q
إسلاميات - اهل البيت

مشاعر الرحمة وجمال التناظر

مفاتيح النهضة والتقدم في نهج الإمام علي عليه السلام (6)

كلمة كبيرة ومشروع اساسي في بناء العلاقة مع الآخر، وكيف نتعامل معه في تواصل متبادَل، لو أدركنا حقيقة التناظر لأدركنا قيمة وحقيقة العلاقات الإنسانية، وهذه هي المشكلة الأساسية حيث أن الفكرة التي يحملها الإنسان ضد الآخرين قائمة دائما على سوء الظن وعلى احتقار الآخر والشعور بالتفوق والأفضلية واختيار القطيعة...

(ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ)

إن أيَّ مشروع سواء كان لفرد أو لمجتمع أو لأمة، لابد أن يكون متطابقا مع الواقع إذا أُريدَ له أن يكون ناجحا، فالمشاريع تكون فاشلة بشكل عام نتيجة لعدم تطابقها مع الواقع الحقيقي، ونجاحها ليس مجرد تمنيات تقود بالنتيجة نحو واقع وهمي، لذلك عندما نقرأ مناهج أمير المؤمنين (عليه السلام) ونحاول أن نركّز على اهمية هذه المناهج، نجد أنها تتطابق مع الواقع.

تطرقنا في مقال سابق إلى بعض النقاط التي تمكننا من النظر إلى العناصر التي تحكم الواقع، وتكشفه، وقد يسأل سائل، كيف نصل إلى الواقع وكيف نعرف أن هذا هو الواقع الحقيقي، بعض التجريبيين يدّعون بأن كل واقع هو ما أثبته العلم التجريبي، لذلك ليس هناك حقيقة إلا ما أثبته العلم، وحسب نظرتهم فإن كل شيء غيبي ليس بواقع.

لكنهم مخطئون، وقد العالم وقع في كوارث كبيرة جدا نتيجة لهذه الأفكار، وكانت مشاريعهم فاشلة بسبب عدم تطابقها مع الواقع، لكن المنهج الذي يميز أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو المنهج الواقعي، وللوصول الى هذا الواقع أكدنا سابقا في بحث المقدمات ان أي تغيير يبدأ من الإنسان نفسه، وأن جوهر النظام الإلهي يقوم على تناقض تام مع العنف، وأن كل الأشياء تُعرَف من خلال نتائجها.

من هنا طرحنا أن الصبر مفتاح السلام، لأن الصبر يوصلنا إلى الواقع دائما، وعدم الصبر والتعجّل أو الجزع يقودنا إلى طريق آخر بعيدا عنه، فالكلمات التي قالها الإمام علي (عليه السلام)، هي كلمات تنير الطريق لنا للوصول إلى الواقع الذي يقودنا نحو النهضة والإنقاذ.

2- الرحمة وارواء القلب بها

ومن هنا نكمل القراءة النهضوية حول منهج الرحمة، وإرواء القلب بها، حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).

سوف نركز على كلمتين (وأشْعِرْ) و(التناظر)، كلمة أشعِر تعني شَعُرَ بِالأَلَمِ: أَحَسَّ بِهِ، شَعُرَ بِالخَيْرِ: عَلِمَ بِهِ، شَعُرَ لِلأَمْرِ: فَطَنَ لَهُ، اشعر: اعلم، اشعر: جعله شعارا، والشعار هو الثوب الملاصق للجسد، أشعر قلبك الرحمة، أي اجعلها كالشعار له، فقال أشعر ولم يقل استشعر، لأن الرحمة متصلة وليست منفصلة، فهي منبع ذاتي في القلب.

هناك بعض المعاني خارج القلب، وبعض المعاني داخل القلب، والرحمة داخل قلب الإنسان، والأساس الفطري للقلب، لكن هناك تراكمات سلبية وتربية سيئة، ونوع من التعاطي السلبي في الحياة يؤدي إلى تضييق مجال الرحمة وظهور القسوة في القلب. فكل شيء يبدأ من القلب لذلك تتشكل الشخصية بما يُعبّأ به القلب بدء من الحاكم الى كل فرد فرد من الشعب..

