q
أن الباحثين الذين يتجهون لاستخدامها لا ينبهرون فقط بجمال ما تلتقطه من صور، وإنما يُفاجَؤون أيضًا ببعض الأسرار التي تتكشف لهم بفضلها، مثل الحِيَل التي تستخدمها البكتيريا لإصابة الخلايا بالعدوى، أو دور البروتينات المتحورة في الأمراض العصبيّة التنكسيّة مثل مرض باركنسون...
بقلم: ديانا كوون

عام 2017، على مدار عدة أسابيع متتالية، جلست واندا كوكولسكي لفترات تشاهد دون انقطاع نوعًا غير معتاد من مقاطع الفيديو: مقاطع تُصوِّر باطن الخلايا. التُقطت هذه المقاطع باستخدام تقنيّة تُسَمَّى التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد (يُطلق عليها اختصارًا cryo-ET)، تسمحُ للباحث بمشاهدة البروتينات داخل الخلايا بدقَّة كبيرة. وفي مقاطع الفيديو هذه، أمكن لكوكولسكي رصد الكثير من الأمور المدهشة، مثل آليّات العمل الداخليّة للخلايا، وأقسامها المختلفة، بتفصيلٍ غير مسبوق. وتستحضر كوكولسكي، وهي عالِمة متخصصة في الكيمياء الحيويّة بجامعة بِرن بسويسرا، تلك الأيام، قائلة: "انبهرت بذلك الجمال والتعقيد، حتى إنني كنت أقضي أمسياتي أشاهد تلك المقاطع وكأنما أشاهد فيلمًا وثائقيًا".

في السنوات الأخيرة، بدأت تقنيات تصوير مثل التصوير المقطعي الإلكترونيّ بالتبريد تتطوَّر على نحو أتاح للعلماء رصد الجزيئات الحيوية في بيئاتها الأصليّة. وعلى عكس التقنيات القديمة، التي تُستخرج فيها بروتينات مفردة من بيئاتها لدراستها، فإن هذه التقنيات تتيح للعلماء رؤية شاملة للبروتينات والجزيئات الأخرى وللبيئة الخلوية ككلّ. بيد أن هذه التقنيات لا تخلو أيضًا من العيوب. فعلى سبيل المثال، يرى بعض الباحثين أن وضوح الصور الملتقطة بالتصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد منخفض إلى حد يصعِّب معه تبيُّن ما بهذه الصور بدرجة تيقن عالية. بيد أن هذه التقنية تزداد شهرة وانتشارًا وتطورًا. كما أن الباحثين الذين يتجهون لاستخدامها لا ينبهرون فقط بجمال ما تلتقطه من صور، وإنما يُفاجَؤون أيضًا ببعض الأسرار التي تتكشف لهم بفضلها، مثل الحِيَل التي تستخدمها البكتيريا لإصابة الخلايا بالعدوى، أو دور البروتينات المتحورة في الأمراض العصبيّة التنكسيّة مثل مرض باركنسون.

وتُعَدّ كل نظرة في المجهر فرصة جديدة لاكتشاف تفاصيل لم تسبق إماطة اللثام عنها في الخلايا، كما يقول جرانت جِنسِن، المتخصص في علم الأحياء البنيوي من معهد كاليفورنيا للتقنيات في باسادينا. والذي أردف قائلًا: "لا شك أن ثمّة متعة كبيرة في التمكُّن من رصد ظاهرة ما للمرة الأولى".

ويشاركه باحثون آخرون هذا الشعور، فتتذكَّر إليزابيث فيلا، عالِمة الفيزياء الحيوية من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، حماستها الغامرة أول مرةٍ رصدت فيها تراكيب خلوية باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد. وتقول حول ذلك: "شعرنا فجأة وكأننا مصوّرون صحفيون فُتحت لهم أبواب كانت موصدة من قبل".

