q
يعكس هذا مشكلة ذات نطاق أوسع في السياسة الخارجية التي تنهجها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو أن هناك تطابق ضعيف بين الإشارات التي ترسلها وما تستطيع تنفيذه لاحقًا. في بادئ ذي بدئ، غالبًا ما تبالغ الولايات المتحدة في التزاماتها في الاشتباكات العسكرية...
بقلم: جيفري فرانكل

كمبريدج- في الوقت الذي تحشد فيه روسيا قواتها على طول حدودها مع أوكرانيا، تتزايد المخاوف من حدوث غزو روسي. وحذرت الولايات المتحدة من أن روسيا ستدفع ثمناً باهظاً سيفرض أولاً وقبل كل شيء من خلال العقوبات الاقتصادية. ولكن الرئيس، جو بايدن، أعلن أيضًا أنه لن يرسل جنوده للدفاع عن أوكرانيا. وهذا هو النهج الصحيح.

فمن ناحية، قد يكون التهديد بفرض عقوبات اقتصادية، خاصة استبعاد روسيا من نظام المدفوعات الدولي SWIFT (سويفت)، وإلغاء خط أنابيب الغاز إلى ألمانيا Nord Stream 2 (نورد ستريم2)- كافياً لردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن ناحية أخرى، سيفقد أي تهديد بتدخل عسكري للولايات المتحدة وحلفائها مصداقيته- مما سيجعل بوتين يتحدى تهديدات الغرب.

ولكن إذا كان الأمريكيون والأوروبيون غير مستعدين لإرسال قوات إلى أوكرانيا، فلماذا وعد القادة الغربيون في عام 2008 أوكرانيا وجورجيا بعضوية مرتقبة في الناتو؟ وعلى أي حال، تنص المادة 5 من معاهدة شمال الأطلسي على أن أي هجوم مسلح على أحد حلفاء الناتو يعد هجومًا فعليًا ضدهم جميعًا. ومع ذلك، لم يكن أحد مستعدًا للدفاع عن جورجيا عندما قامت روسيا بغزوها في عام 2008، أو للدفاع عن أوكرانيا عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. كما لم يفعل الغرب أي شيء لمنع روسيا من احتلال منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا. وعلى ضوء هذه الخلفية، فإن الحديث عن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو لم يؤدي إلا إلى استفزاز بوتين، بينما يقوض مصداقية الغرب.

ويعكس هذا مشكلة ذات نطاق أوسع في السياسة الخارجية التي تنهجها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو أن هناك تطابق ضعيف بين الإشارات التي ترسلها وما تستطيع تنفيذه لاحقًا.

في بادئ ذي بدئ، غالبًا ما تبالغ الولايات المتحدة في التزاماتها في الاشتباكات العسكرية. إذ على سبيل المثال، أخفقت في تحقيق أهدافها في فيتنام وأفغانستان، وقررت في النهاية تقليص خسائرها. وأظهر الانهيار السريع للحكومات المدعومة من الولايات المتحدة في "سايغون" و"كابول" مدى ضآلة التقدم المحرز- مما ألحق ضررا كبيرا بسمعة أمريكا العالمية.

وهذا بالضبط ما كان يخشاه مستشار الأمن القومي آنذاك، هنري كيسنجر، في عام 1969، عندما أخبر الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، أن "الانسحاب المفاجئ" من فيتنام قد يخلق "مشكلة مصداقية". ولكن أمريكا فقدت مصداقيتها أكثر بكثير عندما سحبت قواتها بعد أربع سنوات، بعد أن أسفكت الدماء وأنفقت الكثير من الأموال. وفي كل من فيتنام وأفغانستان، كان ينبغي على الولايات المتحدة المغادرة على عُجالة- أو عدم التدخل إطلاقا.

إن التدخل الأمريكي في لبنان أفسده خطأ مشابه. إذ في آب (أغسطس) 1982، وصلت إلى هناك قوة متعددة الجنسيات، تضم مئات الجنود الأمريكيين بهدف الإشراف على انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من البلاد. وبحلول أوائل سبتمبر/أيلول، كانت تلك المهمة قد اكتملت، وكانت القوات الأمريكية قد غادرت.

ولكن مذبحة اللاجئين الفلسطينيين على أيدي مليشيات مسيحية أعادت القوات الغربية إلى لبنان، حيث بقيت لإتمام مهمة أخطر. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1983، قاد إرهابيون لبنانيون شاحنة مليئة بالمتفجرات إلى ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في بيروت، مما أسفر عن مقتل 241 عسكريًا أمريكيًا. (في غضون ذلك، أسفر هجوم منفصل عن مقتل 58 مظليًا فرنسيًا). وفي غضون أشهر بعد ذلك، سحبت الولايات المتحدة وحلفاؤها قواتهم.