ويؤكد الإمام علي (عليه السلام) على مفردة (أشعر الرحمة) أي كن شاعرا ومتحسسا بها في قلبك، مخرجا منه الأشياء غير الجيدة، وتعرّف على الرحمة في قلبك، واعلم بها حتى تصبح في ثابتة في قلبك وفي سلوكك وعملك وافعالك.

يكون الإنسان ظالما لأن قلبه مملوء بالقسوة وليس بالرحمة، لذلك فإن الحاكم أو الإنسان لابد أن يعمل على تكريس الشعور بالرحمة في قلبه، ويعمل بذلك ويحس بها في قلبه، ولا يسمح للأهواء والشهوات أن تملأ قلبه بالقسوة، والرحمة إذا فاضت من القلب تصبح قوية، ومنتشرة على الناس.

لذلك يقول الإمام (أشْعِرْ) وهو فعل أمر بمعنى الوجوب العقلي، أي من الواجب على الإنسان أن يُخرج نبع الرحمة من قلبه ويزرعه في سلوكه وحياته وعقله وفكره، فيكون منبع المشاعر عند الإنسان.

ويكون سلوك الإنسان مترددا بين الرحمة والقسوة، لأنه لم يجعل قلبه يفيض بالرحمة ولم يجعله الشعور الدائم في قلبه.

يجب أن يفرض على نفسه هذا الشعور بالرحمة، ويخرِّج كل الأشياء الأخرى السيئة منه، في أي موقف يواجهه، لاسيما الحاكم لأنه يشعر بالقوة والقدرة فيكون نرجسيا في مقابل أي نقد أو أي خطأ أو أي عمل تجاه الآخرين وغالبا يكون عنده سوء ظن بالآخرين، أو هناك مؤامرة عليه منهم، لذا تستطير من قلبه القسوة.

التسلط على القلب

وحين يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته (أشعر قلبك) أي كن متسلطا بقوة على قلبك، وأخرجْ منه ينابيع وفيض الرحمة، حتى تشعر دائما بالخير، ويتم بناء الرحمة في القلب من خلال الشعور بالعاطفة الفياضة، والعلم والذكاء والفطنة، أي يكون ذكيا ويعرف كيف يتحكم في مشاعره ويُخرج المشاعر الجيدة وهي مشاعر الرحمة التي تكون أم المشاعر، فالإنسان الرحيم تخرج من قلبه كل أنواع المشاعر الطيبة.

أما القلب القاسي فلا يستطيع أن يعطي المشاعر الطيبة، وتكون مشاعره سوداوية دائما، يتحكم به اليأس والاحباط والتعامل السيّئ مع الناس، والتصادم معهم، وتسيطر عليه حالة الطمع والحرص والحسد، ولذلك لابد للإنسان أن يُجْبِر ويُشْعِر قلبه بالرحمة حتى تفيض وتكون هي المبدأ الأساسي لكل المشاعر الخيرة.

كل هذا هو انبثاق للرحمة عندما تكون الرحمة هي البنية الأساسية للإنسان، حينئذ يخرج منها كل الأشياء الجيدة، أو تأطير الرحمة لها، ولذلك يقول (أشعر قلبك بالرحمة)، حتى تكون المبدأ الأساسي للوقوف أمام العنف وضد التسلط على الناس بالقمع والقوة والإرهاب والتعذيب.

الرحمة شعار واقعي للحياة الجيدة

من معاني (أشعر قلبك) أن يجعلها كالشعار له، وهو شعار كسلوك عام أنه معروف بالرحمة، بالإضافة إلى أنه شعار له يلبسه أي يعرف به كعلامة له، يُقال أن الشعار ثوب ملاصق للجسد، أي يتلبّس بهذا الشعار، ويكون لباسا له، أي من الجهتين الداخلية والخارجية يحميه ويجعله جميلا، والناس حينئذ سوف يطمئنون عندما يعرفون أن هذا الحاكم شعاره ولباسه الرحمة.