من تصوير البِنى البلورية إلى رصد سياقاتها

لعقود ظلّ الباحثون يعتمدون على تقنية تسمَّى التصوير البلوري بالأشعة السينيّة، لتصوير البروتينات والفيروسات وعناصر بيولوجية أخرى. وقد تطلبت هذه التقنية تحفيز جزيئات معينة لتشكيل بلورات ثابتة منظمَّة تنظيمًا دقيقًا، ثم غَمْر هذه العيِّنات بأشعة سينيّة مكثفة. وقد أتاحت اكتشاف الشكل اللولبي للحمض النوويّ (DNA)، وبنية أكثر من 100 ألف بروتين، إلا أن لهذه الطريقة عيوبها؛ فبَلْوَرة الجزيئات عملية صعبة وشاقّة، وليست دائمًا ممكنة.

تغلَّب العلماء على هذه العوائق باستخدام التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد (cryo-EM)، وهي تقنية تكشف بنية الجزيئات الحيويّة التي عُزِلت عن محيطها ثم تعرضت للتجميد. وفي هذه التقنية، تُغْمَر العيِّنات بحِزَمٍ من الإلكترونات. ورغم أن البعض سَخِر من هذه التقنيّة في البداية ورأى أنها جديرة بأن تُستخدم في "علم الفُقاعات"، بسبب عدم وضوح الصور التي كانت تُنْتِجها، فإن التطوُّر في إعداد العيِّنات ومعالجة الصور قد زاد من وضوح صور تلك التقنية، إلى حد سمح بتصوير ذرات مفردة (يبلغ حجمها نحو 1.2 أنجستروم أو 1.2x10-10 متر).

ومع انطلاق «ثورة الصور عالية الوضوح» لتكتسح مجالات تقنية التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد عام 2013 تقريبًا، بدأ العلماء يُقبِلون على استخدام هذه التقنية. وإلى الآن، استخدمها الباحثون لتحليل بِنى أكثر من 10 آلاف جزيء حيويّ. وقد كانت البروتينات الموجودة في الأغشية الخلوية بالأخص محلّ اهتمام، فلكثير منها أهمية في فهم الأمراض وتطوير الأدوية. في ذلك الصدد، يقول جِنسِن إن هذا التقدم قد "فتح لبعض الأفراد فائقي المواهب الباب أمام استكشاف آفاق تطوير أخرى يمكن بدرجة أكبر استغلالها وتكون أكثر ثراء، بهدف تحقيق طفرات تقدم جديدة كبرى"، وقد تصادف أن تتمثل في التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد.

سعى المؤيدون الأوائل لهذه التقنيّة إلى اكتشاف طريقة لرصد الجزيئات الحيويّة، ليس فقط بأدق التفاصيل، وإنما تمامًا كما تبدو داخل الخلايا. وعلى غرار التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد، يحتاج التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد إلى مجهرٍ إلكترونيّ، ويعتمد على طريقة لتحضير العيِّنات تسمّى التزجيج، وهي التبريد السريع للماء المحيط بالعيِّنة لتتجمَّد وتصبح في حالة شبيهة بالزجاج، وليس بلورات الثلج. ولكن على عكس تقنية التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد التقليديّة، والتي تستلزم استخدام عيِّنات نقية، يمكن للباحثين استخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد لرصد الحالة الأصلية للجزيئات.

وتجدر الإشارة إلى أنه باستخدام التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد، يحصل العلماء على صورة ثلاثيّة الأبعاد عن طريق التقاط صورٍ ثنائيّة الأبعاد لعدد كبيرٍ من الجزيئات المعزولة عن بعضها بعضًا والتي تختلف في هيئاتها، ثم يدمجون الصور الناتجة معًا. في المقابل، في التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد، يأخذ العلماء لقطات عديدة، من زوايا متعددة مختلفة، لقطعة مادية واحدة مكتظَّة بالجزيئات، وهو ما يسمح بالحفاظ على محيط العينة.

يشبه الأمر التقاط صورةٍ لحشدٍ كبير من الناس، بدلًا من التقاط صورة رأسيّة لشخصٍ واحد. ولهذا، فإن ولفجانج باومايستر، أحد رواد هذه التقنية – وهو عالِم فيزياء حيويّة من معهد ماكس بلانك للكيمياء الحيويّة في مارتنسريد بألمانيا - أطلق مع فريقه البحثي على هذه التقنيّة اسم «علم الاجتماع الجزيئيّ».

