إنسانيات - حقوق

هل يجوز للقضاء الدستوري ان يفتي في الأمور العبادية

قراءة في ضوء قرار المحكمة الاتحادية العليا

وفي المنظومة القانونية العراقية كثير من النصوص التي تمنح امتيازات لفئات من الأشخاص مع انهم من غير ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت المحكمة الاتحادية العليا تعد ذلك تميزا لوظائفهم وليس امتيازا لهم، ومن الأمثلة على ذلك حصول بعض أصحاب النفوذ والمناصب على اكثر من قطعة ارض وبعضها في امكان متميزة...

أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها العدد 186/اتحادية/2024 في 24/9/2024 والذي قضت فيه بعدم دستورية الفقرة (الرابعة عشر) من المادة (15) من قانون حقوق ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة رقم ٣٨ لسنه ٢٠١٣ المعدل التي جاء فيها (تلتزم الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة التالية بما يأتي: رابع عشر: هيئة الحج والعمرة: تخصيص نسبة (١%) واحد من المائة من مقاعد الحج لذوي اﻻعاقة واحتياجات الخاصة وتكون للشخص المعني ﻓقط مع مراﻓق حسب اﻻحتياج.).

والقرار صدر بناء على طعن تقدمت به هيئة الحج والعمرة حيث ترى تلك الهيئة بان وجود هذا النص فيه مخالفة لعدة مبادئ دستورية وعلى وفق الآتي:

1. مخالفة ثوابت الإسلام الواردة في نص المادة (2/أولا/آ) من الدستور التي جاء فيها (لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام).

2. مخالفة مبدأ المساواة الواردة في نص المادة (14) من الدستور التي جاء فيها (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الاصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي).

3. مخالفة مبدا تكافؤ الفرص الواردة في نص المادة (16) من الدستور التي جاء فيها (تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتحقيق ذلك)

وكانت قد استمعت المحكمة الى دفوع وكيل المدعى عليه رئيس مجلس النواب إضافة الى وظيفته حيث دفع بان القانون صدر بموجب اختصاص مجلس النواب وخياراته التشريعية، وان تخصيص نسبة من مقاعد الحج الى ذوي الاحتياجات الخاصة جاء طبقاً للمبدأ الدستوري الوارد في المادة (32) من الدستور التي جاء فيها (ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع وينظم ذلك بقانون)، الا ان المحكمة استجابة لدعوى المدعي رئيس هيئة الحج والعمرة إضافة لوظيفته وقضت بعدم دستورية الفقرة (الرابعة عشر) من المادة (15) من قانون حقوق ذوي الإعاقة رقم 38 لسنة 2013.

أسباب الحكم

ان الحكم الصادر بعدم الدستورية كانت المحكمة قد اعتمد سببين تم توضيحهما في نص الحكم، حيث اعتبرت النص المذكور فيه مخالفة لثوابت الإسلام، كما اعتبرته مخالف لمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، ولقراءة هذه الأسباب من وجهة نظر الفقه الدستوري سأعرض لها وعلى وفق الآتي:

1. مخالفة الثوابت الإسلامية: ان المحكمة الاتحادية العليا قد اعتبرت ان ذوي الاحتياجات الخاصة غير قادرين على أداء مناسك الحج لانهم لا يملكون الاستطاعة التي وردت في الآية الكريمة (97) من سورة آل عمران ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)، وفسرت المحكمة الموقرة الاستطاعة التي وردت في تلك الآية على وفق الآتي (والاستطاعة تكون في المال والبدن، بأن يكون لديه مال يتمكن به من أداء الفريضة ويكون صحيح البدن أي غير عاجز عن أداء المناسك لما في هذه المناسك من عناء وجهد، فاذا كان المكلف غير قادر على أداء مناسك الحج لعيب في بدنه فلا يجب الحج عليه لصراحة نص الآية القرآنية المذكورة آنفاً بإجماع فقهاء المسلمين).

