q
التلوث البصري كلّ ما يصيب المحيط الإنساني من تشوه وإضرار وإتلاف للأصول الثقافية ذات القيمة بشكل مباشر وغير مباشر، لانّ الإنسان ينزع إلى الجمال بطبيعته الفطرية، وخير دليل على ذلك العمارة التلقائية العفوية، التي كانت ولا تزال مصدرا خصباً بمفرداتها وجوهرها، وأيضا بأثرها الواضح على العمارة وتطورها...

تعتبر التنمية العمرانية إحدى الحلقات الرئيسية والمهمة، لما لها من تأثير كبير في جملة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية التي تمس كل نواحي حياة الإنسان، وكلها مستلزمات ضرورية لتهيئة البيئة المناسبة لمعيشة الإنسان وتطوره... والسؤال الذي يطرح نفسه: هل للتنمية العمرانية آثار على البيئة كغيرها من الأنشطة الأخرى؟

في الأعوام الأخيرة كثرت الانتقادات والاتهامات الموجهة إلى مجال العمارة والعمران بالمغرب، بخصوص النتاج التشكيلي المعماري والعمراني كوجود مادي لكل من المعماريين الممارسين صانعي القرار، فقد شاع التلوث البصري في البيئة المغربية، وأصبح يمثل ظاهرة، نتيجة ظهور صور بصرية غير متزنة وغير متسقة مع محيطها لذلك كان على المعماريين أن يبحثوا لأنفسهم عن دور لائق يساهمون به في تحقيق وضع أفضل لمجتمعهم ويتحملون مسؤولياتهم المحدّدة المنوطة بهم دون غيرهم تجاه العمارة والعمران بالمغرب.

التلوّث البصري:

تعددت التعريفات “بالتلوّث البصري”، فهناك من يعرفه بأنّه “هو كل ما يتواجد من أعمال من صنع الإنسان تؤذي الناظر، من مشاهدتها وتكون غير طبيعية، ومتنافرة مع ما حولها من عناصر أخرى، فهي ملوثة للبيئة المحيطة بها بصريا”. وهذا تعريف آخر: “هو الإحساس بالنفور والتقزز من رؤية مناظر غير جمالية أو منفرة في عناصر البيئة العمرانية من كثل بنائية أو فراغات أو طرق تتعارض وتتنافر مع كل من البيئة الطبيعية والمناخية والوظيفية أو القيم الدينية والخلقية أو الحضارية أو القيم المعمارية”.

إذن هو “ما تنفر منه العين السويّة ولا يرتاح له الإنسان بفطرته، ويسبب تشوهاً للصورة البصرية، وهو ما يتنافى مع الترتيب والتنظيم الأمثل للعناصر المرئية”. فالإدراك البصري يعتمد على عنصرين أساسيين هما: الإحساس والقدرة على الإستدعاء الذهني للصورة المتكاملة متضمنة في ذلك المخزون الثقافي والخبرات والموروث المتراكم من الكم والحركة والسكون... وهذا ما يعرف بالإدراكات الحسية المكتسبة.

مما سبق نستطيع أن نصيغ تعريفا للتلوث البصري بأنّه: “كلّ ما يصيب المحيط الإنساني من تشوه وإضرار وإتلاف للأصول الثقافية ذات القيمة بشكل مباشر وغير مباشر”، لانّ الإنسان ينزع إلى الجمال بطبيعته الفطرية، وخير دليل على ذلك العمارة التلقائية العفوية، التي كانت ولا تزال مصدرا خصباً بمفرداتها وجوهرها، وأيضا بأثرها الواضح على العمارة وتطورها...

أسباب التلوّث البصري:

إنّ التلوث البصري يعدّ مشكلة، وأسبابها تنحصر في: أسباب اقتصادية، أسباب اجتماعية، مستجدات العصر، وإدارة المدينة.

- أسباب اقتصادية: أثرت بصورة واضحة على اتجاه العمارة في المغرب، حيث الهجرة القروية إلى المدن للعمل، مما أدى إلى تكدس السكان، وساعد على ظهور الإسكان العشوائي... كذلك نتيجة لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية بالمغرب، مما ساعد على نقل العمارة وانتشارها دون وعي وحدوث التلوث البصري.

