q
الفرد العراقي ينمو وفي داخله تبرير عميق للتسلط الناجم عن طاعة السلطة، لذا تجد السياسي العراقي أما متسلط أو خانع، أو في حالة حركة بندولية بين التسلط والخنوع، ليست الشعبوية ولا التسلط هما الداءان الوحيدان اللذان أسهم في ظهورهما فرط التصلب للثقافة العراقية وإنما هناك ظواهر سياسية أخرى سيجري التطرق لبعضها لاحقاً...
بقلم: منقذ داغر، ميشيل كيلفاند

خلال المقالين السابقين أستعرضنا باختصار شديد وقد يكون مخلّ بالمعنى الكامل، أهم الآثار (الاجتماعية) و(النفسية) المترتبة على التصلب المفرط الذي تتميز به الثقافة الاجتماعية العراقية. أما هنا فسنركز على الآثار المترتبة على التصلب الثقافي على الصعيد (السياسي). والحقيقة فأن هناك أكثر من سلوك سياسي نجم عن فرط التصلب العراقي لعل في مقدمتها الخطاب الشعبوي والطائفي فضلاً عن شيوع السلوك التسلطي ومقبوليته.

ان الشعبوية تجد لها مكاناً خصباً في بيئة شديدة التصلب مثل العراق. فالخطاب الشعبوي يقوم في جوهره على ثنائية (نحن) مقابل (هم)، هذا الخطاب شائع جدا في العراق وفي كثير من البلدان الأخرى التي تحول فيها الشعبويون الى قادة محـبوبين وأبطال مبجـلين وسط جماعتهم، صحيح ان القادة الشعبويين والخطاب الشعبوي منتشر أيضاً لدى المجتمعات ذات الثقافة الرخوة لكنه أكثر انتشاراً بكثير في المجتمعات الصلبة التي تتفوق فيها الجماعية على الفردانية. لقد تحول الخطاب الطائفي-العرقي الى جزء أساسي من مكونات الخطاب السياسي العراقي. فحين تحلل محتوى الخطاب السياسي العراقي تعثر بسهولة على ساسة (السنة والشيعة والكورد والتركمان والايزيديين والمسيحيين والصابئة …الخ) في حين تجد من الصعوبة بمكان العثور على خطاب سياسي ”عراقي” خالص من تلك الشوائب.

ولا زال من الصعب حتى على الرافضين للخطاب الشعبوي عدم التأثر به بخاصة حين يقفون أمام صندوق الانتخابات! أن ثقافة التصلب تبنى على تفوق الجماعة في أهميتها على الفرد، وعلى قمع الصوت الفردي أذا تعارض مع الصوت الجمعي.

وفي أكثر من استطلاع للرأي أجريناها أثناء دورات الانتخابات المختلفة في العراق وجدنا أن الأسرة والجماعة الأولية (عرقية أو طائفية أو دينية أو قبلية) كان لها دور حاسم في تحديد خيارات الناخبين في مقابل خياراتهم الفردية.

لا زلت أذكر صديقي أبو زهراء، المهندس المعماري، الذي أنتخب قائمة “طائفية” على الرغم من نقده الكثير والدائم لرئيسها وشخوصها وحينما سألته عن السبب أجابني “قلت لنفسي ماذا سأقول لجماعتي أذا انتخبت قائمة لا تمثل الجماعة”! كانت الجماعة بالنسبة لأبي زهراء أهم من رأيه وقناعته الشخصية!

كما إن نمو وانتشار التسلط والاستبداد هو ظاهرة من الظواهر السياسية المألوفة في المجتمعات الصلبة فما بالك بمجتمع صلب بإفراط كالعراق؟ فالفرد العراقي مثل باقي المجتمعات الصلبة ينشأ على أولوية الطاعة لمصادر السلطة التقليدية والتي تأتي الجماعة الأولية في مقدمتها كالأسرة والدين والطائفة.

قد لا تكون هناك مشكلة في طاعة هذه الجماعات كما هو الحال في كل المجتمعات الجماعية، لكنها تتحول لمشكلة حينما تكون طاعة تلك الجماعة مقدمة على طاعة المجتمع ككل. وتتفاقم المشكلة حينما تغيب المؤسسات الوطنية العابرة للجماعات كمؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية أو تقل الثقة بها كما هو حاصل لدينا. نسمع كثيراً نغمة أن الجماعات الأولية والانتماء والولاء لها نعمة ومصدر قوة وليس ضعف للمجتمع.

هذا صحيح بشرط أن يتوفر لديك السمنت الرابط لكل هذه الجماعات والقادر على تحويلها الى فسيفساء جميلة. هذا السمنت الرابط هو المؤسسات الوطنية العابرة للجماعة. هذا هو بالضبط الفرق بين مجتمعات صلبة منتِجة ومتطورة كاليابان وكوريا الجنوبية والصين وألمانيا وبين مجتمعات صلبة وغير منتِجة كالعراق. فالثقة بمؤسسات الدولة هي التي توحد الجماعات المختلفة، وهي الملجأ الموثوق لتلك الجماعات حينما تختلف. أما في العراق فحين تختلف الجماعات لا تجد طرفاً موثوقاً تلجأ اليه فيكون الصراع هو النتيجة الحتمية للخلاف. ومما يزيد الطين بلّة في العراق هو ليس فقط زيادة التركيز على الطاعة في تنشئة الأجيال وإنما عدم الاهتمام بقيَم الاستقلالية والأبداع.

فحسب مـسح القــيم الدولي الذي أجري في العراق في أعـــــــوام 2004 و 2008 و2013 و2019 فأن العراق هو أقل دولة في العالم تقريباً من حيث تأكيد الآباء على تنمية قيم الاستقلالية والأبداع لدى أبنائهم في حين أنه الأعلى في التركيز على قيمة الطاعة لدى النشأ الجديد! هذا الخليط يساعد على تقبل التسلط وظهور المتسلطين. فالفرد العراقي ينمو وفي داخله تبرير عميق للتسلط الناجم عن طاعة السلطة. لذا تجد السياسي العراقي أما متسلط أو خانع، أو في حالة حركة بندولية بين التسلط والخنوع.

ليست الشعبوية ولا التسلط هما الداءان الوحيدان اللذان أسهم في ظهورهما فرط التصلب للثقافة العراقية وإنما هناك ظواهر سياسية أخرى سيجري التطرق لبعضها لاحقاً.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق