q
جميعنا مسافرون عبر الزمن في رحلة تمنحنا تجارب جديدة كل يوم، وفي أثناء ذلك، يحاول الدماغ استيعاب هذه التجارب عن طريق ضبط الروابط اللانهائية بين الخلايا العصبية بداخله، يبدو الأمر وكأننا نعيد تركيب ذواتنا كل يوم، ولكننا نحتفظ في الوقت ذاته بصورة ذهنية ثابتة عن ذواتنا في الحاضر...
بقلم: روبرت مارتون

تؤدي إحدى مناطق الدماغ دورًا محوريًّا في قدرتنا على صياغة هوية ثابتة والإبقاء على تصور دائم لها في الوقت الحاضر وعند التفكير في المستقبل.

جميعنا مسافرون عبر الزمن في رحلة تمنحنا تجارب جديدة كل يوم، وفي أثناء ذلك، يحاول الدماغ استيعاب هذه التجارب عن طريق ضبط الروابط اللانهائية بين الخلايا العصبية بداخله، يبدو الأمر وكأننا نعيد تركيب ذواتنا كل يوم، ولكننا نحتفظ في الوقت ذاته بصورة ذهنية ثابتة عن ذواتنا في الحاضر، وأن الذاكرة هي الوظيفة التي تحافظ على ثبات هويتنا الجوهرية.

نحن لا نسافر في الزمن المادي فحسب، بل نمر كذلك بتجربة السفر الذهني عبر الزمن؛ فنحن نزور الماضي من خلال ذكرياتنا، ونسافر إلى المستقبل عندما نتخيل ما قد يأتي به الغد أو العام المقبل، عندما نفعل ذلك، فإننا نتحرك بين تصوُّر ذواتنا في الحاضر، وتذكُّر مَن كنا في الماضي، وتخيُّل كيف سنكون مستقبلًا.

وقد نشرت مؤخرًا دورية «سوشيال كوجنيتيف آند أفيكتيف نيوروساينس»Social Cognitive and Affective Neuroscience (SCAN) دراسةً استكشفت قدرة إحدى المناطق الموجودة في الدماغ على تربيط تصوراتنا عن ذواتنا الحالية والمستقبلية، وأن الإصابات التي قد تلحق بتلك المنطقة تتسبب في قصور تصورنا عن هوياتنا، وقد تكون هذه المنطقة -التي تُسمى القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة (vmPFC)- مسؤولةً عن صياغة صورة جوهرية لذواتنا وتثبيت هذه الصورة في الزمن الذهني، ومن ثم تصبح هذه المنطقة الموجودة في أدمغتنا مسؤولةً عن تصوُّرنا لذواتنا.

كان اختصاصيّو علم النفس قد لاحظوا منذ وقت طويل أن عقولنا تعالج المعلومات المتعلقة بذواتنا على نحوٍ مختلف عن معالجتها لأي تفاصيل أخرى، كما وجدوا أن استدعاء الذكريات التي تشير إلى الذات يتم غالبًا بطريقة أسهل من أشكال التذكّر الأخرى، إذ تعتمد تلك الذكريات على ما سمَّاه الباحثون «تأثير المرجعية الذاتية» (SRE)، الذي يمنح المعلومات المتعلقة بذواتنا امتيازًا خاصًّا ويجعلها أكثر بروزًا ضمن أفكارنا، كذلك وجد اختصاصيو علم النفس أن الذكريات المرتبطة بذواتنا تتميز عن كلٍّ من الذاكرة العَرَضيّة، التي تضم الذكريات المتعلقة بأحداث وتجارب مُحَددة، والذاكرة الدلالية، التي ترتبط بمعرفة أعم، مثل ألوان العشب وخصائص الفصول.

وعليه، يصبح «تأثير المرجعية الذاتية» وسيلةً لفهم الدور الذي تؤديه العمليات الدماغية في صياغة تصوُّرنا لذواتنا، وهو الأمر الذي اهتم الباحثون في هذا المجال بدراسته دراساتٍ متعمقة؛ فعلى سبيل المثال، استعانت بعض الأبحاث السابقة بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي طريقة تقيس تدفُّق الدَّم بوصفه مقياسًا لنشاط الدماغ، وذلك لتحديد مناطق الدماغ التي تسبب «تأثير المرجعية الذاتية» في تنشيطها، وقد وجدت هذه الدراسات أن المنطقة الدماغية المسماة «القشرة أمام الجبهية الإِنْسِيّة» (mPFC) مرتبطة بعملية التَّفكر في الذات، وفي الوقت ذاته، نجد أن القشرة أمام الجبهية الإِنْسِيّة تنقسم بدورها إلى قسم علوي يسمى المنطقة الخارجية، وقسم سفلي يسمى المنطقة البطنية، يسهم كلاهما بأوجه متعددة في صياغة أشكال التفكير المرتبطة بذواتنا، يؤدي القسم الخارجي دورًا في التمييز بين الذات والآخَر، كما يبدو أن هذا القسم مرتبطٌ بأداء المهمات المختلفة، في حين يُسهم القسم البطني -أي القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة- بشكل أكبر في التعامل مع العواطف.

وقد استعان الباحثون في هذه الدراسة الجديدة التي نشرتها دورية «سوشيال كوجنيتيف آند أفيكتيف نيوروساينس»،Social Cognitive and Affective Neuroscience (SCAN) بعامل «تأثير المرجعية الذاتية» لتقييم تصورات الأشخاص عن ذواتهم الحالية والمستقبلية من بين المصابين بإصابات دماغية في منطقة القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة؛ فقد درس الباحثون حالات سبعة أشخاص ممن تعرَّضوا لإصابات في هذه المنطقة وقارنوهم بمجموعة ضابطة مؤلَّفة من ثمانية أشخاص لديهم إصابات في أجزاء أخرى من الدماغ، بالإضافة إلى 23 شخصًا سليمًا لا يعانون من أي إصابات في الدماغ، وبمقارنة هذه المجموعات، تسنّى للعلماء دراسة ما إذا كانت إصابات الدماغ بشكل عام أو تلك التي تصيب القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة على وجه التحديد تتحكم في «تأثير المرجعية الذاتية» أم لا، وقد خضع جميع المشاركين في الدراسة لاختبار عصبي نفسي شامل أظهرت نتيجته صلاحيتهم للخضوع لمجموعة متنوعة من الاختبارات المعرفية، من ضمنها قياسات الطلاقة اللغوية والذاكرة المكانية قصيرة المدى، ثم طلب الباحثون بعد ذلك من المشاركين تحديد مجموعة من الصفات يرونها في أنفسهم وكذلك مجموعة من الصفات يرون بها أحد المشاهير في كلٍّ من الوقت الحاضر وبعد مرور عشرة أعوام، وفي وقت لاحق، كان على المشاركين استدعاء هذه الصفات كاملة.

اكتشف الباحثون أن الأشخاص في المجموعة الضابطة تمكنوا من استدعاء عدد من الصفات المرتبطة بذواتهم في الحاضر والمستقبل أكبر من عدد الصفات المرتبطة بهؤلاء المشاهير، بعبارة أخرى، وجد الباحثون أن «تأثير المرجعية الذاتية» يشمل كلًّا من الذات المستقبلية والذات الحالية، وعلى الرغم من وجود بعض التبايُن داخل هذه المجموعة؛ إذ كان الأشخاص الذين لديهم إصابات في الدماغ أقل قدرةً من المشاركين الأصحاء على استدعاء التفاصيل المتعلقة بذواتهم المستقبلية، إلا أن «تأثير المرجعية الذاتية» ظهر بوضوح في الاختبارات التي أُجريت على هذه المجموعة.

ولكن جاءت نتائج الاختبارات التي أُجريت على الأشخاص الذين لديهم إصابة في القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة (vmPFC) مختلفةً اختلافًا بيِّنًا؛ إذ أظهر الأشخاص الذين لديهم إصابات في هذه المنطقة قدرةً ضئيلةً أو معدومة على استدعاء المرجعيات الذاتية، سواء في الحاضر أو في المستقبل، كما جاءت قدرتهم على تذكُّر النعوت التي استخدموها في وصف المشاهير سواءٌ في الحاضر أو المستقبل ضعيفةً للغاية بالمقارنة ببقية المشاركين، كذلك بدا هؤلاء الأشخاص ذوو الإصابات في القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة أقلَّ إيمانًا بقدرة الفرد على امتلاك سمات معينة بالمقارنة بالمشاركين الآخرين في الدراسة، تشير هذه الأدلة كلها إلى الدور المركزي الذي تؤديه القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة في تشكيل الهوية والإبقاء على تصور ثابت لها.

تُعَد النتائج الجديدة مثيرةً للاهتمام لعدة أسباب: يُمكِن أن تساعدنا إصابات الدماغ على فهم الوظيفة العادية لتلك المنطقة من الدماغ، كما توضح الدراسة الارتباط بين إصابات القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة وتغيُّر الشخصية وتبلُّد العواطف وعدد من التحولات في الوظائف العاطفية والتنفيذية، توضح الدراسة أيضًا أن الإصابات التي تلحق بهذه المنطقة تؤدي في أغلب الأحيان إلى حدوث تَخْريفات، أي ذكريات كاذبة يسردها الأشخاص بثقة كبيرة على أنها حدثت بالفعل، وقد يجنح البعض إلى فهم هذا النوع من التَّخْريف على أنه كذب مُتَعَمَّد أو كذب خلَّاق، إلا أن الأشخاص الذين يُخَرِّفون لا يدركون أن قصصهم كاذبة، إذ يمكن أن يكون الالتباس الذي يواجهونه ناجمًا عن خلل في آليات استعادة الذكريات وتتبُّعها.

وعلى نطاق أوسع، توضح الدراسة اعتماد الذكريات المتعلقة بذواتنا -وهي الذكريات الضرورية للحفاظ على إحساسنا المحوري بهويتنا- على الوظيفة التي تؤديها القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة، لكن ماذا عن ذواتنا الماضية؟ من المثير أن الدراسات السابقة التي طلبت من المشاركين التفكير في ذواتهم الماضية لم تسجل تنشيطًا في القشرة أمام الجبهية الإِنْسِيّة أكثر من الذي سجلته عند التفكير في شخص آخر، وهكذا، يبدو أن ذواتنا الماضية غريبةٌ على أنفسنا، كما لو كانت تخص أشخاصًا آخرين، وقد قدم الباحثون طرحًا يساعد على فهم هذا التفاوت، وهو أننا ربما لا نكون مترفقين في الأحكام التي نصدرها على ذواتنا الماضية، وأننا نستخدم الماضي حتى يساعدنا في المقام الأول على صياغة تصور إيجابي عن ذواتنا الحاضرة، بصيغة أخرى، فإننا قد ندرك عيوبًا في السلوك الذي سلكته ذواتنا الماضية، ولهذا فإننا نميل إلى الاحتفاظ بمسافة بين ذواتنا الحاضرة والصورة التي كنا عليها من قبل.

إذًا فإن وضع الحاضر والمستقبل في دائرة الضوء أمرٌ جوهري لفهم الآلية التي تصوغ بها عقولنا وأفكارنا هوياتنا الحالية؛ فمن نواحٍ عديدة، من المنطقي أن يكون للقشرة أمام الجبهية الإِنْسِيّة دورٌ مهمٌّ في استدعاء التفاصيل في الحاضر وتخيُّل التفاصيل المستقبلية (التي تتشكل بدورها عن طريق الذكريات التي نستدعيها في الحاضر)، وتضم القشرة أمام الجبهية -ومن ضمنها القشرة أمام الجبهية الإِنْسِيّة- شبكةً تُسهم في عملية التخطيط المستقبلي، وتتضمن هذه الشبكة الحُصَيْن، وهو بنية دماغية تؤدي دورًا مركزيًّا في تشكيل الذاكرة العَرَضيّة التي يمكنها تتبُّع الوقائع في صورة أحداث متتابعة زمنيًّا، وكان الباحثون قد توصلوا في دراسات سابقة إلى أن التأثير على نشاط الحُصَيْن يؤدي إلى تغيير التخيلات الإبداعية والمستقبلية، مما يشير إلى الدور المُهِم الذي تؤديه هياكل الدماغ الداعمة للذاكرة في تخيُّل المستقبل؛ ففي الواقع، بينما نَعُدّ الذاكرة في كثير من الأحيان أداةَ تسجيلٍ دقيقةً ومحايدة موضعها الدماغ، فقد وصفها بعض العلماء بأنها جزءٌ من قدرتنا على التخيل.

تتجسد أهمية التفكير المستقبلي للبشرية جمعاء في الشخصية الأسطورية بروميثيوس (الذي يعني اسمه حرفيًّا: "المُفَكِّر الأول")، وهو راعي الفنون والعلوم، وفقًا للأسطورة اليونانية، فقد شكَّل بروميثيوس البشر من الطين وأنعم عليهم بمنحة النار ومهارات الصناعة، وهي الأعمال التي تعكس القدرة على تخيُّل مستقبل جديد، ولا يزال الجدل دائرًا حتى الآن حول ما إذا كان التفكير في المستقبل قاصرًا على البشر، ولكن على الرغم من أن طيورًا مثل طيور القيق الغربية على سبيل المثال تتوقع احتياجاتها الغذائية المستقبلية وتخطط لها، إلا أنه من الواضح أن التفكير المستقبلي قد أدى دورًا مهمًّا في تطور البشر، إذ من المحتمل أن تكون تلك القدرة قد أسهمت في تطور اللغة، كما أن لها دورًا رئيسيًّا في تحقيق التواصل بين البشر، إذ تؤدي القشرة أمام الجبهية البطنية الإِنْسِيّة لدى البشر وظيفةً جوهريةً في تقييم السياق الاجتماعي والاستفادة منه، وبفضل هذه الأبحاث الجديدة أصبح لدينا الآن فكرة أفضل من أي وقت مضى عن المكان الذي تتشكل فيه هذه القدرة المحورية داخل الدماغ.

اضف تعليق