- أسباب اجتماعية: بسبب بعض الأفراد في المجتمع، وقصور القوانين وضعف تطبيقها باعتبارها ذات أثر فعال على سلوكيات الأفراد، فهي توجه حركتهم داخل مساكنهم وخارجها سواء بالسلب أو الإيجاب، وتترك آثاراً واضحة على البيئة العمرانية.

- مستجدات العصر: تعد مستجدات العصر والمتمثلة في الانفجار السكاني والانتشار التكنولوجي السريع والمعدل العالي لارتفاع الأسعار العالمية والأحوال الاقتصادية ومدى انعكاسها بصورة مباشرة على تلوث المدينة المغربية بصرياً.

- إدارة المدينة: تساهم بعض المؤسسات والهيئات الحكومية المسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر في زيادة معدل التلوث البصري بها، من خلال القوانين والتشريعات العقيمة المنظمة للبناء والتعمير، أو من خلال بعض متخذي القرارات والجهات المحلية والعديد من الاستثناءات في مجال الإنشاء والتعمير.

مظاهر التلوّث البصري:

تعددت مظاهر التلوث البصري وشملت جميع القطاعات والعناصر المكونة للبيئة العمرانية، فنجدها واضحة في كل من: مسارات الحركة المختلفة، الساحات والفراغات العمرانية العامة، المناطق السكنية المختلفة والأحياء ذات الطابع المميز والخاص، المناطق التاريخية والأثرية، وعناصر التأثيث الحضري للبيئة العمرانية.

أدّت هذه المظاهر إلى تلوث المدينة وتشوهها بصرياً، وظهورها أمام المترددين عليها، سواء كانوا من ساكنيها أو زائريها بمظهر غير حضاري وغير مشرف، أضاع منه جمال وعظمة المدينة المغربية القديمة، كما أدى إلى حرمان مواطنيها من التمتّع بجمال ونظافة مدينتهم والإحساس بالراحة النفسية والأمن والهدوء الذي يساهم في زيادة الإنتاج وكفاءة العمل ودرء القلق والتوتر جانبا.

صور التلوّث البصري:

يأخذ التلوث البصري عدة صور في البيئة العمرانية فهناك:

- التلوث البصري الساكن: ويتمثل هذا النمط من التلوث البصري، فيما نراه فوق أسطح المباني، من مخلفات وقمامة وعشش وخزانات مياه وحوائط عشوائية، وأعمال إنشائية غير منتهية وتهدم، وكذلك فيما يغطي الواجهات من إعلانات صارخة وتشوهات معمارية وفنية وعدم الالتزام المهني في التصميم.

- تلوث بصري متحرك: ويتمثل في كل ما هو متحرك والمرتب بانعدام الشخصية المغربية في المظهر، مثل فوضى الأزياء وانعدام الزي الموّحد في الجامعات، والإعلانات ووسائل النقل...

- تلوث بصري مؤقت: ويتمثل في كل ما هو يتغير زماناً أو مكاناً، ويمكن ملاحظة ذلك في أي منطقة يسكنها مسؤول كبير أو يهجرها، أو في إشغالات الطرق أثناء البناء حتى تنتهي.

- تلوث بصري متعايش: وهو التلوث الذي نقاومه في البداية ثمّ يقهرنا، ونتعود عليه ونعتاده ونتعايش معه حتّى نتعجب من غيابه.

- تلوث بصري مستورد: وهو ما يفد إلينا، أو نطبقه من ملامح وتشكيلات قد تكون جميلة في موطنها إلا أنّها دخيلة على بيئتنا وعلى طباعنا وعلى ظروفنا.

مصادر التلوّث البصري:

تتنوع مصادر التلوث البصري، فقد يكون المكان مصدراً للتلوث، وقد يكون سرور الزمان مصدر للتلوث، وقد يكون الإثنان معاً. ويمكن تقسيم مصادر التلوث إلى:

تلوث ذاتي، تلوث خارجي، وتلوث متبادل.

- التلوث الذاتي: أي أنّ مصدر التلوث ذاتياً، عندما يتسبب الشيء ذاته سواء لنفسه أو للبيئة المحيطة ويصبح وجوده شاذًا في البيئة، وفي المحيط العمراني، ويؤدي إلى انهيار الاعتبارات الجمالية، سواء في التخطيط عن طريق تقليد طراز أو تعمد استخدام مبادئ البساطة الظاهرية، أو بسبب شدة احترام الإيقاع والرتابة والملل، أو بالتمادي في ابتكار علاقات معمارية شاذة وغير متنجانسة، أو بسبب الإهمال العام في مجرد محاولة خلق مباني جميلة والاكتفاء بأقل القليل من الإحساس بالجمال، وقد تكون الإضافات أو التعليات الارتجالية وتهالك المبنى وتدهورها هو السبب في ذلك التلوث الذاتي للمبنى بصرياً.

- التلوث المحيط: ويحدث ذلك التلوث من البيئة المحيطة للعمل المعماري، والتي قد تكون غير متناسقة معه، وبالتالي فالتلوث البصري سيحدث الفساد البصري للتشكيلات المكونة للمبنى بسبب ما يحيط به من عناصر غير متجانسة.

- التلوث المتبادل: هو أكثر أنواع التلوث البصري، ويكون التلوث متبادل عندما يتحرك فيه القوى المسببة له في اتجاهين من الدّاخل للخارج ومن الخارج للدّاخل، ويندرج تحت هذا التصنيف معظم مظاهر التلوث زمنياً، أو أن يكون التلوث البصري وظيفياً بمعنى أن تتضاد وظيفة المبنى تماماً مع ما يحيط به من مباني... ويحدث التلوث التبادلي دائماً على مستوى التصميم العمراني والتصميم الحضري.

إنّ اختلال التدرج الموضوعي والتتابع المنطقي لعناصر المدينة سواء وظيفياً أو شكلياً أو كلياً يؤدي إلى تلوث بصري وتخطيطي.

البيئة العمرانية وعلاج التلوّث البصري:

للارتقاء بالبيئة العمرانية وعلاج التلوث البصري بالمغرب، نقدم بعض الاقتراحات:

- ضرورة القيام بإعادة تقييم القوانين والتشريعات العمرانية والخاصة بالتخطيط العمراني وتقسيم الأراضي والإسكان وتوحيد وتنظيم أعمال البناء، والطرق والإعلانات وغيرها من قوانين يؤدي عدم تطبيقها أو التهاون في تطبيقها إلى التلوث البصري.

- إلغاء الاستثناء على كافة المستويات الوظيفية والإنشائية والجمالية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية بشكل متوازن، وذلك من خلال تعديل وضبط الاشتراطات البنائية واشتراطات التخطيط العمراني.

- اتّباع القيم الجمالية في الحفاظ على أصول عناصر التشكيل البصري والتجانس البيئي الذي يثري من البيئة العمرانية ويرتضي بها.

- تشكيل لجان عليا للتخطيط العمراني والعمارة والفنون الجميلة في كل مدينة.

- تعميق القيم الجمالية لدى الجميع: في المدارس والجامعات ودور العبادة والنوادي الرياضية وأماكن العمل، بما يرتقي بالثقافة العمرانية والمعمارية وبخاصة في جوانبها الفنية والجمالية.

- منع الإشغالات في الطرق العامة لما تسببه من تلوث بصري للبيئة العمرانية.

- التشجير للشوارع والطرق والميادين وممرّات المشاة والسعي دائماً إلى زيادة المساحات الخضراء مع توفير أماكن الانتظار المظلّلة واستكمال الإضاءة للمناطق.

- تقنين وضع الإعلانات في الشوارع والميادين وعلى المباني، وإزالة كل ما يخالف.

- تنفيذ الإزالات وتطبيق الجزاءات الفورية، بنية المحافظة على المظهر العام للبيئة العمرانية.

- الإستفادة من تجارب المدن في التعامل مع التلوث البصري للقضاء على المشكلة تماماً.

- الإهتمام بالمسابقات التخطيطية والمعمارية والفنية التي تتناول جانب البيئة العمرانية.

وأخيرا وليس آخر، فقد أصبح النّداء عاليا بالمطالبة بحماية البيئة من ذلك الإنسان الظالم لها بما ينتجه أو يساهم في إنتاجه أو بما يحدثه من ذلك في إحداثه من تلوث للبيئة... وأصبح من الضروري أن يأتي أي نشاط تنموي في تقدم به، إنتاجياً كان أو استهلاكياً ملبياً لمتطلبات المحافظة على طبيعة البيئة ومكوناتها، وأن يصاحبه استخدام رشيد وعقلاني للموارد الطبيعية... هذه الرؤية المتوازنة بين البيئة والتنمية هو ما تدعو إليه فكرة “التطور الدّائم” أو مفهوم “التنمية المستدامة والشاملة”.

* كاتب صحفي من المغرب

اضف تعليق