q

حينما كنا صغارا، كانت الحياة في عيوننا كوجبة شهيّة نحتفي بها ونستمتع في تناولها كل يوم، كانت كرحلة ترفيهية لمهرجان يضم كل ما يثير الاهتمام والتساؤل والبهجة والحماس، كانت أيامنا كربيع أخضر يزهر ويتجدد ولا يذبل!. إلا أننا أصبحنا على ما يبدو نعيش في طاحونة تهرس أيامنا، غارقين في لجّة من الأعمال التي لا شاطئ لها ولا مرفأ، تتشابه الألوان والأصوات والأشخاص والأماكن فيها، حياة رتيبة نفعل فيها الأشياء ذاتها في كل يوم!.

إنه بلاء مُنيت به البشرية، مرض قاتل إسمه: الروتين، وأعراضه: الملل ..روتين وملل؛ كلمتين يتمخض عنهما كم هائل من الأزمات النفسية والاجتماعية وحتى الدينية والنتيجة شقاء وفشل، فالشقاء كما يعرفه الشاعر الفرنسي بودلير: "هو أن تجد ما اعتدت عليه". وقد كشفت الدراسات النفسية، ان الاستمرار في العمل بنمط واحد ومحدد لفترات طويلة يؤدي الى الملل والرتابة ثم إلى الكآبة والإحباط.

تغيير نمطية العيش

وهذه حقيقة تواجهنا طيلة حياتنا ونسعى بكل جهدنا أن نعثر على طرق لمعالجتها، لذلك ترانا دائما ما نبحث عن كل جديد وغريب، فنغيّر ونبدّل الأعمال والناس والكتب والأماكن والأكلات وسواها. فنجد أننا نزمع السفر (لنغيّر جو) ونحدّث هواتفنا بأخرى تحوي برامج مثيرة ونستبدل أثاث بيوتنا ونقلب نظام ساعاتنا اليومية فقط لنكسر الروتين المقيت.

إن الملل شعور طبيعي يصيب الجميع، ولذلك يقول الحديث الشريف: (روّحوا عن قلوبكم ساعة بعد ساعة). لكن الملل يصبح خطيرا عندما يهدد العلاقات مع الخالق والمخلوق، لأنها (بظننا) باتت روتينا واستمرت على وتيرة واحدة!.

فنجد الرجل ذاك الذي يصبح ويمسي على موّال زوجته اليومي يقرر بين ليلة وضحاها أن يتزوج أخرى ليس لأنه (يحتاج) بل لأنه (زهق)، وتلك امرأة تعبت من أعمال البيت التي لا تنتهي وثُقِل كاهلها من أعباء الأسرة ومشكلاتها ومتطلباتها، فقررت أن تدرس أو تباشر إحدى الوظائف ليس لأنها (تريدها) بل لأنها (ضجرت) من حياتها اليومية المعتادة!، لذا ربما نقرأ كتب التاريخ والأدب العالمي ليس (للمعرفة) بل للترفيه ومراوغة الوقت!.

لقد أصاب الناس الملل من هذه الكرة الأرضية التي تدور كل يوم، ذات الشمس تشرق وتغرب، فانطلقوا يبحثون عن كواكب أخرى مختلفة فيها كائنات غريبة لا تشبهنا، وإن لم يساعدهم الواقع في تحقيق هذه الأمنية دخلوا عالم الخيال وساعدتهم شركات "قتل الملل"، فألفوا القصص والروايات وأنتجوا أضخم الأفلام، وتفننوا في صناعتها وتقديمها.

باتت أيامنا كالمسلسلات المدبلجة ذات الـ ثلاثمائة حلقة والتي لن تحتاج سوى لمشاهدة الحلقة الأولى والأخيرة لمعرفة شخصيات ومصير الأبطال فيها، لأن أحداث المنتصف وبكل بساطة معادة ومكررة.