وبينت بان الاستطاعة تكون بالمال وصحة البدن أي غير عاجز، ثم رتبت حكم شرعي على ذلك بان اسقطت عنه فريضة الحج بقولها (فاذا كان المكلف غير قادر على أداء مناسك الحج لعيب في بدنه فلا يجب الحج) واردفت القول بان هذا هو محل اجماع المسلمين.

وعند الرجوع الى تفاسير المسلمين وفتاوى جميع فقها المذاهب الإسلامية نجد ان للاستطاعة مفهوم آخر غير ما ذكر في قرار الحكم، ويذكر الطبري في تفسيره ان بعض الفقهاء اعتبروا الاستطاعة هي الزاد والراحلة، ويستند الكثير من الفقهاء والعلماء الى الحديث النبوي الشريف بان الاستطاعة هي الزاد والراحلة، وهذا ما ورد في تفاسير البغوي والقرطبي وتفسير الصافي والأمثل، وفي قول لمحمد جواد مغنية بان الاستطاعة هي الاستطاعة العقلية فقط، اما ما عدا ذلك فان الاستطاعة البدنية بالإمكان الاستعاضة بها بالبدائل ومنها توفر الوسائل التي تمكنه من الطواف وأداء المناسك سواء الآلات الحديثة وسواها، والبعض القليل من الفقهاء من قال بان السبيل هو البدن الصحيح، لكنهم لم يمنعوا ان تؤدى عبر البدائل او بالمعونة، كما يرى اغلب الفقه ان عدم أداء فريضة الحج لعدم الاستطاعة هي ليس وجوبية، وانما هي رخصة للعبد، ان يتمتع بها اذا ما توفر فيه صفة عدم الاستطاعة، لكنها تبقى فريضة واجبة.

وخلاصة القول تجاه هذا السبب، فانه لم يكن محل اجماع المسلمين، بل الغالب ان الاستطاعة هي استطاعة العقل، وفي بعض الفتاوى التفصيلية يجوز للمعوق ان يطوف على كرسي متحرك ومنه ما ذكره ابن قدامة المقدسي في كتابه "المغني" يقول: "ولا خلاف في أن الطواف والسعي راجلاً "ماشياً" أفضل، ولكن المعذور يجوز له الطواف والسعي راكباً". وفي احدى فتاوى السيد السيستاني أجاز الطواف بالكرسي المتحرك وعلى وفق الفتوى الآتي (لا بأس بركوب العربة حتى للمتمكن من المشي ولكن يشترط أن يكون الساعي هو المتصدّي لتحريكها أو كان يسوقها غيره ولكن الساعي متمكـّن من إيقافها بنفسه متي شاء ذلك من دون أن يطلب ذلك من سائق العربة.)

وحج المعاق او ذوي الاحتياجات الخاصة عبر وسائل تساعده على أداء المناسك لا يشكل مانعا يمنعه من اداء الفريضة او اسقاطها وجوبا مثلما افتت به المحكمة الموقرة.

لكن تسبيب المحكمة الموقرة الى اعتبار مجرد الإعاقة تكون اسقاط لفرض الحج وهو احد اركان الإسلام، فيه وجهة نظر، لأنه بمثابة افتاء في أمور عبادية وليس معاملاتية قابلة للنقاش من الحاكم او من ولي الامر، وقبول الحج من عدمه هو امر بين العبد وخالقه، ولا يستطيع أيا كان ان يقرر ذلك، والا يعتبر قد تجاوز على الخالق، ومن ثم فان هذا السبب لا وجود له والنص الطعين لم يخالف ثوابت احكام الإسلام، مثلما ذهبت اليه المحكمة الموقرة.

2. مخالفة النص الطعين لمبدأ المساواة او تكافؤ الفرص: ان المادة (15) من قانون حقوق ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة رقم ٣٨ لسنه ٢٠١٣، وردت فيها امتيازات أخرى لذوي الاحتياجات الخاصة، والزمت اكثر من وزارة بتمييزه عن غيرهم، بسبب الإعاقة التي يعاني منها ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه جميعاً لم تتصد المحكمة الموقرة الى النظر في دستوريتها وابقتها، فاين انعدام مبدأ المساواة، وهل يكون فقط في أداء فريضة الحج، وينعدم عند الامتيازات الأخرى.

مع التنويه الى ان الله سبحانه وتعالى اختص من يصاب بأمراض تعيق العبد عن أداء الفرائض بان منحه الرخصة في عدم أدائها، والله العادل والحكيم لم يميز بعنوان عدم المساواة وانما لخصوصية الحالة التي عليها العباد.

وفي المنظومة القانونية العراقية كثير من النصوص التي تمنح امتيازات لفئات من الأشخاص مع انهم من غير ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت المحكمة الاتحادية العليا تعد ذلك تميزا لوظائفهم وليس امتيازا لهم، ومن الأمثلة على ذلك حصول بعض أصحاب النفوذ والمناصب على اكثر من قطعة ارض وبعضها في امكان متميزة من العاصمة بغداد، بينما القانون يمنع منح اكثر من قطعة سكنية لكل مواطن، وعلى وفق احكام قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 120 لسنة 1982 الذي جاء فيه (يمنع تمليك او بيع قطع الاراضي او الوحدات السكنية المملوكة للدولة سواء كان ذلك من دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي او بواسطة الجمعيات التعاونية الاسكانية لمن كان هو او زوجه او اي من اولادهما القاصرين الذين لا يؤلفون اسرة مستقلة، قد حصل على قطعة ارض او وحدة سكنية من الدولة او الجمعيات التعاونية.) ولم نجد ما يشير الى اعتبار هذا التميز خرق لمبدأ المساواة او تكافؤ الفرص.

كما لاحظنا في كل سنة يتكرر مشهد ذهاب السياسيين الى الحج ولأكثر من مرة وبموافقة هيئة الحج والعمرة، وقبول المسؤول او ممن يعد من الحواشي هذه الفرصة التي اعتبرت من المزايا والعطايا، وغيره من أبناء وطنه يحرمون منها وهم اكثر من تتوفر فيهم شروط الابتعاث الى الحج هو اثم، لان القدر جعل من الحواشي وارباب المناصب يهيمنون على المقدرات، فأتتهم العطايا ليس لانهم من اهل الاستحقاق بل لانهم من ارباب المناصب، وهذه من منافع السلطة والمنصب، فيكون ممن ارتكب فعل (الغلول) ويعلل هؤلاء ان هذه الفرص للحج المتكرر امر مشروع، طالما أتت عن طريق موافقات المسؤولين بموجب صلاحياتهم في القانون، مع انهم في قرارة نفسهم يعلمون ان ذلك غير صحيح مثلما يعلم العامة ان ذلك غير صحيح.

ان قانون حقوق ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة رقم ٣٨ لسنه ٢٠١٣، عندما عرف ذوي الإعاقة وصنفهم، فان بعض ممن يعتبرون من ذوي الإعاقة هم قصار القامة، وهؤلاء ليس بمعاقين ذهنياً، بل ان بعضهم رفع راية العراق في المحافل الرياضية والعلمية العالمية، وكذلك ذوي الإعاقة البصرية، فانهم يملكون من قوة الابداع والذكاء، مع انهم غير مبصرين (كفيفي البصر)، بل ان بعض علماء الدين والشعراء العظام هم من كفيفي البصر وهؤلاء يعتبرون من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة على وفق ما ورد في المادة (15/ثالثاً/ط) من القانون ذوي الاحتياجات الخاصة.

وهذا التسبيب في القرار الذي تصدى فيه الى مسألة تتعلق بالعقائد والعبادات قد يكون مسوغاً لمن يرى بضرورة ان تتكون المحكمة الاتحادية العليا ويتم تشكيلها بوجود خبراء الشريعة الإسلامية وعلى وفق ما ورد في تشكيلها في المادة (92/ثانياً) من الدستور.

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق