q
إسلاميات - القرآن الكريم

المسلم والمتأسلم

من كتاب خواطري عن القرآن

الذي يريد الدين وسيلة للدنيا، لا هدفاً من الدنيا: فإذا رأى الدين مكسباً يشتري به عواطف الناس، أو يخطب ودهم واحترامهم، سارع إليه، مهما كلفه الأمر. وإذا وجد شيئاً من الدين لا يؤدي إلى الشهرة، ولا يكسب وجاهة، أعرض عنه، مهما كان بسيطاً. وهذا النمط...

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَ رَأَيْتَ: الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ فَذلِكَ: الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ: الَّذِينَ هُمْ ـ عَنْ صَلاتِهِمْ ـ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ). سورة الماعون

... وبعد أن قربت ـ يا محمّد! ومن وراءك المسلمون ـ من نهاية القرآن، لا بد أن نعرفك على المصدق بالدين تصديقاً واقعياً، وعلى المكذب بالدين تكذيباً واقعياً. فأمامك الآن جماهير المسلمين: كلها تردد أصداءك، وكلها تنفذ أقوالك. ولكنهم لا يقفون موقفاً واحداً أمام الدين.

فهنالك: من ملكه الدين، فهو يتصرف به في خطه.

وهناك: من اتخذ الدين ليتصرف به في مصلحته، فهو يلتزم إذا كان لحسابه، ولا يلتزم به إذا كان على حسابه، فلا يأخذ بالدين كله، وإنما يأخذ ببعضه ويترك بعضه، فيما الدين كل لا يتبعض: فإما أن يؤخذ به كله، وإما أن يترك كله. والذي يأخذ ببعضه دون بعض، مكذب به، وليس مصدقاً له.

(أَ رَأَيْتَ) يا محمّد ـ ومن خلالك المسلمون ـ أ رأيت: (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) تكذيباً عملياً، مهما كانت تظاهراته وادعاءاته؟! أتريد أن تراه؟ سنريك نماذج منه، (فَذلِكَ الَّذِي) يكذب بالدين أقسام:

1ـ الذي يقبل الدين شعارات وعبادات: فيصلي، ويصوم، ويحج... ولكن إذا وصل أمر الدين إلى دفع المال، لا يقبله، فهو بخيل بمعروفه. وإذا أمر بإيواء اليتيم وتكفله، لا يؤويه، ولا يكفله، وإذا سعى إليه اليتيم طالباً منه حقه، لا يدفعه إليه، بل (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) دعّاً، فيدفعه على عقبيه دفعاً قوياً.

2ـ الذي لا يبخل بمعروفه فحسب، وإنما يبخل بمعروف الآخرين، فلا يشجع غيره على إطعام المساكين. بل إذا ذكر المساكين عنده، بخل الآخرين عليهم، فذكر: كذبهم، وغناهم، وما يقزز عنهم... حتى لا ينفقوا عليهم، خشية أن ينفق الآخرون فيعذبه ضميره، أو يعذبه مجتمعه، فيعتبره متخلفاً عن الخير، ويضطر إلى الإنفاق. فلا يكتفي بامتناعه هو عن إطعام المساكين، (وَ) إنما (لا يَحُضُّ) غيره (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

وهذان النموذجان يقفان في صف واحد: فهما يقبلان الدين صلاة، ويرفضانه زكاة.

3ـ الذي يقبل الدين ترفاً كمالياً، ولا يقبله ضرورة حياتية. فهو يريده تسلية تريح ضميره من كابوس الحياة كلما شعر بالإرهاق، ولا يريده نظاماً إلزامياً يقطع عمله كلما حان وقته. وهذا النمط من المتدينين، لهم ويل من دينه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ: الَّذِينَ هُمْ ـ عَنْ صَلاتِهِمْ ـ ساهُونَ) فهم من المصلين، ولا يترددون في الإيمان بالصلاة، وفي أي إيمان يسبق الإيمان بالصلاة، ولا يتركون الصلاة تركاً كلياً، وإنما لا يلتزمون بها، ويعتبرونها من الثانويات التي لا تستأثر باهتمامهم، فيسهون عنها كثيراً، ككل شيءٍ لم يهتم به الإنسان.

4ـ الذي يريد الدين وسيلة للدنيا، لا هدفاً من الدنيا: فإذا رأى الدين مكسباً يشتري به عواطف الناس، أو يخطب ودهم واحترامهم، سارع إليه، مهما كلفه الأمر. وإذا وجد شيئاً من الدين لا يؤدي إلى الشهرة، ولا يكسب وجاهة، أعرض عنه، مهما كان بسيطاً. وهذا النمط من الناس مراؤون، الذي يعملون للناس لا لله: (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) بخيراتهم، فيعملون الكثير... الكثير... إذا وجدوه متجراً، (وَ) إذا لم يجدوه متجراً (يَمْنَعُونَ الْماعُونَ) عن جارهم إذا طلبه موقتاً، للاستعانة على حاجته البيتية.

وهذان النموذجان يقفان في صف واحد: فهما يقبلانه ترفاً ومربحاً، ويرفضانه نظاماً جاداً.

وهذه النماذج الأربعة ـ كلها ـ تكذب بالدين. فالدين: نظام متكامل لا تبعيض فيه، ونظام جادّ لا يمكن إهماله أو الاتجار به.

فالذي يريد الدين عملاً آخروياً يكذب بالدين، والذي يريد الدين عملاً دنيوياً يكذب بالدين. فلا آخرة على حساب الدنيا، ولا دنيا على حساب الآخرة.

المراؤون أيضاً

الذين يراؤون، لا يتحركون بطاقة الإيمان في اتجاه الله. وإنما يمغنطهم إغراء، فيتحركون نحو مصدره، فهم يتكسبون بالعمل ـ الذي يشبه العمل الديني في هيكله، لا في جوهره ـ فلهم ما اكتسبوا به من الدنيا التي تحركوا إليها، لا الآخرة لأنهم لم يتحركوا نحوها. وربما اكتسبوا إثماً، لأنهم خدعوا الرأي العام بعملهم المزيف، فابتزوا منه ما تحركوا نحوه. وتبسيطاً: يمكن اختصار الفرق بين من يعرض بضاعة خالصة ومن يعرض بضاعة مزيفة، فالأول يستوفي ثمنه حقاً والثاني يطارده العقاب.

والمراؤون ـ دائماً ـ لا يتحركون بطاقاتهم الداخلية، وإنما يتحركون بطاقات غيرهم، حتى تموت طاقاتهم مع التوغل في الرياء، فيكسلون في السر عما ينشطون له في العلن.

وضرب القرآن مثلاً من أبرع المرائِين، فهم: الذين يراؤون بالمثاليات في هندسة تصرفاتهم، وإذا وصلوا إلى الجد، تنكبوا عن أدنى الأعمال، حتى يمنعون الماعون عن جارهم، الذي يطلب التعاون في أبسط شؤونه البيتية.

اضف تعليق