أصبحت خيارات قتل الملل شغلنا الشاغل، وفي هذه الدوّامة نسينا أو تناسينا أننا أمام حقيقة أخرى وهي أننا نجري وراء سراب!، إن عجلة الأيام تمضي، إننا نُستهلَك ولا نعمل، لذلك قلّ من ذاق طعم السعادة وهو يحاول تغيير روتينه اليومي بهذه الطرق، فسرعان ما تفقد هذه الأشياء معناها يوما بعد يوم لنزفر بسخط وتأفف ونردد تارة أخرى: ملل!..

بلا شك كلنا نهرب من الروتين، لكن الى أين وكيف وبأية وسيلة؟، جواب هذه الأسئلة هو ما يحدد قيمة ما نقوم به ومدى جدواه.

أيقِظ شمس الربيع

يستخدم علماء النفس نوعا من البقع، يقدمونها لمن يعاني مشكلة ما، ويسألونه عن معاني هذه الأشكال، وكل واحد يرى في هذه الأشكال او من هذه البقع حالته النفسية، فيشخصون الخلل وتتعدد طرق العلاج، ولكن في جلّها يركزون على نقطة مهمة وهي "تغيير الاتجاه الذهني".

وهذا ما نلاحظه عند الأطفال، فعندما نسألهم مثلا عن شكل غيمة (يراها الكبار غيمة فقط!)، تحتار بأجوبة الأطفال الإبداعية، فيجيبك احدهم انه يرى قطارا وآخر شجرة او وردة.... فهم لا يعرفون الروتين ولا الملل، لأنهم دائمي البحث والسؤال والتخيل، وإن ماتت تلك الروح فيهم حينما كبروا فلأن الكبار قتلوا أسئلتهم بالصمت والإهمال أو بتقديم الأجوبة العادية!.

وهذه كانت نظرة الشاعر بودلير عندما يكمل مقولته في تعريف الشقاء ويبين مفهومه للسعادة: "والسعادة أن تبحث عن الذي لا تعرفه، فإذا عرفته فالسعادة مرة أخرى ان تلوذ بشيء آخر بعد ذلك، موجة وراء موجة في بحر لا نهاية له!" وليس غريبا ان ترى نظرته الغريبة للسعادة وهو الذي عُرف عنه: انه يشم الأصوات ويسمع العطور!.

إن أردنا أن نُحيي شمس الربيع في داخلنا والتي حجبتها غيوم الأيام طويلا، ما علينا سوى أن نعود (ذهنيا) الى تفكير ونظرة الطفل لكل ما حوله، يعوزنا تلك المشاعر التي يملكها كل الأطفال فطريا والتي تغير الكثير من الأمور إن عرفناها؛ هي الحب الذي يملأ حناياه، والحاجة والمتعة التي لا تنتهي، النظرة المتفائلة والجديدة للأمور، هي ذات الأجوبة لتساؤلاتنا عن بعض الأمور التي هي روتين ولكن لا يصيبنا الملل فيها ومنها:

لما لا يمل الإنسان من أمّه التي يراها كل يوم، ومن الصلاة (الحقيقية) التي يؤديها كل يوم، وبعض الناس من طلب العلم الى آخر عمره؟! لما لا نمل من النوم العميق، ومن الطعام، ومن انتظار الأمل وإن طال؟!.

تذكر إحدى القصص عن معلم سأل مجموعة من تلاميذه عن رأيهم بشهر الشتاء؛ فأجادوا في وصف هذا الشهر، ولكن أحد الأطفال والذي وجد المعلم فيه بذرة تميّز وإبداع، أجاب بكل عفوية وبراءة: إنه بداية الربيع.

يقول أمير الكلام علي بن ابي طالب (ع): "كل متوقع آت".. أي شيء أجمل من أن يعود الإنسان ويتعلم أبجدية الحياة بصحبة الاطفال، ونردد معهم حروف الهجاء من جديد: راء.. مثل روتين، ومثل ربيع أيضا؛ فصل الزهور الملوّنة، ميم.. مثل ملل، ومثل مارس أيضا؛ "طفل الشهور المدلل".

اضف تعليق