فعلى هذه الشاكلة، توجد البروتينات. إذ تقول فيلا: "البروتينات جزيئات اجتماعيّة، فدائمًا ما نجد البروتين ضمن مركَّب مكون من قرابة عشرة بروتينات أخرى". وتقول فيلا إنها بعدما رصدت هذه التفاعلات باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكتروني بالتبريد، لم تستطع تقبُل فكرة دراسة البروتينات بمعزل عن بعضها البعض مرة أخرى.

تقنية التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ في حد ذاتها – والتي تستلزم استخدام مجهرٍ إلكترونيّ لتصوير عيِّنة من عدَّة زوايا – قائمة وتُستخدم منذ ستينيات القرن العشرين، إلا أن تطوُّرها لم يكتمل إلا بحلول التسعينيات. ومن بين التحديات التي تواجهها أن تدفقات الإلكترونات تُحدث تلفًا شديدًا في العيِّنات البيولوجية، وهو ما يصعّب مهمة التقاط صور كافية لتكوين صورة واضحة ودقيقة. وقد عزز العلماء دقة الصور التي يلتقطونها باستخدام أحدث وسائل تشريح العينات والطرق الحاسوبية. على سبيل المثال، يمكن استخدام تقنية تسمى تشريح العينة باستخدام حزمة الأيونات المركَّزة مع التبريد (ويُطلق عليها اختصارًا cryo-FIB)، لتجزئة العينات إلى شرائح فائقة الرقّة تسمَّى الصفائح. بيد أن تكلفة استخدام التصوير المقطعيّ الإلكتروني بالتبريد والخبرة الفنيّة المطلوبة لاستخدامه -وبالأخصّ مع أساليب مثل التشريح باستخدام حزمة الأيونات المركزة مع التبريد- قد تردعان عديدًا من المختبرات عن استخدامه، كما يقول باومايستر.

شملت التجارب الأولى التي أجراها فريق باومايستر البحثي باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكتروني بالتبريد لقطات1 لخلايا العفن الغروي Dictyostelium، وهو نوع من الأميبا الآكلة للبكتيريا، تعيش في التربة. ومن بين ما اكتشفه الفريق، خصائص لم ترصد من قبل لشبكات بروتينية معقَّدة، تشكِّل الهيكل الخلويّ للأميبا، مثل طرق تفاعل الخيوط المفردة بهذه الشبكة مع بعضها والتصاقها بتراكيب معينة على أغشية خلايا العفن الغروي.

في ذلك السياق، يقول باومايستر: "نادرًا ما نستطيع الوقوف على الوظائف البيولوجيّة أو الوظائف الخلويّة لجزيء مفرد، إذ تنشأ هذه الوظائف من تفاعل جميع الجزيئات التي تسكن الخلية. وهنا تظهر القدرات الاستكشافيّة للتصوير المقطعيّ الإلكتروني بالتبريد؛ إذ صرنا نجد المفاجآت في كل موضع من العينة باستخدامه".

خلايا اجتماعيّة

أغلب الدراسات الأولى باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد كان يتم على أوليات النواة، وهي كائنات حيّة وحيدة الخليّة مثل البكتيريا. وعادة ما تكون خلايا هذه الكائنات أصغر وأرقّ من خلايا حقيقيّات النواة الأكثر تعقيدًا.

على سبيل المثال، في دراسة أُجريت عام 2006، أفاد جِنسِن وفريقه باكتشاف أول بِنية مكتملة للمحرِّك الذي يحرِّك «سوط» الخليّة، وهو زائدة شبيهة بالسوط توجد في البكتيريا2 وباستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد، كشف الباحثون عن بنية هذا المُحَرِّك المُكَوَّن من 20 قطعة في بكتيريا Treponema primitia، وهي بكتيريا توجد في أمعاء النمل الأبيض، وذكروا بالتفصيل مواضع هذه الأجزاء في غشاء الخلية البكتيرية. كذلك كشف جِنسِن وفريقه تفاصيل ضرورية عن بعض الشعيرات البكتيريّة، وهي بروزات تستخدمها الكائنات الحيّة المجهرية لوظائف عديدة، مثل الالتصاق بالخلايا التي تصيبها بالعدوى وإفراز المواد داخلها. وقد أصدر الفريق البحثيّ في العام الماضي أطلَسًا رقميًا متاحًا عبر سياسة للوصول المفتوح (انظر go.nature.com/3nugs7v)، يسلِّط الضوء على العديد من المعلومات التي كشفها التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد عن الخلايا البكتيرية وخلايا أخرى أولية النواة.

ومؤخرًا، اتجه العلماء إلى تصوير خلايا حقيقيّات النواة، الزاخرة بالتفاصيل مقارنةً بأوليات النواة. وفي الأغلب أن هذا أصبح ممكنًا بسبب ظهور تقنية تشريح العينة باستخدام حزم الأيونات المركزة مع التبريد، والتي تسمح للباحثين بتجزئة الخلايا إلى شرائح رقيقة قبل وضعها تحت المجهر الإلكترونيّ. وقد استخدم باومايستر وفريقه البحثي هذه التقنيات معًا لتصوير ترتيب الجزيئات في محيط النواة بالخليّة البشريّة3 (انظر الشكل «نظرة إلى الداخل»). وكشفت دراستهم كيف أن بعض الخيوط التي لم يسبق رصدها من قبل والتي يُقاس سُمكها بالنانومتر توفِّر الدعامة الهيكليّة للنواة، ما يجعلها من أصلب العُضيَّات في الخلايا الحيوانيّة.

لكن حتى بالاستعانة بتقنية تشريح العينة باستخدام حزم الأيونات المركزة مع التبريد، لا يمكن سوى تصوير مقاطع صغيرة من خلايا حقيقيّات النواة باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد، ما يعني أن العلماء في حاجة إلى إيجاد طريقة لتحديد موضع الجزيئات محلّ الدراسة بدقة في نطاق خلويّ مترامي الأطراف ومزدحم. ومن بين الحلول الممكنة لهذه المشكلة انتقاء البروتينات المطلوبة عن طريق الوسم الفلوري أولًا تحت مجهرٍ ضوئيّ، ثم تكبير الصورة لرؤية تفاصيل أدق في مقاطع محددة باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد.

وقد استخدمت فيلا وزملاؤها هذا المزيج من التقنيات لتحليل بنية بروتين LRRK2، وهو بروتين ذو صلة بالأنواع الوراثيّة من مرض باركنسون4. وقد كشفت دراستهم أن الصورة المتحوِّرة من البروتين تلتصق ببعض مكوِّنات الهيكل الخلويّ المسمّاة بالنبيبات الدقيقة، مكوِّنة لولبًا مزدوجًا حول هذه النبيبات. كذلك أشارت النتائج التي توصل إليها الفريق إلى أن بروتين LRRK2 المتحوِّر قد يتَّخذ هيئة تعزز هذا النوع من الالتصاق، وهو ما قد يسبب مشكلات من خلال تعطيل الجزيئات التي تنقل حمولة خلويّة مهمّة على طول النبيبات الدقيقة5.

استخدمت فرق بحثيّة مثل فريق باومايستر هذه الطريقة لدراسة التفاعلات بين البروتينات المرتبطة بالأمراض العصبيّة التنكسيّة مثل مرض هنتنجتون6ومرض الخلايا العصبيّة الحركيّة (أو التصلب الجانبيّ الضموريّ، المعروف اختصارًا بـ ALS)7 ومكوِّنات الخليّة، مثل الشبكة الإندوبلازميّة (ER)، وهي آلة خلويّة كبيرة تساعد على تصنيع البروتينات. واكتشف هؤلاء الباحثون أن كتل البروتينات السامة للأعصاب والتي تسهم في ظهور هذه الأمراض تتصرف بشكلٍ مختلف تمامًا في ما بينها داخل الخلايا. ففي مرض هنتنجتون على سبيل المثال، يبدو أن تراكم الصورة المتحورة من البروتين المسمى هنتنجتن يتسبب في اختلال تنظيم الشبكة الإندوبلازميّة، بينما في مرض التصلّب الجانبيّ الضموريّ يتسبب تراكم أحد البروتينات الشاذّة في إتلاف الكيمياء الحيويّة للخليّة، بتنشيط آليّة تكسير البروتينات داخلها، "تنشأ هذه الوظائف من تفاعل جميع الجزيئات التي تسكن الخلية".

