q
إن حروب الغد لن يكسبها مَن يملك القنبلةَ الأكبر؛ بل الذي سيصنع الرسالة الرقمية الذكية، وستكون حروب المستقبل متمثلة بالإعلام الرقمي؛ وليس بالأسلحة التقليدية، أو بأسلحة الدمار الشامل، أو حتى بالأسلحة الذكية، وخيار إنسان العصر في العالم الرقمي هو أن يكون أو لا يكون...

إذا كان العالم يُنتج كلَّ دقيقتين تقنياتٍ جديدةً؛ فإن الاتصال الرقمي حوّل العصرَ إلى رموز ومعلومات عَصيّةٍ على الإدراك؛ لحجمها، وتنوُّعها، وكثافة بثها، بحيث نجد أنّ كَمَّ المعلومات الرقمية خلال السنوات العشر الأخيرة يعادل كَمَّ المعلومات التي أنتجتها البشرية على مدى القرون الماضية.

والقضية الأهم، بأن الرقمنة ستشهد صعودًا بوتيرة متسارعة في مقبل الأيام. ليس ثمة لاعبون محددون؛ بل الجميع يلعب، سواء أكانوا محترفين أم هواة، وسواء أكانوا من الصفوة أو المهمشين. إعلام رقمي يقوم بكل الأدوار المتوقَّعة وغير المتوقعة، لا توجد موانع تحده أو سقفٌ يحول دون صعوده.

متناقضات في التقنيات الإعلامية الرقميّة؛ قد ساعدت الأقوياء، عسكريًّا، واقتصاديًّا، ومعلوماتيًّا وتكنولوجيًّا، على تضليل العقول والهيمنة والإقصاء، وتدمير ثقافة ومنظومة قيم الضعفاء؛ ولكنها، على الجانب الآخر، أسهمت في توسيع فضاء حرية المعلومات وتداولها، وتقريب العالم جغرافيًّا ومكانيًّا وإنسانيًّا. والأهم من ذلك؛ أنها ألغت رقابة الحكومات المستبدة، وأسقطت جدرانها الحديدية التي بنتها لتكبيل المواطن، وغلَّقت منافذ تنفسه، وكمَّمت أفواهَه.

فهذه الدول التي تمتلك ناصية العلم والتكنولوجيا الرقمية قد أنشأت مختبراتٍ لتخصيب (يورانيوم الإعلام) لبناء رسالة إعلاميّة مؤثرة، تستمد قوَّتها الإقناعيّةَ من مناهج علم النفس والعلوم الحديثة؛ لتصبح الرسالة بمفهومها الشامل عمليات نفسية واجتماعية وفسيولوجية لاختراق البشر، لتدميره معنويًّا، وإصابته بأمراض: القلق، والانحراف، والأعصاب، والاغتراب، والتمرد والفردية، والعدوانية، والاستهلاك، وتوطين العجز في النفوس، وتكريس نماذجها وأنماطها وثقافتها على المجتمعات الضعيفة المصابة بصدمة الرقمنة.

إننا كلما تأمَّلنا أخبارَ اليوم؛ نحتاج إلى الإقرار بأن تحت سطح أرض الأحداث يكمن واقعٌ افتراضي، يمنح السياقَ الجديدَ الفوضى والتقدم -على حدٍّ سواء-؛ فالرقمنة الإعلامية يمكن أن تُوحِّد الأمة، مثلما تستطيع أن تُفرقها، ويمكن لها أن تكون أداةً للصراع أو أداةً للسلام، لكن على صانعي السياسة في الوطن العربي أن يتعاملوا بجديَّة مع هذا اللاعب الجديد.

وصدمة الرقمنة تظهر بقوة في أنظمة اجتماعيّة، تُعاني من الأميّةِ والجوعِ والتخلُّفِ والقهرِ الاجتماعي، والسلطوية الاجتماعية والطبقيّة؛ حيث البطالة القاتلة، والشباب المهمّشون والضائعون، وتغوُّل الفسادُ واستشراءُ الرشَى في مؤسساتها، وحيث الأنظمة التعليمية التقليديّة التي تجترُّ معلومات الأمس، وتُهمل العصرَ، أو حتى تقترِبُ منه، وأنظمة إعلاميّة عربيّة تبحث عن الترفيه، وتُسطِّح الفكرَ والحياة، وتكون أداةً لتخريب الذوق، بدلاً من دورها في حصانة المواطن. اليوم، نحن أمام رسائل إعلامية رقمية، لها قدرةٌ الاختراق؛ ذهنيًّا وعصبيَّا، وعصر ينتج المعلومات بكثافة، وهو القوة الرئيسة للعصر، بمعنى أنّ المستقبل سينحاز لمَن يُنتج المعلومةَ ويُطوّرُها.

ولدينا تقنية المستقبل، متمثلة في جهاز الحاسوب، هذا الذي سيُحدّد مسارات العصر الرقمي، ويؤسس الحياة والمستقبل الثقافي والفكري للمجتمعات، وهو خزان الفكر الإنساني وإبداعاته؛ كونه يمثل الآن ومستقبلًا أداة الاتصال الأهم والأكثر تأثيرًا، وبواسطته يمكن للدول السيطرة على العالم إذا ما احتكرته وطوَّرته؛ لأن العالم سيصبح حينئذ (كمبيوترًا صغيرًا) يحدد معالمَ القرن المقبل.

عربياً، ستحرك الرقمنة الإعلامية الواقعَ السياسي العربي، الملوث بالقمع والاستبداد والفساد والسلطوية الفردية، حيث ذلك السيلُ الرهيب من النشرات الإلكترونية، والبث الصوتي الإلكتروني، وبث الفيديو الرقمي عبر الإنترنت، من دون إذنٍ منها، ومن دون الالتزام بقوانينها، في ظل عجزها أمام المارد الرقمي، وتشكُّل عصر الجمهور الرقمي الذي يصنع إعلامَه بنفسه، ويتفنن بصناعةِ رسالته، وتحديد أولويات قضاياه وحاجاته. سنشهد، دون شك، صدماتٍ كثيرةً بسبب الرقمنة. وسيكون هناك ضحايا كُثْرٌ، خاصة النائمين في كهف التخلف ومعاداة التطور التاريخي، الذين يجدون فيها ضربًا لمصالحهم السياسية والدينية، أو الذين ما زالوا قابعون تحت الصدمة الرقمية، ويعانون من أمراض الازدواجية بين القديم والجديد.

وتبعًا لذلك؛ ستزداد التفاهات الرقمية بين الشباب، وستكثر الصدمات في رؤية الواقع المزري، وستحل ظلمة الرقمية الإعلامية في الكون المعاش، حيث إشاعة المضمون الهادف والابتذال والسخف لحمقى المشاهير! سترتفع أيضا نسبة الهزل الاجتماعي، وثقافة الفضيحة؛ حيث العيش في عصر البلادة الرقمية، وتزييف المعلومة، وتزيين الجهل، وتقديس التفاهة. فهي منظومة ساعد على توسُّعِها مِزاجٌ شعبوي متعطش للتفاهات، يتسع كل يوم، ويتربع على عرشها (تافهٌ عظيم)!  

عالم الرقمنة هو عالم (الإثارة) و (الدهشة) و (الغرائب)، وتراتبيات (الهوس) الجنوني للشباب، الذي لا يشبع من تلقِّي التفاهات بأنواعها؛ لذلك لا نستغرب أن يتحول شخص إلى (نجم النجوم) بمجرد إلقاء نفسه في صندوق قمامة، أو أن يكون صوته يشبه صوت حمارٍ أجرب! لا يهم قيمة الإنسان ما دامت الأيادي تُصفِّق، والأموال تتدفَّق، و(لايكات) الإعجاب تحصل على أرقام قياسية!  والصدمات الرقمية مازالت في بدايتها.لاتوجد هناك عودة للوراء.

والخوف الأكبر هو ما بعد الصدمة، للتأقلم مع الضغط النفسي، والكوارث الرقمية غير المتوقعة، حيث المستقبل المليء بالصدمات الرقمية الكثيرة، وأفعالَ التافهين البليدة في عصرُ توثين التقنيات الرقمية، وتوديع القيم الأخلاقية التي صارت صفرًا على اليسار. خلاصة الخلاصات: إن حروب الغد لن يكسبها مَن يملك القنبلةَ الأكبر؛ بل الذي سيصنع الرسالة الرقمية الذكية، وستكون حروب المستقبل متمثلة بالإعلام الرقمي؛ وليس بالأسلحة التقليدية، أو بأسلحة الدمار الشامل، أو حتى بالأسلحة الذكية.

وخيار إنسان العصر في العالم الرقمي هو: أن يكون أو لا يكون؛ بارزاً أو إنسانا عادياً، تابعاً أو مبادراً، فنحن نعيش بين خرائط وهندسيات جديدة للزمان والمكان، والمعارف والمشاعر. وأصعب الخيارات: أن تعشق السحر الفاتن للعالم الرقمي، أو أن تموت بالسكتة الرقمية!

اضف تعليق