب معها– من دراسة الجواب المناسب لها: فإذا شعر بالجوع فليس الصحيح أن يأكل إلا بعد معرفة الغذاء الصحي. وإذا شعر بالجنس، فلا يجوز أن يمارس إلا بعد تحديد المورد المشروع.
5- إن المسرف، وإن شاء أن يبقى منفلتاً: لا يعترف بالحقوق الكونية والإنسانية، ولا يؤمن بالله والأديان والآخرة، ولا يبالي برد الفعل، ويجحد قدرة الآخرين على الاقتصاص منه؛ فهنالك حد لا يستطيع تجاوزه إلا بالجنون المطبق، وهو حد نفسه.
فرأسمال كل الرساميل للإنسان، هو نفسه، أي: جسمه، مقترناً بمواهبه وسنوات عمره. فإذا أسرف في شيء من أعضاء جسمه، أو في شيء من طاقاته، أو أسرف في بعض مواهبه، أو في بعض عمره؛ فهذا الإسراف ينعكس –سلبياً– عليه فوراً، بشكل يرفض الجحود واللامبالاة.
فأبشع أقسام الإسراف، هو الإسراف على النفس. ولذلك: ركَّز القرآن –في تحذيره من الإسراف– على هذا القسم، لأنه لا يقبل أي جدال.
وارتكاب المحرمات – من الإسراف على النفس. فما من حرام إلا ويؤدي إلى ضرر في جسم الإنسان أو مواهبه أو عمره، بالإضافة إلى: أن الحرام ينعكس على واقعه الإنساني، فيصاب بالمسخ الكامل، أو بالتشويه في جانب منه. وإن لم يظهر عليه المسخ والتشويه في الدنيا، لكرامة أمة النبي الأكرم (ص) على الله، فإنهما سيظهران عليه في الآخرة.
أما المسخ الكامل، فتدل عليه نصوص كثيرة تقول: بأن صفات الإنسان تنعكس عليه في الآخرة:
فإذا كانت صفاته حسنة تلائم إنسانيته، انعكست عليه مواثفات كريمة في الآخرة، فحشر عملاقاً ضخماً قوياً، جميلاً طيب الرائحة، له نور يسبقه أينما يتجه.
وإن كانت صفاته سيئة، انعكست عليه مواصفات قبيحة، فحشر قزماً هزيلاً، بشع المنظر، نتن الرائحة.
((يوم ينفخ في الصور، ونحشر المجرمين – يومئذ – زرقاً)) طه: 102، ((قال: رب! لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا))؟! ((قال: كذلك، أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك، اليوم تنسى)) طه: 125–126...
وإذا كان متخلقاً بأخلاق حيوانات، حشر عليها: فحشر أحدهم كلبً، والآخر خنزيراً، والثالث ذئباً، والرابع قرداً. (البحار – ج 7 – باب صفة المحشر – ص 89)...
اضف تعليق