ويأمل العلماء في أن يتمكنوا مستقبلًا من استخدام هذه التقنيات لفهم آليّات عمل بعض العلاجات فهمًا أفضل، بتصوير كيفيّة عمل الأدوية داخل جزيئات الخلايا. وجدير بالذكر أنه وفقًا لما استعرضته نتائج بحث سابق، تمكَّنت جوليا محمد، الباحثة بمعمل البيولوجيا الجزيئيّة الأوروبيّ في هايدلبرج بألمانيا، وفريقها البحثي، من رصد المضادات الحيويّة داخل خليّة بكتيريّة في أثناء التصاقها بالريبوسومات، وهي عضيّات تخدم كمصانع للبروتينات8. وقد تحقق هذا الإنجاز برفع وضوح صور تقنية التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد إلى 3.5 أنجستروم.

وهنا، تقول كوكولسكي، التي لم تشارك في هذه الدراسة: "أعتقد أن هذا يلخص جمال ما يمكن تحقيقه (باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد)". لكنها تشير إلى أن الريبوسومات شائعة الانتشار في الخلايا، وأن خصائصها معروفة جيدًا بالفعل، ما يسهِّل اكتشافها ودراستها. من ناحية أخرى، تضيف أن تصوير البنى غير المعروفة أو نادرة الوجود لا يزال مهمّة محفوفة بالصعاب.

تراكيب فعالة

يُعد التصوير المقطعيّ الإلكتروني بالتبريد أحد المجالات التي تشهد نموًا سريعًا، إلا أن التقنيّة لا يزال يشوبها عدد من العيوب. إذ يظل عدم وضوح الصور التي تنتجها مشكلة، ورغم أن مستوى وضوح تفاصيل هذه الصور قد تحسَّن بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة، ما زال من غير الممكن استخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد للحصول على الاستبانة الذرية التي يمكن الوصول إليها باستخدام التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد. فيقول هونج زو، عالِم الفيزياء الحيويّة من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس: "وصل التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد إلى حيث وصل التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد في أوائل تسعينيات القرن الماضي، أي إلى نقطة سابقة على مرحلة الوصول إلى الاستبانة على المستوى الذريّ".

ووفقًا لزو، في ضوء الأداء الحالي لتقنية التصوير المقطعي الإلكتروني بالتبريد، من الصعب الوقوف بدقة على جزيئات بعينها من الخلية. لهذا، كما يضيف، ما لم يحاول العلماء رصد بِنى سبقت معرفة خصائصها بشكلٍ جيد، مثل الريبوسومات، فقد تكون فرضيّاتهم بشأن ما يمكنهم اكتشافه باستخدام هذه التقنيّة غير صحيحة. ويقول: "الاحتمالات ليست في صفّنا، فمن السهل جدًا ارتكاب الأخطاء".

وللتحايل على مشكلة عدم وضوح صور الشكل التقليدي من تقنية التصوير المجهري الإلكتروني بالتبريد، اختار زو بدلًا من ذلك أن يحاول الوصول لأقصى إمكانات هذه التقنية. وأعلن فريقه مؤخرًا عن طريقة تُسَمّى cryoID9 تجمع بين التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد وتقنيات أخرى متنوعة. إحدى هذه التقنيات تستلزم فتح الخلايا بطريقةٍ تمكِّن البروتينات من البقاء جزئيًا داخل البيئة الخلويّة الأصليّة، وبهذه الطريقة يمكن للباحثين رصد البروتينات في حالة أقرب ما تكون لحالتها الأصليّة. ورغم تركيز زو حاليًا على التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد، فهو يرى أن التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد هو المستقبل. ويقول: "أرى أن هذه الطريقة خطوة تجاه ذلك الهدف".

وثمة عيب آخر يشوب التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد، وهو صغر حجم العينات. فتقول فيلا: "من أعظم أسرار التصوير المقطعيّ أنه عند رصد خليّة حيوان ثديي، تضم الصورة المقطعيّة أقلّ من 0.1% من تلك الخليّة". وهذا يعني أن العضيّات الكبيرة مثل النواة لا يمكن رؤيتها بالكامل، بل نرى أجزاء منها فقط. ولعلاج هذا القصور، يستخدم علماء مثل هارالد هِس، عالِم الفيزياء الحيويّة بحرم جانيليا البحثي من معهد هوارد هيوز الطبيّ في أشبرن بفرجينيا، تقنيات أخرى غير التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد، منها التصوير المجهريّ الفلوري فائق الوضوح، والتصوير المجهريّ الإلكترونيّ، لتصوير خلايا بأكملها. وباستخدام هذه الطرق، يكوِّن هِس وفريقه البحثي تصورًا جديدًا لكيفية تفاعل المكوِّنات الخلويّة العديدة بعضها مع بعض10. وفي دراسة نُشِرت في وقتٍ مبكر من شهر أكتوبر الماضي، برهن فريقه البحثي على أنه تمكن من وضع خريطة لمواضع حوالي 35 نوعًا من العضيات الخلوية باستخدام تقنيّات تعلُّم الآلة، وهي إحدى صور الذكاء الاصطناعيّ، حيث استهدفوا أن تساعدهم هذه التقنيات في التعرُّف على هذه المكوِّنات الخلوية في عدة عينات.

ويجمع باحثون آخرون بين التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد وتقنية أخرى تسمَّى التصوير المقطعيّ بالأشعة السينيّة، يمكن استخدامها لالتقاط صورٍ لخلايا كاملة. ويسمح هذا للعلماء برصد بنية المكوِّنات الأكبر حجمًا، مثل الميتوكوندريا أو النوى، ثم تكبير الصور للتركيز على مناطق معينة محلّ الاهتمام.

إلا أن الجمع بين هاتين التقنيتين مكلف ويتطلب بعض المهارات. إضافة إلى ذلك، فإن كلتا التقنيتين تغمران العيّنات بإشعاع قد يتسبب في تلفها. وهذا يشكِّل صعوبة لدى الانتقال بفحص عيِّنة من تقنية إلى أخرى، كما تقول إيفا بيريرو، العالمة المتخصصة في دراسة خطوط الأشعة في سنكروترون «ألبا» ALBA في برشلونة بإسبانيا، وهو منشأة تُنتج أشعة سينية مناسبة للتصوير المقطعي.

إلا أن بعض المختبرات نجح في الجمع بين التقنيتين بالفعل. على سبيل المثال، نشرت12 ماريا هاركيولاكي مؤخرًا، وهي إحدى كبار العلماء الذين يعملون في سنكروترون «دياموند لايت سورس» Diamond Light Source في ديدكوت بالمملكة المتحدة، وفريقها البحثي، نموذجًا لآليّات انتقال عدوى «سارس-كوف-2» SARS-CoV-2 يستخدم كلًا من التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد والتصوير المقطعيّ بالأشعة السينيّة، لتوضيح هذه العمليّة. والتقط الفريق البحثي صورًا لأحداث تقع على مستوى الخليّة وعلى مستوى الجزيئات المفردة، وطرحوا تصورًا حول كيفيّة تضاعف أعداد الفيروس في خلايا الرئيسيات.

ويعتقد باومايستر أن التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد، شأنه شأن التصوير المجهريّ الإلكترونيّ بالتبريد، سوف يسمح للعلماء في نهاية المطاف برصد الجزيئات البيولوجيّة باستبانة ذرية. لكن إلى أن يحدث ذلك، فإن العلماء مستمرون في البحث عما يمكن اكتشافه داخل الخليّة باستخدام التصوير المقطعيّ الإلكترونيّ بالتبريد والتقنيات الأخرى المشابهة. ولأن هذه الأدوات قد تكشف عن بِنى لم يسبق رصدها، فما زال أمام الباحثين كثير من الألغاز الجديدة المطلوب حلّها. في ذلك الصدد، تقول فيلا: "ما يستهويني في التصوير المقطعيّ هو أننا دائمًا ما نطرح من خلاله أسئلة جديدة، أكثر مما نحصل على إجابات".

اضف تعليق