q
إسلاميات - القرآن الكريم

ظواهر الشخصية المنافقة

من كتاب خواطري عن القرآن

والشخصية المنافقة، هي الشخصية المتفجرة التي فرغ القرآن كثيراً من آياته للتحذير منها، وحملها مسؤولية تفجير أكثر التناقضات في مختلف تشكيلات المجتمع: ابتداءً من التشكيلة ـ العائلة، وانتهاءً بالتشكيلة ـ الدولة أو الأمة. وإذا كانت عناصر الخير ـ جميعاً ـ تعمل لتلحيم الوحدات البشرية، وتنفيس...

(ومن الناس..يعمهون)
(سورة البقرة: 8 ـ 15)

بعد أن أوضحت الآيات السابقة: دعائم الشخصية المؤمنة، وملامح الشخصية الكافرة؛ تنصرف هذه الآيات إلى الكشف عن ظواهر الشخصية المنافقة.

والشخصية المنافقة، هي الشخصية المتفجرة التي فرغ القرآن كثيراً من آياته للتحذير منها، وحملها مسؤولية تفجير أكثر التناقضات في مختلف تشكيلات المجتمع: ابتداءً من التشكيلة ـ العائلة، وانتهاءً بالتشكيلة ـ الدولة أو الأمة.

وإذا كانت عناصر الخير ـ جميعاً ـ تعمل لتلحيم الوحدات البشرية، وتنفيس أزماتها وتوتراتها؛ فإن عنصر المنافق، هو العنصر الوحيد الذي يقاومها جميعاً، ويعمل لتفكيك الوحدات البشرية، وإشعال أزماتها وتوتراتها.

لذلك: سلط القرآن على شخصية المنافق أضواءه، من خلال هذه المجموعة من الآيات، في صدر أوسع سورة وثاني سورة في التنظيم، فكشف عن ظواهر خمس:ـ

الأولى: ازدواجية الشخصية

فللمنافق شخصيتان: شخصية إيجابية معلنة، وشخصية سلبية متسترة. ويحاول التعامل بشخصيته المعلنة مع الإيجابيين، كما يحاول التعامل بشخصيته المتسترة مع السلبيين، ويشكل الفريق الثالث بين الفريقين.

(و) الفريق الثالث (من الناس)، هو:

(من يقول: آمنا بالله، وباليوم الآخر). والإيمان بالله هو الأصل الأول في مثلث العقائد، والإيمان باليوم الآخر هو الأصل الثالث فيه، فمن آمن بهما فقد آمن بالنبوة التي يبني عليها الإيمان بالآخرة. ومعنى هذه المقولة، أنه مؤمن قد استوفى أصول الدين الثلاثة.

(و) رغم هذه المقولة الوافية، (ما هم بمؤمنين) سورة البقرة: آية 8، وإنما ينطوون على واقع كافر لا يؤمن بشيء مما يقولون.

هذا الفريق الذي لا يتطابق لسانه وقلبه، يحاول التعامل ـ بلسانه ـ مع جبهة المؤمنين الذين تمحضوا للإيمان، وفي نفس الوقت يحاول التعامل ـ بقلبه ـ مع جبهة الكافرين الذين تجردوا للكفر.

الثانية: سلطوية الشخصية

فالمنافق الذي يوجه لسانه إلى اتجاه، ويوجه قلبه إلى اتجاه؛ لا يحاول تأمين نفسه مع الاتجاه الذي سينتصر في نهاية الجولة فحسب، كالجاسوس المزدوج الذي يرقص على حبلين ليعيش في ظل انتصار كيفما انتهت المعركة؛ وإنما يحاول السيطرة على الجانبين معاً:

(... يريدون: أن يأمنوكم، ويؤمنوا قومهم...) سورة النساء: آية 91. وهذه.. نقطة الخطأ والخطر:

نقطة الخطأ. لأن الذي يسود فئة من الناس، لا بد أن يكون أخلصهم وأقواهم، فكيف يمكن أن يسود فرد فئة من الناس، بمجرد لسانه، أو بمجرد قلبه؟! إنما يبقى بينهما أشبه بطائر يجد سربين من الطير، يطيران في اتجاهين معاكسين، فيحاول أن يطير مع هذا السرب بجناح ومع ذلك السرب بجناح.

ونقطة الخطر. لأنه يربك الجانبين بمشيته المتذبذبة، ويضيع نفسه واتجاهه بينهما، ما لم ينكشف. فإذا انكشف، فله السقوط المحتوم. فهو في خطر على الجانبين، ولكن خطره على نفسه أكبر، لأنه داخل في صراع خفي مع جانبين متناقضين، كل جانب يحاول امتصاصه وهو يحاول امتصاصهما:

(يخادعون: الله، والذين آمنوا): جبهة المؤمنين تحاول خداع المنافقين عن هدفهم، بصهرهم في الخط الإيماني. والمنافقون يحاولون خداع جبهة المؤمنين، باستغلالها في مآربهم الخاصة.

ولكن المنافقين هم الخاسرون في هذا الصراع: لأن المنافق يعطي.. ويعطي.. حتى يثبت وجوده. ثم يعطي.. ويعطي.. حتى يثبت تفوقه. ثم يعطي.. ويعطي.. حتى يغطي نفاقه. وفي كل هذه العطاءات، يخسر بأمل السيطرة في نهاية المطاف، وهو أمل موهوم، لأن فرداً ـ بمجرد لسانه، أو بمجرد قلبه ـ لا يسيطر على جبهة واعية مضحية:

(وما يخدعون إلا أنفسهم) بأمل السيطرة الموهوم، (وما يشعرون) سورة البقرة: آية 9. بأنهم يخسرون كل ما يعطون، لأنهم يخطؤون في تقييم أنفسهم. فالمنافق ـ عادة ـ يقيم نفسه بأكثر مما هو، فيراهن على ذكائه وبلادة الآخرين، ولا يتصور إمكانية أن يكون في الآخرين من هو أذكى منه.

فسلطوية الشخصية المعتمدة على عقدة العظمة، نوع من الانحراف الفكري، الذي يصاب به بعض الناس نتيجة لأسباب نفسية واجتماعية. وهذا الانحراف هو الذي يدفعهم إلى مغامرة النفاق:

(في قلوبهم مرض). فالانحراف مرض: فإذا كان في النفس كان مرضاً نفسياً، وإذا كان في الجسم كان مرضاً جسمياً، والمنافق مريض نفسياً. ولو أن المنافقين تنبهوا إلى هذا المرض، وحاولوا علاجه، لبرئوا منه، ولكنهم يبررونه، ويمارسونه. وممارسة أية طاقة في الإنسان، تؤصلها وتنميها:

(فزادهم الله مرضاً) بمقتضى السنن التي أجرى عليها الكون والإنسان، ومن جملتها الحيوية التي جعلها في الإنسان لتنمية كل طاقة يمارسها.

ومهما حاول المنافق تبرير مرضه، فلن يستطيع تبرير معاناته من المرض، فكذبه في القول والعمل ينعكس في داخله تمزقاً شديداً، فلا يخلو بنفسه إلا وتحطم أعصابه صرخات الألم في أعماقه: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) سورة البقرة: آية 10.

الثالثة: عقدة الإصلاح

فالشخصية المنافقة تصاب بعقدة الإصلاح، نتيجة لمحاولة استقطاب خطين متناقضين، وتصوره أنه الأقوى، فيعتقد أنه المصلح، ولا يشعر بأنه عنصر الفساد.

ذلك: أن الكون مبني على الاستقامة، وكل شيءٍ فيه سائر في خطه الواحد، نحو هدفه الواحد، فالفساد لا يحدث في الكون من قبل أي عنصر من عناصره، لأن الكون معصوم بكل جزئياته ومجموعاته: (.. فقال.. طائعين) سورة فصلت: آية 11. وإنما يأتي الفساد من قبل الإنسان، الذي قد يشذ عن خطه المرسوم، فيصطدم بنفسه أو بغيره، ويعرقل جانباً من مسيرة الحياة.

وإذا حدث ذلك الصدام، فلا يستطيع تطويقه وإزالة آثاره، إلا إنسان يكون ـ بنفسه ـ منسجماً مع الكون، وذا صلاحية للتغيير، حتى يقوم بدور الدركي، الذي يطلق السبيل للمستقيم ويضع حداً للمخالف.

وأما المخالف ذاته، فلا يستطيع تطويق أي صدام، لأنه ـ بنفسه ـ مخالف، ولأنه لا يملك الصلاحية التي تؤهله لذلك. فمهما حاول وأخلص، فلن يزيد الأمر إلا تعقيداً، لأن عليه ـ أولاً ـ أن يبتعد عن الطريق.

(وإذا قيل لهم): أيها المنافقون! أنتم تعرقلون المسيرة، فابتعدوا عن الطريق، و(لا تفسدوا في الأرض) بسلوككم المتناقض، (قالوا): نحن ـ هنا ـ لتنظيم الآخرين، و(إنما نحن مصلحون) سورة البقرة: آية 11، لو تخلينا عن دورنا لتناقض الناس، وحدث ما لا يمكن التكهن بنتائجه.

ويتدخل الحكم الأعلى ليعلن: أن المنافقين هم عنصر الفساد، (ألا إنهم هم المفسدون) الوحيدون، الذين يسببون كل التناقضات، (ولكن لا يشعرون) سورة البقرة: آية 12، بواقعهم. لأنهم فقدوا مقاييسهم، على أثر الممارسات الخاطئة التي درجوا عليها، حتى أصابتهم بالانهيار الفكري، فلا يملكون التفكير السليم.

الرابعة: عقدة العظمة

فالمنافق حيث يبني حياته على التمويه والتدليس، ويغرر به بعض الناس في الجبهتين اللتين يصانعهما، أو لا يغررون به ولكن لا يجابهونه بواقعه؛ يظن أن الناس ـ جميعاً ـ سفهاء، وأنه الذكي المتألق الذي يطوق الآخرين. فإذا طرحت عليه الأعمال الإيجابية، رآها متواضعة، على الناس أن يعتصروا فيها أعصابهم وأفكارهم، وله أن يجمع فائض جهودهم. تماماً.. كاللص الذي يربأ عن استثمار جهده ووقته، وإنما يترك الآخرين يكدحون، ليخطف حصيلة سنوات بقفزة واحدة. وإذا كان من فارق بين اللص والمنافق، فهو: أن اللص يحصد ثمرات الجهد والعرق من شخص أو من أشخاص، والمنافق يحصد ثمرات المواقف والدماء من شعب أو من أمة.

(وإذا قيل لهم) أيها المنافقون! (آمنوا) بالحقائق والقيم التي تتلخص في الإيمان بالله، (كما آمن الناس) بها، واتخذوا معهم المواقف السليمة، ولا تعيشوا على الخداع والتضليل؛ (قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟!) الذين لا يحسنون تصريف شؤونهم؛ فيضحون بمباهج الحياة في سبيل المبادىء والقيم، ونحن الأذكياء الجديرون بالحياة، ننعم بخيراتها دون أن نضحي بشيء.

ومرة أخرى، يتدخل الحكم الأعلى، ليعلن: أن المنافقين هم المتطفلون، الذين لا يحسنون الوقوف على أقدامهم، فيتسكعون الحياة بدماء غيرهم، (ألا إنهم هم السفهاء) الذين لا يتولون أمورهم، ولا بد أن يعيشوا تحت وصاية القادرين على الحياة، (ولكن) المنافقين، لتمرسهم في النفاق، فقدوا قوة التمييز، فـ(لا يعلمون) سورة البقرة: آية 13، أن المستغلين الجشعين هم السفهاء، وأن الطامحين المضحين هم الأذكياء. فالحياة: تتمسك بالضمر المتعبين من أبنائها، وتحتفظ بهم ـ حتى بعد موتهم ـ فكراً ينير العقول والقلوب. وتقذف المتخمين في مجاهل النسيان، كما تنفض الأمواج الأجسام المنتفخة على حساب البحر. ووهج المصير، لمن يستبق قدرات الحياة، وليس لمن يزيف وهج الحياة.

الخامسة: تملقية الشخصية

فالمنافقون حيث يتصلون بالفريقين المتناقضين، ويحاولون الاتصال بكل فريق في غياب الفريق الآخر؛ يشكك فيهم الفريقان معاً، فلا يعترف بهم هذا الفريق ولا ذاك. فيصابون بأزمة ثقة حادة، ويبذلون قصارى جهودهم في التودد إلى هذا.. وذاك.. دون جدوى، ولا يتوغلون في التودد إلا ويتوغل الفريقان في الحذر. وقد يأخذ الفريقان منهم موقف المتربص، للتخلص منهم:

(وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا)، لأن المؤمنين يشكون في أصل إيمانهم.

(وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ)، لأن الكفار ـ أيضاً ـ يشكون في أصل كفرهم نتيجة لاتصالهم بالمؤمنين. ويأتي دور التبرير: (إنما نحن) في اتصالنا بالمؤمنين، (مستهزئون) سورة البقرة: آية 14، نحاول كشفهم وتقصي أخبارهم.

وهذا الاعتذار لا يرضي الكفار؛ لأنهم لم يوكلوهم بالتجسس على المؤمنين، ويغضب المؤمنين؛ لأنه يضعهم أمام جواسيس. فيأتي الرد غاضباً: (الله) ـ مباشرة ـ (يستهزىء بهم)، فيكشفهم، ويقصي أخبارهم، ويكفي المؤمنين مؤونة القيام بهذا الدور، لخطورته وصعوبته.

وعندما يتولى الله الرد، لا يعاملهم بالمثل، فلا يكتفي بكشفهم وفضحهم، ليلاقوا عقابهم وينتهوا. وإنما يكشفهم لنبيه، ليأخذ حذره منهم، ويتركهم تحت المراقبة، يجهدون ويكدحون عشوائياً، دونما طائل: (ويمدهم) بعدم إعلان كشفهم، (في طغيانهم) وخروجهم على القيم الإنسانية، (يعمهون) سورة البقرة: آية 15: يتخبطون.

و(العمه) هو الارتباك، الذي هو أسوأ من العمى، فالأعمى يستطيع أن يفكر تفكيراً سليماً، ويتوصل إلى بعض النتائج المرضية، وأما الأعمه فهو الذي فقد أعصابه، فلا يقدر على التفكير السليم.

1ـ ويلاحظ: في هذه الآيات ـ وفي آيات أخر ـ أن الله يدخل نفسه في جبهة المؤمنين، فيعتبر نفسه طرفاً معهم:

(يخادعون الله، والذين آمنوا) سورة البقرة: آية 9، أو يقف هو طرفاً دونهم: (الله يستهزىء بهم) سورة البقرة: آية 15، لأن الله ولي المؤمنين: (الله ولي الذين آمنوا..) سورة البقرة: آية 357، فمن المتوقع أن يحميهم، وأن يدافع عنهم: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا..) سورة الحج: آية 38.

2ـ إن الآيات تذكر مخادعة المنافقين لجبهة الإيمان، واستهزاءهم بها، ولا تذكر مخادعتهم لجبهة الكفر، واستهزاءهم بها. لأن موقف المنافقين من الجبهتين واحد، فإذا عرف موقفهم من إحداهما، عرف موقفهم من الأخرى. ولأن القرآن يعني ببيان وجهة نظر المؤمنين، ولا يعني ببيان وجهة نظر الكافرين.

اضف تعليق