إذا كان الحاكم قاسيا فإن الناس يعيشون الخوف والرعب دائما، وإذا كان لباسه الرحمة ومتلبّس بها، فإن الناس يعيشون الأمن النفسي بشكل دائم، وهو أساس كل أنواع الأمن الأخرى، والثقة والراحة النفسية والاطمئنان عند الإنسان.

لذلك فإن (أشعر...) هو بناء الإطار أو البنية الاستراتيجية لأي مشروع ناجح، والرحمة هي مشروع واقعي للحياة الجيدة، والقسوة مشروع فاشل منتج للحياة السيئة.

الرحمة متّصلة بالإنسان

لماذا قال الإمام علي (عليه السلام) (وأشعر قلبك الرحمة) ولم يقل بـالرحمة؟، هنالك فرقان هما: إذا قال أشعر قلبك بالرحمة، بمعنى أن الرحمة منفصلة عن الإنسان، أي يستوردها ويكتسبها ويضعها في قلبه، ولكن عندما قال (أشعر قلبك الرحمة) وصارت مفعول به، هذا يعني أن الرحمة متصلة بالإنسان، وأساسها موجود في الإنسان، ولكن لابد للإنسان أن يوقد جذوة هذه الرحمة ويبعثها في فكره وعمله وسلوكه وحياته.

هذا الكلام عظيم ويعتبر منهج أساسي من مفاتيح التقدم، ولابد أن نفهم هذا المفتاح جيدا، ولا تسيطر علينا نوازع العصبية والنزوع نحو العنف والقسوة، والتصادم والشعور بالتوحش فهذا خطأ كبير، ومشروع فاشل في الحياة، لذا لابد أن تكون هناك نزعة قوية جدا في قلوبنا، من أجل بناء الرحمة المتكاملة.

هناك كثيرون يقولون أن الإطار العام النافع اليوم هو العصبية والعنف، ولكن هذا من الأخطاء الشائعة عند الناس، فالقسوة نوع من التكاسل والتراخي، الرحمة سهلة وليست صعبة، القسوة هي الصعبة، ولكن لماذا يختار الإنسان الجانب السيّئ دائما؟

لأن أفكاره مغشوشة وغير صافية، ومخلوطة بأوهام سيئة، وملوثة بالسوداوية، وردود أفعال انفعالية، ويستطيع بسهولة ان يخرج نفسه من ذلك الظلام عبر إشعار النفس بالرحمة، والتعود على الاشعار بالترويض والاستمرار والاستقامة عليه، ويمارسه دائما ويشعر به حتى يستطيع أن يكون سعيدا في حياته ونافعا لغيره.

بناء الإنسان لنفسه

إن بناء الإنسان لنفسه مهم جدا للتحصن وعدم الوقوع في البيئة السوداوية التي تجعله يعيش التعاسة كما نلاحظ في عالم اليوم، فالتعاسة تسيطر على الناس بسبب غياب مفهوم الرحمة، فالرحمة إذا فاضت في قلب الإنسان يفيض بالخير والعافية والأمان على كل الناس لاسيما إذا فاضت الرحمة عند الحاكم. لكن هناك حاكم يتلاعب بالناس وهو في أغلب الأحيان يأخذ دور الإله للأسف الشديد، (أنا ربكم الأعلى) حتى وإن لم يقل ذلك علنا وإنما في قلبه، فأفعاله تدل على ذلك بسبب وجود السلطة والقوة والقدرة لديه ويستولي عليه الغرور والكبر.

ولكن حين يملأ قلبه بالرحمة، سوف يبدأ هذا القلب بالامتلاء الصحيح والسليم بالقيم الصحيحة، بالخير والصبر والفهم والكرم والشجاعة، ويبدأ في بناء جديد، وهذا هو معنى ادراك الواقع، وحين نتكلم بهذا الكلام، هناك البعض يقولون أنتم مثاليون وتبحثون عن المستحيل، ولكن هذا هو الصحيح والممكن، وأن هؤلاء الذين يقولون بأننا مثاليون ويرضخون للأمر الواقع فإنهم يعيشون في عالم آخر مثخن باليأس، عالم بديل صنعوه للبقاء في عالم التعاسة والشك.

نحن الذين نبحث عن تغيير واقعنا وأنفسنا، ولكن هؤلاء يعيشون في سجن العبودية، بقلوبهم الممتلئة بتلك الافكار السوداء، بينما الرحمة هي عالم مفتوح خارج السجن سجن القسوة والعنف والتبلد، للعيش في عالم حر لأن الرحمة تحرر الإنسان من العبودية للأشياء والأفكار السيئة.

تكريس التناظر الإنساني

(واشعر نفسك الرحمة) لاستئصال العنف من قلبك، الواقع الحقيقي نقيض للعنف، وهو الواقع الكوني، لأن النظام الكوني في اساسه سلام وصدق، والعنف نقيض له، لذلك يقول له (ولا تكن عليهم سبعا ضاريا)، اخلع هذا العنف من قلبك حتى تصل إلى عملية تكريس التناظر الإنساني.

(أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلْق)؟، التناظر كلمة مذكورة في كثير من العلوم، تستعمل في علوم الرياضيات والأحياء والفيزياء وعلم النفس وعلم الاجتماع.

لكن ماذا تعني في أساسها، إنها تعني عملية بناء التوازن والانسجام، الذي يتطابق مع الواقع الكوني والنظام التكويني، حتى نصل إلى الحقيقة، والحقيقة هي التفاعل والانسجام بين الفكرة والواقع، فتكون عندنا حقيقة، عندما تكون الفكرة خارج إطار الواقع هذه ليست حقيقة. لذلك هم أرادوا أن يصنعوا واقعا مهلهلا، باختراع الحقيقة النسبية، هذه الحقيقة النسبية أدخلت العالم في عوالم متناثرة وضياع وتيه وهذا بحث آخر تطرقنا إليه سابقا.

التناظر لبناء الجسور

حين يقول الإمام علي (عليه السلام): (نظير لك في الخلق) يعني التناظر بين البشر، وهو الانسجام، التوازن، التكامل، التفاعل، التواصل، التوافق، التبادل ورفع كل الحواجز الوهمية التي تكون بين البشر، وتصنع الصدام والعنف، وتصنع الطبقية في فئات مختلفة متنازعة متحاربة، الارستقراطية، الاقطاعية، العنصرية، بالنتيجة مسميات كثيرة ولكن كلها قواطع تفصل بين البشر وتمنعهم من التواصل والتفاهم والتفاعل والتعايش.

لذلك (نظير لك في الخلق) كلمة كبيرة ومشروع اساسي في بناء العلاقة مع الآخر، وكيف نتعامل معه في تواصل متبادَل، لو أدركنا حقيقة التناظر لأدركنا قيمة وحقيقة العلاقات الإنسانية، وهذه هي المشكلة الأساسية حيث أن الفكرة التي يحملها الإنسان ضد الآخرين قائمة دائما على سوء الظن وعلى احتقار الآخر والشعور بالتفوق والأفضلية واختيار القطيعة والجفاء واستخدام العنف ضده.

سوء الظن وعدم الثقة بالآخر يؤدي دائما إلى أزمات ومشكلات والاختلال في التوازن، ولكن (نظير لك في الخلق) هو بناء التوازن الذي نحتاجه للوصول إلى تحقيق الواقع، ومن خلال تحقيق الواقع، نستطيع أن نرى أفكارنا بوضوح تام، ووعينا جيد ونعيش حالة اليقين، وليس حالة الشك والتردد والخوف والقلق، لذلك فإن التناظر جوهري في عملية البناء الاجتماعي البعيد عن هيمنة العنف، التناظر يعني ابتعد عن العنف مع الآخر، وكن سلميا معه، حاوره واسمع ماذا يقول له من كلام، فالتناظر هو دعوة إلى فهم الذات من خلال فهم الآخر للوصول الى السلام والتفاهم والتعايش ودعوة إلى احترام الآخر واحترام حقوقه، فالذي يحارب الآخر يحارب ذاته التي يستولي عليها الشك والخوف.

نحن جميعا نعيش في بيئة واحدة وعالم واحد، وليس في عوالم مختلفة، لكن للأسف الشديد في هذه الأيام وفي ظل هذا الواقع الذي نعيشه، هناك حركة نحو الانغلاق والانسداد وتكريس التنافر، وهذه مشكلة نحتاج إلى نفهمها ونعالجها.

أنا أرى أن التناظر (نظير لك في الخلق) هو علم خاص طرحه الإمام علي (عليه السلام)، نحتاج إلى أن نبحثه وعلى ضوئه نضع المناهج اللازمة للعيش الحقيقي، ولفتح أبواب التقدم والنهضة في حياتنا.

3- العفو المطلق

النقطة الثالثة في منهج الإمام علي (عليه السلام) في السلم والتآلف هي العفو المطلق، يقول الإمام علي (عليه السلام): (فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ). هذا الكلام مرتبط مع الكلام السابق في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، لذلك هذا الكلام متسلسل وطويل في الرسالة، فنصل إلى هذه النقطة التي تميّز منهج الإمام علي (عليه السلام) تمييزا كاملا (أعطهم من عفوك وصفحك).

ما هو الفرق بين العفو والصفح؟، العفو هو المسامحة العملية الجزئية، أما الصفح فهو المسامحة الشاملة التي تنبع من العقل والفكر والقلب والسلوك.

عندما يقلع الإنسان كل ما يحمله من ضغينة تجاه ذلك الطرف، يصفح عنه كما في المثل الشعبي المعروف (أقلب صفحة)، تجاوز الصفحة السابقة المكتوب فيه ضغائن وكراهية وادخل في صفحة بيضاء جديدة، يقول القرآن الكريم: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) سورة الحجر آية (85).

الصفح جميل بحد ذاته، ولا يوجد صفح غير جميل، والجمل في العفو هو العفو المطلق، وهذا الجمال يتناسق مع النظام الكوني، فالعفو المطلق جميل لانه تكامل بين الأرض والسماء وتناغم بين العقل والقلب، وبناء السلامة النفسية.

ما معنى الصفح الجميل؟

الصفح حين يتنازل الإنسان ويخرج من نفسه إلى سموّ روحي عالٍ، ينتزع كل النوازع السلبية من قلبه، ويصبح قلبه أبيضَ، هذا هو معنى الصفح الجميل، وعندما يعبر الله تعالى عن الصفح بالجمال، فهذا يعني أنه العفو المطلق، فكم هو جميل هذا الإنسان الذي يصل إلى مرحلة العفو المطلق، وهو المسامحة الكاملة بكل أجزائها العملية والسلوكية والفكرية والقلبية، أي يستأصلها من قلبه.

أي أنه يقلع كل النوازع السيئة من قلبه تجاه الآخر بما في ذلك لا يعاتبه ولايلومه، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في قوله تعالى: (فاصفح...) العفو من غير عتاب.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (ما عفا عن الذنب من قرع به).

الصفح الجميل هو أن لا يعاتب الآخر، والعتب شيء بسيط، حتى العتب الذي يعدّ أبسط شيء في الإنسان يجب أن يُخرجه من قلبه، فقد يكون سامح الآخر ولكن قد يبقى شيء في قلبه ويريد أن يعاتب الآخر، (أي لماذا قمت بهذا العمل؟)، حتى هذا العتب البسيط لا تفعله وهذا هو معنى العفو المطلق. وهذه الصفة هي التي تقود الإنسان نحو الجمال، وهي من أهم صفات الحاكم العادل.

عندما تكلّم الإمام علي (عليه السلام) في رسالته إلى مالك الأشتر عن العفو والصفح، فقد تمثّل بأخلاق الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، ولابد أن نعيش حياتنا متمثلين ومجسّدين لها، بالرحمة والعفو والصفح، والتعامل الطيب مع الآخرين، فقد (يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه)، فلا تحاسبهم وتعاقبهم على الاشياء الصغيرة.

اليوم إذا ذهب المواطن إلى دائرة حكومية، فهذه الدائرة مرتبطة بالحكومة والحاكم (رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، الوزير، المحافظ، المدراء)، وعندما يعاتبه الموظف ويقول له، إن معاملتك فيها إشكال صغير، والموظف يستطيع أن يصحح هذا الخطأ أو الإشكال لكنه لا يقوم بذلك، فيعاقب المواطن البسيط بعدم إكمال معاملته، فمن هو المسؤول عن هذا؟؟

الموظف مسؤول عن ذلك ومديره أيضا، والمحافظ، والوزير ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية والبرلمان مسؤول أيضا، فكلهم مسؤولون عن هذا العمل والتعامل الخاطئ الذي قام به الموظف، فالإمام (عليه السلام) لا يخاطب مالك الأشتر فقط، بل هذا الخطاب لكل حاكم وكل من يعمل مع الحاكم لابد أن يعمل بمنهج (العفو الطلق) مع الجميع.

لكي يستطيع أن يكسب ثقة الناس ويحقق راحتهم وأمنهم، وإلا كان سبعا ضاريا، فمن لا يستعمل العفو والصفح مع الناس، فهو الوحش الضاري الذي لا يساعد الناس بل يعاقبهم ويظلمهم ويؤذيهم.

الصفح تناغم بين القلب والعقل

هناك تكامل بين الأرض والسماء في منهج العفو والصفح، وبين الكون والأرض، وتناغم بين العقل والقلب، وبناء السلامة النفسية الجسدية للإنسان، لأنه يحرره من كل السلبيات والعداوات والضغائن التي تكون موجودة فيه، وهو منهج مترابط مع منهج الرحمة التي تطرقنا إليها سابقا.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ۗ وإن الساعة لآتية ۖ فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم) الحجر (85). كلمة الخلاق تعني أعظم المبدعين، وهو صاحب الإبداع، فخلق الكون، فالله سبحانه وتعالى هو الحق، وخلق الكون بهذا الانسجام، وأي شيء يخرج من النظام الكوني لابد أن يكون فيه رحمة وصفح، وهذا هو الجمال الكوني الذي عبر عنه القرآن الكريم. (الخلاق العليم)، والعلم يعطيك القدرة على الوصول إلى الواقع وتفهمه، بعد التعقّل والتدبّر والتأمل.

وعن الامام علي (ع): (كن جميل العفو إذا قدرت، عاملا بالعدل إذا ملكت). فـ (من لم يحسن العفو أساء بالانتقام).

فإذا لم يكن الحاكم متسامحا متساهلا مع الناس وساعيا في قضاء حوائجهم سوف يكون منتقما منهم، ويسئ لهم ويعنفهم، ويكون سبعا ضاريا عليهم، لذلك إذا أردنا أن نؤسس لدولة أو حكومة أو مجتمع أو حتى مدرسة، فيها رحمة وحياة سعيدة وتوازن وانسجام، لابد أن يكون عندنا منهج العفو المطلق.

علينا أن نتأمل في معنى الجمال، لأن الجمال الحقيقي يكمن في الانسجام والتناغم والتوازن الذي تنبثق منه الرحمة والعفو والصفح.

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق