q
وفي أعقاب الغزو، أصبح ربط أوكرانيا كهربائيًّا بأوروبا -وهو شيءٌ كان يُستبعَد حدوثه قبل عام 2023- هدفًا مُلحًّا وعاجلًا، وسعى المهندسون إلى تحقيقه بأمان في غضون بضعة أسابيع فقط، وفي السادس عشر من مارس، بلغوا المرحلة الرئيسة الفارقة المتمثلة في مزامنة المنظومتين، وهكذا أنجز المهندسون عملًا يستغرق عامًا في أسبوعين..
بقلم آنا بلاوستين

في الرابع والعشرين من فبراير، أقدمت الشركةُ التي تتولى تشغيل الشبكة الكهربائية في أوكرانيا على فصل منظومة الطاقة في البلاد عن الشبكة الأكبر التي تُديرها روسيا، والتي ظلت الشبكة الأوكرانية مرتبطةً بها على الدوام، كان من المُفترض أن تتم عملية الفصل التي جرى التخطيط لها منذ وقتٍ طويل في صورة تجربة تستغرق 72 ساعة لإثبات أن أوكرانيا قادرةٌ على العمل بشكلٍ مستقل، وكانت هذه التجربة شرطًا أساسيًّا لربط الشبكة الأوكرانية بالشبكة الأوروبية في نهاية المطاف، وهو الهدف الذي ظلت أوكرانيا تسعى لتحقيقه منذ عام 2017، ولكن لم تكد تنقضي أربعُ ساعات من انطلاق هذه التجربة حتى بدأ الغزو الروسي للبلاد.

وفي أعقاب الغزو، أصبح ربط أوكرانيا كهربائيًّا بأوروبا -وهو شيءٌ كان يُستبعَد حدوثه قبل عام 2023- هدفًا مُلحًّا وعاجلًا، وسعى المهندسون إلى تحقيقه بأمان في غضون بضعة أسابيع فقط، وفي السادس عشر من مارس، بلغوا المرحلة الرئيسة الفارقة المتمثلة في مزامنة المنظومتين، وهكذا أنجز المهندسون "عملًا يستغرق عامًا في أسبوعين"، وفق تصريح كادري سيمسون، مفوضة الطاقة بالاتحاد الأوروبي، تجدر الإشارة إلى أن الإنجاز الذي تحقَّق ليس بالأمر العادي في هذا المجال، يقول بول دين، الباحث في سياسات الطاقة بجامعة كوليدج كورك في أيرلندا: "إنه لأمرٌ غير مسبوق أن يتحرك [مشغلو الشبكات الكهربائية] بهذه السرعة وبهذه الخفة، لم تتحقق مزامنةٌ لأي منظومةٍ للطاقة بهذه السرعة من قبل".

بدأت أوكرانيا مساعيها الرامية إلى ربط شبكتها الكهربائية بالشبكة الأوروبية في عام 2005، وشرعت في العمل نحو تحقيق هذا الهدف بجدية في عام 2017، كما فعلت جمهورية مولدوفا، كان ذلك جزءًا من عملٍ متواصل يهدف إلى الاصطفاف إلى جانب أوروبا وتقليص الاعتماد على روسيا، التي هدَّدت السيادة الأوكرانية مرارًا وتكرارًا، تقول سوريا جايانتي، وهي خبيرةٌ بسياسات أوروبا الشرقية ودبلوماسيةٌ أمريكية سابقة شغلت منصب رئيس إدارة الطاقة بسفارة الولايات المتحدة في كييف في الفترة ما بين عامي 2018 و2020: "كل ما هنالك أن أوكرانيا أرادت الانسلاخ من الهيمنة الروسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتُعد الشبكة الكهربائية جزءًا من هذا الهدف"، كانت شركة «أوكرنرجو» Ukrenergo التي تتولى تشغيل شبكة الكهرباء الأوكرانية، تعتزم بعد انتهاء الفترة التجريبية في أواخر فبراير أن تعاود الانضمام بصفةٍ مؤقتة إلى المنظومة التي تمد روسيا وبيلاروسيا بالطاقة، غير أن الغزو الروسي جعل ذلك أمرًا غير مقبول، تقول جايانتي: "كانت نتيجةُ ذلك أن أصبحت أوكرانيا معزولةً، وهو أمرٌ بالغ الخطورة فيما يتعلق بإمدادات الطاقة؛ إذ يعني أنه ليس هناك مكانٌ تستطيع أوكرانيا استيراد الكهرباء منه، لقد صارت ببساطة أشبه بطفلٍ يتيم"، كان ذلك الوضع محفوفًا بالمخاطر، لا سيما في ضوء الهجمات الروسية على البنية التحتية الرئيسة للطاقة مثل محطة زابوريجيا للطاقة النووية. (ترى جايانتي أن الشبكة الأوكرانية تمكَّنت في نهاية المطاف من العمل بمفردها طوال المدة التي ظلت تعمل فيها بسبب تراجُع الطلب على الطاقة بنحو الثلث نتيجة فرار الأوكرانيين من البلاد).

عقب الغزو الروسي بثلاثة أيام، أرسلت شركة «أوكرنرجو» خطابًا إلى الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الكهرباء (ENTSO-E) تطلب فيه تصريحًا بالانضمام المبكر إلى الشبكة الأوروبية، وتقدَّمت شركة «مولدإلكتريكا» Moldelectrica، التي تتولى تشغيل الشبكة الكهربائية في جمهورية مولدوفا، بطلبٍ مماثل في اليوم التالي، وفي حين أن المشغلين الأوروبيين أرادوا دعم أوكرانيا، كان يتعين عليهم في الوقت ذاته حماية شبكاتهم الخاصة، ومن ثَمَّ لم يكن بُد من إجراء عملية الربط الطارئة بعنايةٍ وحرص شديدَين، تقول لورا مهيجان، الباحثة في شؤون الطاقة بجامعة كوليدج كورك: "يشتهر مشغلو مرافق الطاقة وأنظمتها بالحرص على تجنُّب المخاطر؛ ذلك لأنهم مسؤولون عن إبقاء الأنوار مضاءة، والحفاظ على سلامة الجميع".

وتتكون الشبكة الكهربائية من مصادر لتوليد الطاقة وبنية تحتية للنقل من أجل إنتاج الكهرباء ونقلها من أماكن مثل محطات الطاقة، ومزارع الرياح، ومصفوفات الطاقة الشمسية إلى المنازل والمستشفيات وأنظمة النقل العام، يقول دين: "لا يقتصر الأمر على تجريب منظومة الطاقة وعقد الآمال على أنها تعمل"، فلا شك أن الحصول على الطاقة في المكان والتوقيت المطلوبَين عملية معقدة، ويكون هناك هامش ضئيل للخطأ.

ويؤدي الربط الشبكي دورًا بالغ الأهمية في هذه المهمة، فيمكن للأنظمة المرتبطة أن تتشارك الكهرباء عبر مناطق شاسعة، بحيث إذا ظهر فائضٌ في الطاقة المُنتَجة في مكانٍ ما، يُسَدُّ به الطلب في مكانٍ آخر، يقول جيمس جلين، أحد كبار الباحثين في مركز سياسات الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا: "المزيدُ من الربط الكهربائي يُيسِّر نقل الطاقة بشكلٍ أسرع وأكفأ وأكثر فاعليةً من حيث التكلفة، ويجعلنا قادرين على الاستفادة من مصادر الطاقة التي تنخفض فيها الانبعاثات الكربونية أو تنعدم تمامًا"، لكن ربط هذه الشبكات الضخمة التي تضم كثيرًا من الأجزاء المتحركة ليس بالمهمة السهلة.

ومن بين التحديات الجوهرية في مسألة الربط الكهربائي مزامنة الشبكات، وهي المهمة التي أنجزتها شركتا «أوكرنرجو» و«مولدإلكتريكا» والشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الكهرباء الأسبوع الماضي، وتُعد المزامنة أمرًا ضروريًّا لتشارُك الكهرباء وتبادُلها، وتتضمن هذه المهمة مواءمة الترددات لكل مرفق من مرافق توليد الطاقة في أنظمة الربط؛ فالترددات بمنزلة دقات القلب النابضة للشبكة الكهربائية، وفي أنحاء أوروبا، تدور التوربينات المولدة للطاقة 50 مرةً في الثانية في تناغمٍ أقرب إلى المثالي، وحتى تتمكَّن أوكرانيا ومولدوفا من الانضمام إلى تلك الشبكة، كان لا بد من ضبط الأنظمة الخاصة بكلا البلدين وتعديلها بما يتلاءم مع إيقاع هذه المنظومة، يقول دين: "لا يمكننا أن نُعطِّل الشبكة الكهربائية لمدة ساعة مثلًا ثم نجرب عملية المزامنة، بل يتعين إنجاز العملية في أثناء تشغيل المنظومة"، هذا يشبه القفز في قطار متحرك أو عربة دوَّارة في مدينة الملاهي؛ فالقطار أو العربة لا يتوقفان، لذا يتعين عليك أن تُحدِّد التوقيت المناسب للقفز بمنتهى الدقة.

لكن المخاطر لا تزال قائمةً حتى بعد أن انضمت أوكرانيا إلى الشبكة؛ فربطُ الشبكات لا يعني تشارُك المنافع فحسب، بل يخلق أيضًا إمكانية حدوث مشكلاتٍ مشتركة، فقد تتسبَّب مشكلةٌ في أحد أجزاء الشبكة -كأن تتعطَّل إحدى المحطات عن العمل- في حدوث تغييرٍ في التردد يتسع نطاقه ليشمل الشبكة بكاملها، وفي أسوأ السيناريوهات، عند وجود مولِّد ليست له قدراتٌ كافية تضمن استقرار الطاقة، يُمكن أن يتسبَّب هذا المولد في تضخيم التغير في التردد وإعادة إرساله إلى الشبكة بأسرها، يقول رام راجاجوبال، أحد كبار الباحثين بمعهد بريكورت للطاقة بجامعة ستانفورد: "عندما تنتهي من عملية الربط بين منظومتين، فإنك تواجه تحديًا يتمثل في ضمان أن تكون منظومة الربط الشاملة الأكبر مستقرةً وموثوقًا بها كما كانت من قبل"، فإذا أصبحت الشبكة غير متزامنة، فإن هذا يمكن أن يُلحق ضررًا بالأجهزة الموصولة بالكهرباء، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمول وأفران الميكروويف، بل قد يمتد هذا الضرر إلى محطات الطاقة.

ثمة ضمانةٌ في مواجهة عدم استقرار الشبكات متأصلةٌ في الكثير من منشآت الطاقة الأوكرانية، ألا وهي خاصية القصور الدوراني؛ فبمجرد أن تدور التوربينات الثقيلة –على غرار تلك الموجودة في المحطات النووية التي تضمُّ جزءًا كبيرًا من إمدادات الطاقة الأوكرانية- بترددٍ معين، فإن تغيير دوران تلك التوربينات يتطلب تغييرًا جوهريًّا ومستدامًا في الطاقة؛ فهذه التوربينات لا تتأثر بالومضات الخفيفة في الطاقة المولَّدة من أجل تدويرها، ولذا يظل ترددها ثابتًا، فخاصيةُ القصور الدوراني المُشار إليها تساعد محطات الطاقة على الحد من التأثير الناجم عن التغيرات الطفيفة في الطاقة بدلًا من نقلها إلى بقية الشبكة، أما في حالة حدوث عطل كبير، فإن ذلك يمنح أنظمة الاستجابة بضع ثوانٍ ثمينة كي تبدأ في العمل.

ورغم ذلك، فإن الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الكهرباء التي تمثل 35 بلدًا كانت لديها مخاوف عديدة بشأن انضمام الشبكة الكهربائية الأوكرانية إليها، ولم تكن تلك المخاوف تتعلق باستقرار الشبكة فحسب، بل كانت تتعلق كذلك بالسوق، والأمور التنظيمية والرقابية، والأمن السيبراني والمسائل القانونية، كل هذه العوامل مجتمعةً كانت سببًا رئيسًا وراء تحديد الجدول الزمني الأصلي للمشروع بست سنوات، بل كان بعض الخبراء يرى أن إنجاز المشروع في ست سنوات كان تقديرًا متفائلًا.

خططت أوكرانيا لإزالة أسباب ما تبقى من مخاوف لدى الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الكهرباء على مدار العام الجاري، تقول جايانتي: "السبب الوحيد الذي يجعل استبعاد هذا العام واردًا هو أنه قد أُنجز بالفعل قدرٌ كبيرٌ من العمل لتأكيد جميع المواصفات الفنية، صحيحٌ أن التصريح الطارئ الذي حصلت عليه أوكرانيا هذا الشهر بإجراء عملية المزامنة يُتيح لها إمكانية شراء الطاقة، لكنه ليس بمقدورها بعد بيع هذه الطاقة، وحتى تتمكن أوكرانيا من بيع الطاقة، يتعين عليها تركيب ما يُطلَق عليه المُعوِّضات المتزامنة الثابتة، وهي أجهزةٌ تُعزِّز استقرار الطاقة وثباتها، وقد يستغرق الأمر عدة أشهر قبل أن تتمكن أوكرانيا من الحصول على تلك الأجهزة؛ نظرًا لمشكلاتٍ تتعلق بسلاسل التوريد إضافةً إلى العقبات الجيوسياسية، على حد قول جايانتي، لكن الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الكهرباء أقرَّت في الوقت ذاته ضماناتٍ إضافيةً لحماية الشبكة الكهربائية الأوروبية؛ كي تتمكن من ربط أوكرانيا بالشبكة بأي حالٍ من الأحوال.

ويرى الخبراء أنه من الأهمية بمكانٍ إدارة التوقعات حتى مع هذه المزامنة الطارئة، يقول دين: "هذا المستوى من الربط محدود النطاق نسبيًّا، صحيحٌ أنه مفيد، لكنه لن يحل محل جميع مصادر الطاقة الأوكرانية في حال تعطَّلت محطات الطاقة"، فلا تزال الكهرباء في أوكرانيا تنتقل إلى الآن من محطات الطاقة إلى شبكة التوزيع الأوسع نطاقًا في البلاد، وإذا حدث تغيرٌ في ذلك الأمر، فبمقدور أوكرانيا استيراد بعض الكهرباء من الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الكهرباء.

من المرجح أن تستمر عملية ربط الشبكة الأوكرانية بالكامل مع الشبكة الأوروبية إلى أن تنتهي الحرب وتصبح أوكرانيا قادرةً على إعادة البناء، يقول دين: "هذه هي الخطوةُ الأولى في رحلةٍ طويلة تتعلق في حقيقة الأمر بدمج أوكرانيا في المنظومة [الأوروبية] الأوسع نطاقًا بهدف دمج المزيد من مصادر الطاقة المتجددة وتشارُك الموارد"، لكن هذه الخطط "لن تتقدم قيد أنملة حتى يرفرف السلام من جديد على المنطقة؛ فالوضع الحالي شديد الخطورة بالغ المجازفة".

اضف تعليق