ويقول البعض أنه كان من الخطأ الانسحاب لأن ذلك أرسل رسالة إلى أعداء أمريكا، مثل أسامة بن لادن، مفادها أن الولايات المتحدة كانت "نمرًا من ورق". وهذه هي العبرة السيئة. والواقع أنه كان ينبغي على الرئيس الأمريكي، رونالد ريغان، أن ينسحب بهدوء بمجرد اكتمال المهمة الأصلية. وعلى غرار كيسنجر، كان قلقًا من أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بمصداقية أمريكا. فحتى بعد التفجير، كرر تعهده بالإبقاء على القوات الأمريكية في لبنان. ولكن، كما حدث في فيتنام وأفغانستان، لم يؤد ذلك إلا إلى تفاقم الضرر الذي يلحق بالسمعة نتيجة الانسحاب في وقت لاحق.

إن الدرس واضح: يجب على الولايات المتحدة أن تضمن أن أي إعلان عن استعدادها لاستخدام القوة العسكرية يتوافق مع ما يمكن أن تقدمه بالفعل بصفتها القائد. وهذا يعني أكثر من عدم المبالغة في التزام المرء. كما أن النقصان في الالتزامات من شأنه أن يكون خطئاً استراتيجيًا. فعلى أي حال، يمكن أن يكون التهديد الموثوق به من قوة عسكرية مثل الولايات المتحدة بمثابة رادع قوي.

وأخفقت الولايات المتحدة، في بعض الأحيان، في الاستفادة من هذا الواقع. إذ في 12 يناير/كانون الثاني 1950، حدد وزير الخارجية، دين أتشسون، محيط الدفاع الأمريكي في آسيا، لكنه لم يشمل شبه الجزيرة الكورية. وبعد ستة أشهر، غزت كوريا الشمالية كوريا الجنوبية- واضطلعت الولايات المتحدة بقيادة الأمم المتحدة للدفاع عن البلاد. وأعادت تلك القيادة في نهاية المطاف الخط الفاصل بين شبه الجزيرة، ولكن ذلك حدث بعد ثلاث سنوات من القتال وسقوط أكثر من 1.7 مليون ضحية. ورغم أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان التهديد الموثوق بتدخل الولايات المتحدة سيجنب الغزو، يبدو من غير المحتمل أن هذا التهديد لم يكن ليؤثر على حسابات كوريا الشمالية.

والشيء نفسه ينطبق على قرار الرئيس العراقي، صدام حسين، بغزو الكويت في أغسطس/آب 1990. إذ قبل أيام قليلة من الغزو، وتجمُّع القوات العراقية بالفعل على الحدود، أرسلت الولايات المتحدة إشارات بأنها لن ترد عسكريًا.

ومن المؤكد أنه بعد ثلاثة أيام من الغزو، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب قائلا، " لن يصمد هذا الغزو". وفي يناير/ كانون الثاني 1991، بعد سلسلة من المفاوضات الفاشلة مع العراق، أوفت الولايات المتحدة بهذا التعهد، حيث قادت تحالفًا يضم 35 دولة في هجوم عسكري واسع النطاق دفع قوات صدام للخروج من الكويت في غضون أسابيع. ولكن لو تلقى صدام مزيدا من التحذيرات مسبقا، لربما امتنع عن إرسالها أصلا.

وحدث تدخل أمريكي ناجح تميز بالتماسك بين القول والفعل في عام 1999. إذ طالب الرئيس بيل كلينتون، زعيم يوغوسلافيا، سلوبودان ميلوسيفيتش، بسحب قوات الأمن الصربية من كوسوفو. وعندما رفض، شن حلف الناتو حملة قصف. فوافقت القوات الصربية على الانسحاب، وأجبر الشعب الصربي ميلوسيفيتش على ترك منصبه في العام التالي.

وخلال الحرب الباردة، رأى الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، فوائد في أن يُنظر إليه على أنه زعيم غير عقلاني ومتقلب، في محاولة لردع أي استفزازات. ولكن ما يسمى بنظرية الرجل المجنون لها حدود صارمة، خاصة بالنسبة لدولة مهيمنة وحلفائها. ومن المرجح أن يؤدي ضمان الاتساق بين الإشارات والإجراءات إلى ردع الصراع بوسائل ليس أقلها تعزيز المصداقية على المدى الطويل.

* جيفري فرانكل، أستاذ تكوين رأس المال والنمو بجامعة هارفارد، وشغل سابقا منصب عضوا في مجلس الرئيس بيل كلينتون للمستشارين الاقتصاديين، وهو باحث مشارك في المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق