الإمام الذي نجده دائماً، يُعلّم ويَعِظ ويوحي وينهى ويطالب أنصاره والناس الآخرين، الإلتزام بمبادئ السلوك السوي العادل السليم. فالإنسان العاقل يبتعد دائما ً عن الطرق المنحرفة، سالكا ً الطريق المستقيم، رافضا ً مغريات الدنيا، متبصرا ً طريقه، كما أن للسيرة العادلة، المستقيمة، تبعات وعاقبة غاية في الأهمية، ذكرها الإمام...
مقدمــــة
سلوك الإنسان وتصرفاته، تعني سيرة الإنسان، ميوله، تفكيره، ومجمل أفعاله التي يتجه بها إلى وجهة معينة، مُعبرة ً عن شتى جوانب طبعه الأخلاقي، منحصرة ً في جانبين أساسيين. جانب خير، حسن، ايجابي، وجانب شر، سيء، سلبي. ففي نهج البلاغة، نجد الإمام علي بن أبي طالب (ع) يدعو بقوة إلى ممارسة الجانب الأول، جانب الفضيلة والسلوك العادل، بإتباع الحق والصواب والاستقامة، والنزاهة والإخلاص، رافضا ً في الوقت ذاته الجانب الآخر، جانب الرذيلة، جانب الخداع والمكر والكذب والغش والسرقة والمصانعة والمداهنة والنفاق والرياء، ونكث العهد.
وقد وردت في نهج البلاغة، للإمام علي، دلالات عديدة لهذا الجانب الأخير، من أفعال تمثل السلوك والتصرفات غير السليمة للإنسان، الخاطئة، المنحرفة. كما تتضمن هذه الدلالات تحليلا ً عميقا ً لعواطف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، ووصفاً لعلاقات هذا الإنسان بالعالم المحيط به وبذاته أيضا ً. ويرتبط هذا السلوك وتلك التصرفات بمتطلبات هذا الإنسان وبمصالحه واهتماماته وأهدافه. لذلك سنبحث في هذه الدراسة عن قســـــم مــــن هذه الأفعال،
وهي: سياسة التغاضي عن الأخطاء والانحرافات، والتخاذل عن نصرة الحق، واستغلال الحق للتمويه والخداع، واستخدام مقاييس غير دقيقة للحكم على قضية معينة، والمواقف الحيادية بين الحق والباطل، واعتماد وسائل غير نبيلة لتحقيق المكاسب والغايات.
إن الشيء الذي دفعنا للبحث بهذه الموضوعات، هو الواقع المؤلم الذي تعاني منه كثير من المجتمعات، بسبب هذه الأفعال غير الأخلاقية، لأن هذه الخصال المنحرفة والسلوكيات الخاطئة لازالت متأصلة في بعض النفوس، وتعيد نفسها باستمرار، لكننا سنبدأ بتوضيح مصادر سلوك الإنسان وتصرفاته.
مصادر سلوك الإنسان
من المعروف، أن سلوك الإنسان وتصرفاته الأخلاقية، ليست جميعها بالقضايا التي تولد معه، وإنما هناك أشياء يكتسبها من البيئة مع مرور الزمن، بخاصة في المراحل الأولى للنضوج العقلي للإنسان. لذلك يركز الإمام على هذه المراحل التي تتقبل الخير والشر، قبل أن يشب هذا الإنسان ويقسو قلبه، إذ يقول في وصيته لولده الحسن: "وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية: ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبُك، ويشتغل لبك"(1). وعلى هذا الأساس، يتعلم الإنسان أن هناك أشياء مباحة يمكن عملها، وأخرى محظورة عليه الامتناع عنها، ومن ثم يحدد ما هو صحيح، وما هو خاطىء، وما هو حق وما هو باطل، وما هو الواجب اتجاه الاخرين، واتجاه نفسه.
ويربط الإمام، ربطا ً قويا ً بين دور التربية، وبين طبيعة سلوك الإنسان وتصرفاته، لذا يقوم بعملية مماثلة رائعة بين سلوك الإنسان، وبين النبات وما يثمره. فكما أن النبات يحتاج إلى غذاء من مياه وتربة، وهذه متنوعة، التي سينجم عنها بالضرورة ثمرا ً متنوعا ً حلوا ً ومرا ً، فإن الإنسان كذلك، ما يحصل عليه من تربية وتعليم، صالحا ً أو طالحا ً سيؤثر ذلك على سلوكه وأفعاله: "واعلم أن لكل عمل نباتا ً، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة، فما طاب سقيه، طاب غرسه، وحلت ثمرته، وما خَبُث سقيه، خَبُث غرسه، وأمَرَّت ثمرته"(2).
ثم يبين لنا أبو الحسن العلاقة بين سلوك الإنسان وإيمانه، فالعلاقة بين السلوك، طيبُه وسيئُه، وبين الإيمان، ودرجة صدقه، علاقة وثيقة، متبادلة، فكل منهما يدل على الآخر، فإذا كان الإيمان صادقا ً، خالصا ً لله، فالأعمال صالحة، وإذا كانت الأعمال صالحة مقربة لله، فإن الإيمان يكون صادقا ً لله، كما يبين ذلك الإمام عند مخاطبته أهل البصرة: "فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الإيمان"(3).
1. سياسة الخضوع والتغاضي عن الأخطاء
مِن القضايا التي أشار لها أمير المؤمنين عليه السلام، هي تلك الخصال التي يتمتع بها قسم من الناس، وتتركز في التساهل مع أهل الانحرافات والظلم، والتغاضي عن مساوئهم ومسايرتهم، فضلا ً عن مناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم. لذلك يبين الإمام أن الراضي بفعل المنكر من الناس
يصبح منهم فيقول:" الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل أثمان: أثم العمل به، وأثم الرضى به " (4). وعلى هذا الأساس نجد أمير المؤمنين يتعجب ويستغرب من أولئك الذين يرضون بمعصية الله:" فيا عجباً... يعصى الله وترضون"(5). وقد شخص الإمام تشخيصا ً دقيقا ً، مسألة تمكّن الظلمة والمنحرفين من السيطرة على رقاب الناس، حين ربطها بقضية السكوت والرضا عن المنكر والاستسلام للظلمة فيقول: "وقد تروْن عهود الله منقوضة فلا تغضبون... فمكنتم الظلمة من منزلتكم وألقيتم أزمتكم واسلمتم أمور الله في أيديهم". الزمام: مقود الدابة. والمعنى: تركتم بيد أعدائكم زمام البلاد والعباد. وأخليتم لهم الدار(6).
إذن نستخلص من كلام الإمام أن التهرب من مقاومة الشر والإنحراف، إنما يعني الوقوف موضوعيا ً إلى جانبه والمساهمة في توطيد مواقعه. ثم يتحول الإمام إلى الأسباب التي تمنع الإنسان من تنبيه الآخر على خطئه وانحرافه، فيذكر أحد الأسباب في ذلك، وهو خوف هذا الإنسان من أن ينبهه الآخر على خطأ عنده مثله، عند ذلك تبقى الأخطاء والانحرافات متأصلة في المجتمع فيقول: "وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله"(7).
لقد كانت مجمل هذه العوامل، هي من ضمن أسباب ضعف الأمة وانكسارها، كما بين الإمام، لكنه ذكر عاملين أساسيين. الأول شيوع البغضاء والحقد والتدابر بين النفوس، والآخر هو التهاون والتخاذل في نصرة المظلومين. لذلك يحذر الإمام ذلك في خطبة القاصعة بقوله: "واجتنبوا كل أمر ٍ كسر فقرتهم، وأوهن مُنتهم: من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي ". كسر فقرتهم: ظهورهم. وأوهن: أضعف. ومُنتهم: قوتهم. وتخاذل الأيدي: عن نصرة بعضهم البعض(8). إذن يــحــذر الإمـــام من سيــادة ثــقــافـــة الخضــوع والسكــوت والتســاهل عن الانحــرافات، وسياسة عدم المبالاة والسلبية والانهزامية والاتكالية، واستقلال كل فرد بوزره، والتهرب من كشف الأخطاء، وشيوع النزعة الأنانية. إن هذه المواقف تعني عمليا ً، عدم المبالاة بالآخرين المظلومين، وتجاهل ما يصيبهم من مكروه. هذه المواقف هي التي تُفقد المجتمع روابطه الإنسانية من محبة وتعاون وتضحية. كما يساعد في الوقت ذاته على انتشار الظلم والانحراف واستبداد الحاكم الظالم وبقائه.
2. التخاذل عن نصرة الحق
ذكرنا في الفقرة السابقة، كيف أن الإمام بين لنا آثار التغاضي عن الأخطاء والانحرافات والتساهل في محاربة الباطل، لكننا في هذه الفقرة سنركز عن موضوع آخر ذي صلة، هو التخاذل عن نصرة الحق، أسبابه ونتائجه. إن التخاذل عن نصرة الحق يعني ترك العمل بمنهج الصدق والعدالة المستنبط من الأحكام الإلهية التي تنظم العلاقات الاجتماعية وتغطي شتى ميادين حياة البشر. ويعني التخاذل أيضا ً إضاعة الحقوق والتوقف عن نصرة المظلومين.
أسباب التخاذل عن نصرة الحق
ولكن يبقى السؤال، هنا، هو لماذا يتخاذل الإنسان عن نصرة الحق، وامتناعه اتخاذ موقف حازم اتجاه الباطل والتزييف والتزوير والمنكر. ومن الأسباب التي تدعو للتخاذل عن نصرة الحق، هي الالتباس بين الحق والباطل، والبحث عن مصلحة الانسان فقط.
(أ) الالتباس بين الحق والباطل
أحد الأسباب الرئيسية التي ذكرها الإمام، هي ادعاء قسم من الناس بصعوبة التمييز بين الحق والباطل، نتيجة الالتباس بينهما. لاشك أن معرفة الحق والصواب، عملية ليست يسيرة، في بعض الأحيان، لأنها تتطلب فحصا ً دقيقا ً ومعيارا ً صائبا ً لإظهارهما وكشف خباياهما، بخاصة إذا اختلط الحق بالباطل، سواء عن قصد او دون قصد. وعلى هذا الأساس يتطلب الأمر تمحيصا ً وتحليلا ً عميقا ً لكشف الحق من بين الباطل، كما يذكر ذلك الإمام: "فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه"، وأيضا ً: "ولا يدرك الحق إلا بالجد" (9). ثم يبين الإمام كيف تتم عملية الخلط المقصودة، بين الحق والباطل. فأهل الباطل يخلطون باطلهم بشيء من الحق للتمويه على الناس. وأيضا ً يلحقون بالحق شيئا ً من الأباطيل، فيقول: "فلو أن الباطل خَلصَ من مِزاج الحق، لم يَخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خَلَصَ من لبْس ِ الباطل، لانقطعت عنه ألْسُن المعاندين. ولكن يؤخذ من هذا ضِغث، ومن هذا ضِغْث فيمزجان، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى". المرتادين: الطالبين للحقيقة. أي لو كان الحـق خالصـــا ً مــن ممازجة الباطل ومشـــابهته لكان ظاهراً لا يخلــو على مَن طلبه. الضغث: قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس. يريد أنه إن أخذ الحق من وجه لم يعدم شبيها ً له من الباطل يلتبس به. وإن نظر إلى الباطل لاح كأن عليه صورة الحق فاشتبه به، فذلك ضغث الحق وهذا ضغث الباطل(10).
ثم أوضح أمير المؤمنين، ما يحدث في الرعية، حين يحتجب الولاة عنهم، وهو اختلاط الحق بالباطل: "فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق... فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير... ويشاب الحقُّ بالباطل"(11). إذن الغاية الأساسية من عملية الالتباس هي حَرْف الحق عن مساره. والأمر لا يقف عند الالتباس بين الحق والباطل، وإنما يتعداه إلى إثارة الجدل المفتعل والحوار الذي يلبسون فيه الحق بالباطل، أو الباطل بالحق، تشكيكا ً للناس في أمرها. وربما يلحقون الأذى بالداعين للحق وينزلون الضرر بهم، صرفا ً لهم عن الدعوة للحقيقة.
(ب) البحث عن المصلحة فقط
كثيرا ً ما يرتبط الحق ارتباطا ً وثيقا ً بالمصالح الحيوية للإنسان، وليس الإنسان المنفرد وحده، وإنما الجماعات الكبيرة. لذلك نجد الكثير من الناس يقفون ضد الحق حينما يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وغاياتهم. ومعيار الحق يصبح عندهم، أن يحقق مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية. أما حين يحقق المصالح العامة للمجتمع، على حساب مصالحهم، فذلك أمر مرفوض. إذن على قدر معارضة الحق للمصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية يكون الموقف من الحق. لذلك فهم يرفضون الحقيقة مهما تكن، حتى وإن كانت هندسية صائبة، كما في القول التهكمي: "لو مسّت المسلمات الهندسية (12) مصالح الناس لرفضوها" (13). لذلك نجد كيف يصف الإمام، عبدين متناقضين من عباد الله، طبقا ً لموقفهما من الحق، فيقول: "عباد الله! إن من أحب عباد الله إليه، عبدا ً أعانه الله على نفسه... يصف الحق ويعمل به... وآخر قد تسمى عالما ً وليس به... قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه..". أي أن العبد الثاني يحمل الحق على رغباته (14).
نتائج مهلكة للتخاذل عن نصرة الحق
من النتائج المؤلمة لترك العمل بالحق ونصرته هي الهلاك والضعف وتمكين الظلمة من التحكم والاستقواء على أولئك الذين يتركون الحق، لهذا فإن سكوت صاحب الحق المنهوب سرعان ما يجعل الناهب صاحب حق في الاعتداء. والقاعدة... هي أنه حينما فرّط إنسان في حقه ظهر لذلك الحق طاغية يستبد به (15). وكلمات الإمام واضحة في هذا المضمار، فهو يقول مَن ترك الحق وأدار له وجهه فقد هلك فيقول: "من أبدى صفحته للحق هلك" (16). ومن نتائج التخاذل، أيضا ً، تمكّن الأعداء وسيطرتهم على المتخاذلين، فيقول الإمام: "أيها الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق. ولم تهنوا عن توهن الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ مَن قوي عليكم، لكنكم تهتم متاه بني اسرائيل، ولعمري، ليضعفن لكم التيه، من بعدي، أضعافا ً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم"(17).
وكذلك من الممكن أن يهلك الذين منعوا الحق وساروا على نهج الضلال، إذ يقول الإمام مخاطبا ً أمراء الجند: "أما بعد فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه ". أي حجبوا عن الناس حقهم فاضطر الناس لشـــراء الحـــق منهم بالرشــوة، فانقلبت الدولة عن أولئك المانعين فهلكوا... وكلفوهم بإتيان الباطل وصار قدوة يتبعها الأبناء بعد الآباء (18).
أضف إلى ذلك، أن الإمام يؤكد أن الذي يبقى ضعيفا ً، مقصرا ً فحقوقه حتما ً ستضيع فيقول: "من أطاع التواني ضيّع الحقوق"(19). والتواني: التقصير والفتور. ويبين الإمام مفارقة غريبة، وهي أن النفوس المختلفة، المشتتة، تنفر من الحق، فيقول أيضاً:" أيتها النفوس المختلفة والقلوب المشتتة... أظاركم على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد". أظاركم: أعطفكم (أكرهكم). وعوعة الأسد: صوته (120). والإمام يميز بين التنازل عن الحق، وبين تأخير الحق لفترة معينة، لأسباب خاصة، وهذا ليس عيبا ً، وإنما العيب هو الذي يسلب حق غيره: "لا يُعاب المرء بتأخير حقه إنما يعاب من أخذ ما ليس له"(21).
3. استغلال الحق للتمويه والخداع
من أخطر القضايا التي ترتبط بموضوع الحق، هو استغلاله لتمويه الآخرين وخداعهم وغشهم والتغرير بهم. لذا يقول الإمام عند وصفه للمنافقين: "قد أعدوا لكل حق باطلا ً". من أجل التمويه والخداع(22).
والحقيقة، أن مَنْ يقوم بذلك، يمكن أن يكون أحد أصناف ثلاثة. الصنف الأول، هو إنسان جاهل تنقصه كثير من المعارف والعلوم، إذ لا يمكنه تمييز الحق من الباطل. لذلك فهو يعتقد أن رأيه صحيح، طبقا ً لحساباته واستنتاجاته، وينطبق عليه القول: "إن رأي كل إنسان صحيح بالنسبة إليه"(23). والخوارج أفضل مثال على هذا الصنف، حين رفعوا شعارهم الذي ينادي "لا حكم إلا لله"، في معركة صفين، الذي ردّ الإمام عليهم بقوله: "كلمة حق يُراد بها باطل" (24). بمعنى أن الشعار، صائب من الناحية النظرية الظاهرية، ولكنه من الناحية العملية يُراد منه الخروج عن طاعة الإمام وعصيان أوامره، وتفسير هذا الشعار حسب معرفتهم الناقصة. هذا العصيان الذي يدل على جهلهم وقلة خبرتهم، الذي كلف الأمة الكثير من المصائب والانحرافات، وغيرت مجرى التاريخ فســـاروا نحـو الخطأ والظلالة.
الصنف الثاني، يكون الإنسان، بهذه الحالة، عارفاً بالحق وأهله، وقادراً على تشخيص الباطل، غير أنه يمتلك من المقدرة والدهاءً في استعمال أساليب ملتوية لقلب الحقائق لصالحه، وجعل الحق باطلاً والباطل حقاً. إذن هو الذي يعرف الحق معرفة تامة، ولكنه لا يسير على نهجة لتعارضه مع مصالحه. اتضح ذلك في خطبة الإمام عند وصفه قريش، وما فعلوا ضده في موضوع الخلافة: "ألا أن فـــــــــــــي الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه". أي أنهم اعترفوا بفضله، وأنه أجدرهم بالقيام به، ففي الحق أن يأخذه، ثم لما اختار المقدم في الشورى غيره، عقدوا له الأمر، وقالوا للإمام: "في الحق أن تتركه" فتناقض حكمهم، كما يقول محمد عبده في شرحه كتاب نهج البلاغة، بالحَقيّة في القضيتين، ولا يكون الحق في الأخذ إلا لمن توفرت فيه شروطه (25). أما الصنف الثالث، هو عندما يكون الإنسان خبيراً، عالماً بوصف الحق نظرياً، لكنه لا يطبقه فعلياً، فهو الذي يتفوه بالحق ويبين محاسنه نظريا ً، ولو ملك الأمر لسار على نهج الحق، ولكنه يتضايق عند العمل به وتطبيقه. لذا يوضح لنا الإمام هذه القضية بقوله: "فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف"(26).
4. استخدام مقاييس غير دقيقة للحكم على الحـــق
من أخطر القضايا التي ترتبط بموضوع الحكم على حدث ما، على أنه حقاً أم باطلاً، هي استخدام مقاييس غير دقيقة للفصل في ذلك، ومن ثم استغلال هذه المقاييس واستخدام شتى الأساليب لإخفاء الحقيقة، أو خلطها بالباطل، من أجل تمويه الآخرين وخداعهم وغشهم والتغرير بهم، بخاصة أولئك الذين لا نضج لهم ولا حصانة أخلاقية لديهم. ومع أن معرفة الحق من الباطل ليست معقدة على ذوي الألباب، فأن مصطلحي الحق والباطل، غالباً ما يختلفان في المضمون من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى زمان، ومن شخص إلى آخر أيضاً. على سبيل المثال يسمّي قسمٌ من الناس موضوع رغباته وطموحاته حقاً وصواباً ينبغي الدفاع عنها، وموضوع كراهيته ونفوره باطلاً وشراً، يتعين محاربته وفضحه. على هذا الأساس يتم تبرير كافة الأفعال والأعمال، التي من ضمنها التدخل بشؤون الآخرين، ذلك بالتستر بشعارات الدفاع عن النفس، وعن الحق. بمعنى أن مقياس الحق يصبح عندهم هو تلك الأداة التي تحقق مصالحهم ومنافعهم.
ومن المؤسف أننا نجد كثير من الأفراد والجماعات يسلكون سلوك التابع الذليل لأولئك الذين يقلبون الحقائق، خوفاً منهم أو رغبة للمحافظة على مصالحهم ووجودهم. كل ذلك يحدث لأن هناك من يستخدم ويعتمد على مقاييس غير دقيقة للحكم على حدث ما أو واقعة معينة، من حيث كونها حقاً أم باطلاً، ومن هذه المقاييس، نذكر ما جاء في نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام:
(أ) لا يمكن التعرف على الحق والباطل اعتمادا ًعلى طبيعة أنصارهما وسلوكهما، وإنما العكس من ذلك، فإنه بعد الاهتداء إلى معالم الحق والباطل، يمكننا الحكم على اتباعهما، كما يذكر ذلك أمير المؤمنين في القصار من كلماته: "إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه"(27).
(ب) إن مقياس الحكم على قضية ما سواء كانت حقا ً أم باطلا ً، لا يحكمها عدد أتباعها، إذ أن أنصار طريق الحق والهدى غالبا ً ما يكونون أقل عددا ً من أتباع الباطل، كما يوضح ذلك الإمام في النهي عن الاعوجاج: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله" (28)، هذا يعني أن تجميع أكبر عدد من الجماعات الذليلة الضعيفة نحو توجه معين، واستثمار حالات الكراهية والخوف والخجل لديهم، والاستئثار بعواطفهم، لا يعني بالضرورة أنهم على حق وصواب.
(ج) إن الحق والباطل، لا يحكمهما ثقل كل منهما على النفس، وما يُشق عليها من جهد، فالحق، غالبا ً ما يكون ثقيل، تكرهه النفس، أما الباطل فخفيف ترتاح النفس له، كما يقول أمير المؤمنين في القصار من كلماته: "إن الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء". مريء: أي هنيء حميد العاقبة. والحق وإن ثقل إلا أنه حميد العاقبة. والباطل وإن حق فهو وبيء وخيم العاقبة (29). وفي هذا الإطار يؤكد الإمام أيضا ً على أن أفضل الناس عند الله هو مَن انتهج طريق الحق وإن كلفه جهدا ً، فهو أحب إليه من سلوك طريق الضلال وإن جلب له مغنما ً: "إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق إليه، وإن نقصه وكرثه، من الباطل وإن جرّ إليه فائدة وزاده". كرثه: اشتد وصعب إليه (30). وأمام هذا الواقع الذي نراه ماثلاً أمامنا في زمننا الحالي، نجد في كثير من الحالات، أصحاب الحق الفعليين مشتتة قلوبهم، مختلفة نفوسهم، غلب عليهم الصمت، متخاذلين، تاركين الدفاع عن الحق ونصرته، والنتيجة هي تمكين الظلمة وأصحاب الظلالة من التحكم والاستقواء والاعتداء على كل من يخالفهم ويقف في طريقهم. لذلك ينبغي أن تكون الروح صلبة عند أصحاب الحق القائم على العقل والعدالة التي تتوافق مع التشريعات الإلهية، ورفض الاستجابة للأشرار بالخوف والخضوع لهم. وأخيراً لابد من التأكيد أنه لا يكفي إحراز الحقيقة والتعرف عليها فقط، إنما المهم الدفاع عنها أيضاً.
5. المواقف الحيادية بين الحق والباطل، مواقف انتهازية
لقد ذكرنا مسألة الذين لا يمكنهم التفريق بين الحق والباطل، فضلا ً عن أولئك الذين يتخاذلون عن نصرة الحق. غير أن ثمة فئة أخرى من الناس تتخذ موقفا ً غريبا ً بين الحق والباطل، فهم يستطيعون التعرف على الحق من الباطل، ولكنهم لا يرغبون أن يلتزموا بأي من هذين المسارين، لذا يلجأون إلى ما يسمى بالموقف الحيادي. والسبب في ذلك، يمكن أن يرجع لرغبتهم في المحافظة على مصالحهم ووجودهم. لكن هذا الموقف، هو موقف انتهازي غير أخلاقي، لأنه عمليا ً سيكون ضد أصحاب الحق، وتعود فائدته في النهاية لصالح الباطل. لأن التهرب من مقاومة الباطل وفضحه، إنما يعني الوقوف إلى جانبه. لذلك فإن هذا الموقف الانتهازي، قد أضعف الحق، وأضعف موقف الإمام عند خصومه، والتاريخ أثبت ذلك. هذا الموقف السلبي، تكرر أثناء قتال الإمام لمناوئيه، فهناك مَن لم يقف معه، ولم يكن مع مناوئيه، فقد اعتزلوا القتال فيقول عنهم: "خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل". بمعنى خذلوا الإمام ولم يعاونوا أهل الباطل... (31).
وعلى هذا الأساس يؤكد الإمام، ما ذهبنا إليه، وهو أن مَن لم يكن الهدى واتباع الحق دليله، الذي يهتدي به، جرّه الضلال إلى الهلاك كما يذكر الإمام:" ومن لم يستقم به الهدى، يجر به الضلال إلى الردى"(32). ومن المؤسف، أن الأحداث، تتكرر في وقتنا الراهن، إذ تشهد على ذلك مواقف معينة لقسم من الأفراد أو الجماعات، هو ذاته الموقف السلبي الحيادي الانتهازي في الصراع بين الحق والباطل، فتنأى بنفسها بعيدا ً، كي تكسب رضا طرفي النزاع. ومن خطورة هذا الموقف، هو مساواته بين الحق والباطل، وهو أمرٌ خاطئ وضار. فينبغي، إذن، أن تكون للإنسان جرأة في قول الحق، وأن يبحث عن مصلحة المجتمع، لا عن مصلحته ومصلحة جماعته فحسب.
6. اعتماد وسائل غير نبيلة لتحقيق الغايات المنشودة
إن اعتماد وسائل غير نبيلة، غير أخلاقية لتحقيق الأهداف المطلوبة، تُعد جزءاً من مقولة معروفة هي "الغاية تبرر الوسيلة". هذه المقولة الخطرة، الخاطئة، استعملها كثيرون في الماضي والحاضر، وستبقى ربما في المستقبل. وتنبع خطورة هذه المقولة أنها تجيز استعمال الوسائل استعمالا ً مطلقا ً، في ســبيل تحقيق هدف ٍ معين ٍ. بمعنى عدم الإكتراث بطابع الوســـائل الأخلاقي، كل شيء جائز، وحتى غير مرغوب فيه، إذا كان يؤدي إلى الهدف المنشود. فالكذب والغش والخداع والتآمر والخيانة والسرقة، جميعها من الوسائل غير الأخلاقية الممكنة، التي قد توصل إلى الغاية المطلوبة. وقد شخص الإمام هذه التصرفات وفضحها، وبين نتائجها وضررها، من خلال كتبه ووصاياه لأولاده وأنصاره وولاته وحتى لمناوئيه، الذين لا يتورعون باستعمال شتى الوسائل للوصول إلى غاياتهم وأهدافهم ومصالحهم الخاصة. ففي وصيته لولده الحسن يقول: "ولا تبع آخرتك بدنياك"(33). فالهدف هو الحصول على مغانم الدنيا، ولكن بوسائل غير أخلاقية، بالتنازل عن مبادئ الدين وبيع الآخرة. وفي هذه الوصية أيضا ً، يبين الإمام أنه لا فائدة من الخير الذي يناله الإنسان، وهو الهدف، بواسطة طرق الشر، وكذلك لا خير في اليسر الذي يناله الإنسان بالمذلة والرذائل فيقول: "وما خيرُ خير ٍ لا ينال إلا بشرّ ٍ، ويُسرٍ لا ينال إلا بعسرٍ"(34).
ومن وصاياه إلى ولاته، هي في عهده للأشتر لما ولّاه مصر، يطلب منه أن لا يكون سعيه لتثبيت سلطته عن طريق القتل والوسائل المحرمة، فإن ذلك يُذهب قوته ويضعفها ويزيلها فيقول: "فلا تُقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله"(35). وفي كتاب من أمير المؤمنين، إلى مصقلة بن جبيرة الشيباني، عامله على إحدى بلدان فارس، يوصيه أيضا ً بترك هدف الحصول على مكاسب في الدنيا بوسائل تنتقص من مبادئ الدين والتجاوز عليه، يقول فيه: "ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الأخسرين أعمالا ً" (36).
ومن عهده عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر، يحذره من أي عمل هدفه كسب رضا الناس، ولكن بوسائل تستوجب بها غضب الله تعالى: "ولا تُسخط الله برضى أحد ٍ من خلقه ِ"(37).
ومن كتاب للإمام إلى المنذر الجارود العبدي وقد خان في بعض ما ولّاه من أعماله، يؤنبه فيه على ما يقوم به، من أعمال غايتها اسعاد نفسه وعشيرته في الدنيا ولكن على حساب ترك مبادئ الدين والآخرة: "تعمّر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك"(38).
ومن كتاب له أيضا ً إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة يصف فيه سلوك بعض من الناس، هدفهم الدنيا وخيرها إذ يجعلون الدين وسيلة لما ينالون من مغانمها، فهم، مثلا ً، يطيعون الإنسان لأجل مصالحهم، ولكن عملهم هذا يؤدي إلى معصية الله تعالى فيقول: "يطيعون المخلوق في معصية الخالق، ويحتلبون الدنيا درّها بالدِّين، ويشترون عاجلها بآجل الأبرار والمتقين"(39).
ومن كلامـه لأنصاره، يقول الإمام لمّا عوتِب على التسوية في العطاء: "أتامروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه"(40). الإمام هنا يرد على الذين، يطالبونه بزيادة الأموال المخصصة لهم وتفضيلهم على الآخرين، فيقول لن أفعل ذلك، مقابل الحصول على تأييدكم ونصرتكم، وهو الهدف، بوسيلة غير سليمة وهي التجاوز على أموال المسلمين أظلمهم. وفي القصار من كلماته يؤكد الإمام أن وسائل الرذيلة لا توصل إلى الهدف المنشود: "ما ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الإثم به، والغالب بالشر مغلوب". والمراد: لم يكسب الجولة من كان الإثم وسيلته إليها، وطريقه للحصول عليها(41). أي إذا كانت الوسيلة لظفرك بخصمك ركوب إثم، واقتراف معصية، فإنك لم تظفر حيث ظفرت بك المعصية فألقت بك إلى النار، وعلى هذا قوله: "الغالب بالشر مغلوب"(42). ويبين الإمام أيضا ً نتائج استعمال الوسائل غير الأخلاقية للحصول على أمور الدنيا، فإنها ستكون أشد وأعظم ضررا ً: "لا يترك الناس شيئا ً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه"(43).
الوسائل غير الأخلاقية بحاجة إلى مساومة
غالباً ما يحتاج الذين يستخدمون الوسائل غير الأخلاقية إلى تبرير هذا الفعل من أجل تغطية سلوكهم المنافي للدين والشرع والأخلاق، فهم إذن بحاجة إلى وسيلة أخرى، وهذه الوسيلة تُدعى "المساومة"، وهي مرادفة إلى المداهنة والمصانعة والنفاق والرياء. لهذا فإن موضوع الوسائل والأهداف، يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع اسلوب "المساومة"، بخاصة المساومة السلبية، غير الأخلاقية، التي تتطلب من الفرد القيام بمقايضة مع آخرين. إذ يؤدي هذا الفرد، ما عليه من دعم أو نصرة أو مساندة أو نحوها للآخرين من أجل الحصول على منافع ومكاسب دنيوية. وتحدث هذه المساومات، غالبا ً، في الأوضاع النزاعية، وفي ظروف حرجة حاسمة، اضطرارية. وقد فضح الإمام، ما حصل من مساومات في زمانه، وبيّن مساوئها. وقد عاتب الإمام، الذين بايعوه من أجل الحصول على منافع دنيوية بقوله: "لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا ً. إني أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم". أي أريد منكم اتباع نهج الله والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وأنتم تريدوني أن أفضل بعضكم على بعض بالعطاء، وأرفع عنكم الجهاد(44).
لكننا نجد في المقابل، مواقف الإمام ثابتة في الصرامة في تطبيق أوامر الله ونواهيه على نفسه وعلى غيره. ففي كلام له في التبرؤ من الظلم يقول: "والله لأن أبيت على حسك السَّعدان مسهدا ً، وأجرّ في الأغلال مصفدا ً، أحب إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما ً لبعض العباد وغاصبا ً شيء من الحطام". الحسك: الشوك. والسعدان: نبت شوكي ترعاه الإبل. وسهد: أرق ولم يستطع النوم. وأجر في الأغلال مصفدا ً: في وثاق الأغلال والقيود(45). والإمام، كان صارما ً حتى مع أخيه عقيل، عندما طلب منه أن يعطيه شيئا ً من القمح، وقد افتقر أشد الفقر، فيقول: "فظن أني أبيعه ديني واتبع قياده مفارقا ً طريقتي"(46).
خاتمـــة
لابد لنا في الختام أن نشير إلى الغاية الأساسية لهذا البحث وهي دراسة سلوك الإنسان وتصرفاته، في ضوء نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب، وهدفنا كان البحث عن وسيلة لإصلاح وتقويم سلوك الفرد والمجتمع، لذلك جاءت فقرات هذا البحث، بالرغم من تداخلها في بعض الأحيان، منبثقة من كلام الإمام الذي نجده دائماً، يُعلّم ويَعِظ ويوحي وينهى ويطالب أنصاره والناس الآخرين، الإلتزام بمبادئ السلوك السوي العادل السليم. فالإنسان العاقل يبتعد دائما ً عن الطرق المنحرفة، سالكا ً الطريق المستقيم، رافضا ً مغريات الدنيا، متبصرا ً طريقه، كما أن للسيرة العادلة، المستقيمة، تبعات وعاقبة غاية في الأهمية، ذكرها الإمام، منها، الانتصار على الخصوم والمناوئين. كما ينجم عن السلوك المستقيم حصول المرء على الحياة الأبدية والعيش الهنيء والنعيم الدائم.
اضف تعليق