والتخلي عن أحد الواجبات الدستورية ديدن المشرع في العراق تارة بالامتناع الصريح والواضح عن القيام بالدور التشريعي في سن القواعد القانونية، وأخرى عند الامتناع عن القيام بالوظيفة الرقابية على تشكيلات السلطة التنفيذية بكل مستوياتها، وفي الوجهين المتقدمين الإشكالية الحقيقية التي تطفو إلى السطح هي التضحية بحقوق الشعب...
حين توزع الوثيقة الدستورية الاختصاصات على السلطات العامة فإن هدفها تحقيق الانسجام بين تلك الهيئات ومنع التعارض في الاختصاصات والتضاد فيما يصدر عنها من قرارات وتشريعات وغيرها، إلا إن مشكلة قد تبرز ونتلمس أثارها بوضوح في حالة تخلي إحدى السلطات العامة عن واجباتها الدستورية بشكل واضح في أحد مناحي العمل المؤسسي ما يخلق مشكلة عميقة تترك أثرها على حياة الدولة والأفراد بشكل واضح.
والتخلي عن أحد الواجبات الدستورية ديدن المشرع في العراق تارة بالامتناع الصريح والواضح عن القيام بالدور التشريعي في سن القواعد القانونية، وأخرى عند الامتناع عن القيام بالوظيفة الرقابية على تشكيلات السلطة التنفيذية بكل مستوياتها، وفي الوجهين المتقدمين الإشكالية الحقيقية التي تطفو إلى السطح هي التضحية بحقوق الشعب والسماح للفساد بأن ينمو بكل صوره القبيحة سواءً منها السياسي أو الإداري أو المالي وغيرها، ومن ثم وجب على القاضي الدستوري ان يراقب التطبيق العملي للقواعد الدستورية المتعلقة بتوزيع الاختصاصات لاسيما عند تطبيقها عمليا من قبل السلطة التشريعية والتنفيذية، والتي قد تتجاوز على تلك الحدود وتظهر تجاوزاتها بصورتين هما:
1- عيب عدم الاختصاص الإيجابي: حين تمارس السلطة لا سيما التشريعية عملاً ليس من صميم اختصاصها فتتجاوز الدستور والحدود التي رسمها المؤسس الدستوري.
2- عيب عدم الاختصاص السلبي: عند تخلي تلك السلطة عن النهوض بأحد واجباتها الدستورية وتمتنع عن تنظيم مسألة فتتضح معالم النقص والقصور في النظام القانوني للدولة، ما يهدد النظام الديمقراطي ويضع الحقوق والحريات الشعبية على المحك.
ولما كانت قواعد الاختصاص من النظام العام ولها حجية مطلقة في مواجهة كل السلطات العامة فلا يجوز تجاهلها أو التجاوز عليها لحجيتها المطلقة في مواجهة الجميع، ومما لا شك فيه حاجة الدولة ليستقيم أمر سلطاتها العامة تتمثل بالدرجة الأساس بتفعيل مبدأ الانفراد التشريعي للبرلمان في ميدان سن القواعد القانونية، بيد ان من المتوقع أن تبرز بعض الإشكاليات بهذا الخصوص أهمها:
1- تخلي البرلمان عن اختصاصه التشريعي: ويمكن ان يكون التخلي بصورتين هما:
أ- الامتناع عن إصدار التشريعات المنظمة للسلطات العامة أو الحقوق والحريات ما يشكل ثلمة في البناء القانوني للدولة ومن أمثلة ما تقدم حين امتنع البرلمان العراقي عن تشريع القوانين الخاصة بالمحكمة الاتحادية العليا أو مجلس الاتحاد.
ب- تفويض الاختصاص التشريعي: إلى إحدى السلطات العامة لاسيما الحكومية منها وهو ما حصل في العام 2015 حين فوضت الحكومة اتخاذ اللازم استجابة للمطالب الشعبية بيد ان ما تقدم يعيبه التنازل عن الواجب إلى سلطة لا يمكن ان يؤمن جانبها إلا وهي الحكومة.
2- المشكلة من وجهها الأخر تظهر بصورة مختلفة إذ قد ينظم المشرع مسألة ما إلا ان الاختصار والتسرع قد يخلف إشكالية أعمق تبرز في المستقبل بصورة من الصور الآتية:
أ- الغموض بالنصوص التشريعية: ما يتطلب إعمال التفسير من جانب السلطة التي ستنفذ هذا النص وقد يكون التفسير في هذه الحالة مدعاة للإضافة للنص أو إسقاط بعض مقتضياته بحجة إزالة الغموض.
ب- القصور أو النقص في النص: وعجزه عن استيعاب جميع المسائل المطروحة في الواقع العملي، فيكون ما تقدم فرصة للحكومة لتسد النقص من خلال التعليمات والأنظمة وهو ما يفتح الباب أمامها مشرعا لتنظم الحقوق والحريات التي منح الدستور البرلمان اختصاص تنظيمها.
3- هنالك حالات يتدخل المشرع فيها بسن تشريع إلا أنه سيكون معيباً كونه تدخل في شأن سلطة أخرى منحها المشرع سلطة تنظيم عملها كمرفق عام مثال ذلك الدستور العراقي منح بالمادة (82) مجلس الوزراء إمكانية وضع نظام داخلي لتنظيم سير العمل في المجلس فان قيام البرلمان بسن قانون لمجلس الوزراء قد يتعارض مع النص الدستوري ويفرغه من مضمونه لكون الدستور أقر بوضع قانوني خاص لمجلس الوزراء فيما يخص تنظيم سير العمل فيه.
4- تظهر المشكلة أيضاً بصورة أخرى تتمثل في القصور التشريعي أي سوء الصياغة التشريعية لعدم ملائمة التنظيم القانوني الذي جاء به القانون للواقع وقت التطبيق وعدم ملاحقة المشرع للتطورات التقنية أو التكنولوجية أو التغيرات الحاصلة في البيئة المحيطة بعمل السلطة التنفيذية فيكون التشريع متخلفاً متقادماً وسببا للتزوير أو تفشي الفساد بكل صوره، والمثال الأبرز على ما تقدم تمسك البرلمان العراقي ببطاقة الناخب العادية ومحاولة البعض تمرير ذلك في مشروع قانون الانتخابات وعدم الاعتماد على البطاقة البايومترية التي من شأنها الحد من الفساد وتزوير الإرادة الشعبية.
ونعتقد إن ما تقدم عيوب تعتري العمل التشريعي في العراق وبحاجة لوقفه من المختصين لا سيما واننا نرى بأم العين مقدار الضرر الذي أصاب المصلحة العامة والتعطيل المتعمد لنصوص الدستور والالتفاف الحقيقي على الإرادة العامة والتفشي الخطير للفساد بسبب هذه الثغرات التشريعية والخلل في أداء المؤسسة المختصة بالتشريع، لهذا نذكر ان المادة (13) حين تضمنت النص على السمو الدستوري على التشريعات عامة في العراق لا تعني الجانب الإيجابي من سلوك المشرع أو السلطة التنفيذية فحسب بل جزما هي تعني السلوك السلبي المتمثل بالتخلي عن المسؤولية المهنية والأخلاقية والوطنية الأمر الذي يفرغ مبدأ السمو من مضمونه، بيد أننا أمام تحدي ذو مظاهر متعددة فمن جانب المحكمة الاتحادية العليا معطلة ولا تراقب البرلمان منذ فترة ليست باليسيرة، ومن جانب آخر حتى لو أكتمل نصاب المحكمة الاتحادية هل تجرأ المحكمة على مراقبة الصور السلبية لسلوك المشرع أم تكتفي بالجوانب الإيجابية المتمثلة بصدور قانون وقيام شك بمخالفته للدستور؟
قد يرى البعض في رقابة المحكمة الاتحادية أو أي محكمة مختصة برقابة دستورية القوانين في العراق والعالم نوع من الترف الفكري إلا إننا نقول ان هذه الرقابة واجبة وضرورية لنصل إلى الدولة القانونية دولة النص الحاكم والملائم فليس البرلمان سلطة فوق السلطات يشرع ما يشاء ويسكت عما يشاء بل عليه تحري الدقة والموضوعية في التشريعات والمحافظة على هياكل الدولة وتشريعاتها بكل أمانة وحياد، فليس للتنافس الحزبي من مكان في أروقة العمل البرلماني المخصصة لتحقيق الغايات الدستورية لارتباطها بالمصالح العليا للبلد، وعلى القاضي الدستوري كما يراقب القاعدة القانونية الصادرة نتيجة التصريح مراقبة الامتناع عن سن وتشريع هذه القاعدة، وان افتقاد المحكمة للنص المباشر على هذا الاختصاص لا يعفيها من المسؤولية، فالأولوية لحماية وإعمال النص الدستوري استنادا للمادة (13) سالفة الذكر.
وقد نظمت بعض الدساتير المقارنة رقابة على امتناع المشرع عن القيام بواجبه تجاه تشريع القوانين ومنها الدستور البرتغالي للعام 1976 إذ تنص المادة (134) على اختصاص المحكمة الدستورية بتلقي الطلبات لإصدار حكم بشأن عدم دستورية القواعد القانونية وكذا التحقق من عدم وقوع عدم الدستورية نتيجة الإغفال التشريعي، ويعطي دستور جنوب أفريقيا الصادر عام 1996 في المادة (167) لكل مواطن الحق وبأذن المحكمة ان يطعن بما يعتقد انه لمصلحة تفسير الدستور أو حمايته أو إنفاذه.
وفي الإطار ذاته خلت بعض الدساتير من نص مماثل ومنها الدستور الفرنسي للعام 1958 بيد ان المجلس الدستوري الفرنسي راقب وبكل جرأة مسألة تخلي المشرع عن واجباته التشريعية واصدر سلسلة من القرارات بهذا الخصوص بدءً من العام 1967 حين رفض إحالة المشرع للائحة مسألة تحديد شروط القضاة وعدم قابليتهم للعزل وأقر ضرورة تنظيم ذلك بالقانون وليس باللائحة، وفي العام 1984 قرر عدم دستورية القانون الذي لم يحدد الجرائم بصورة واضحة لمنع السلطة التنفيذية من التحكم فيما يعد أو لا يعد جريمة من نوع ما.
وفي العراق لاحظنا تخلي المحكمة الاتحادية العليا عن دورها الأساس في رقابة الامتناع التشريعي عن القيام بالواجبات الدستورية إذ ورد في العديد من الأحكام عبارات شتى تفيد بان القانون خياراً تشريعيا أو ان المحكمة لا شأن لها بإلزام البرلمان بعرض الترشيحات للمناصب العليا وتارة أخرى تساهم في تعطيل نصوص الدستور نفسه، فقد ورد في حكم المحكمة الاتحادية العليا بالقضية رقم (105/اتحادية/2019) حين تم الطعن بقانون التعديل الأول لقانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية رقم (12) لسنة 2018 والذي انهى عمل مجالس المحافظات والأقضية، وبدل ان تلزم البرلمان بسن قانون يعالج حالة تعطيل المادة (122) من الدستور الخاصة بمجالس المحافظات بوصفها تطبيقاً من تطبيقات الديمقراطية المحلية وضرورة حتمية لرقابة المحافظ وتقديم الخدمات المحلية للمواطنين ذهبت لتبرر موقفها بان لا اختصاص لها في رقابة تعارض قانون الانتخابات مع قانون المحافظات، والأصل ان النص محل الطعن خالف الدستور وعطل أحكامه.
وعلى النسق ذاته نجد حكم المحكمة الاتحادية العليا بالدعوى المرقمة (77/ اتحادية/2019) معطلاً هو الأخر لنص المادة (52) حيث طعنت إحدى المرشحات للانتخابات الماضية بصحة عضوية أحد الأعضاء أمام مجلس النواب فأخذ المجلس يتماهى ويتراخى بلا سند من الدستور أو القانون فهو ملزم بحكم المادة المتقدمة بالتصويت على صحة العضوية عند اكتمال الشروط الخاصة بذلك وقراراه قابل للطعن به أمام المحكمة الاتحادية، فما كان من المحكمة إلا ان ردت الطعن مدعية إنها تنظر فقط في قرار المجلس وليس سكوت المجلس وهذا الظلم بعينه فلو سكت مجلس النواب دهرا عن طلبات وعرائض وتظلمات الناس هل يعفي ذلك المحكمة من التصدي لدورها في حماية الدستور والذود عن حمى الحقوق والحريات؟
اضف تعليق