إسلاميات - الإمام الشيرازي

بالفضائل تزدهرُ الحياة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

من أكثر الأسباب التي تقف وراء تدمير المجتمعات، عندما يتصف الناس بالأخلاق الهابطة، وهذا كله مصدره التعلق بالرذائل، وكان من الحري بالآباء والأمهات والمربين بأنواعهم، أن يضعوا بين الأطفال من جهة وبين الرذائل من جهة حواجز شاهقة تمنعهم من التماس مع الرذيلة أو المعصية كونها ستقوده إلى سلسلة من الرذائل والكوارث....

(بواسطة العلم والحكمة تزدهر الحياة العامة، وينتفع الناس بذلك)

الإمام الشيرازي

لكل شيء نقيضه في حياة الإنسان، وهو أمر حتمي لا يمكن الخلاص منه، تفرضه سمة التوازن التي تقوم عليها الحركة الكونية كلها، فالليل مثلا لا قيمة له لولا النهار، والشمس لا قيمة لها لولا القمر، واللون الأبيض لا قيمة له لولا اللون الأسود، والضحك لا قيمة له مطلقا لولا البكاء، وهكذا فإن حياة الإنسان تقوم على النوع من التوازن الكوني والوجودي.

بالطبع قضية التوازن، تفرضها الحكمة، فعندما تحاصر الناس الرذائل، هنالك أيضا فضائل، ويبقى الخيار للإنسان، لعقله، لسلطته على نفسه، فكثير من الرذائل مرتبط بملذات تضعف حيالها نفس الإنسان، لهذا ليس سهلا أن يختار الإنسان الفضائل، لأنها تضع حاجزا بينه وبين جميع الملذات المحرّمة، وهذه مشكلة كبير يعاني منها الإنسان تجاه نفسه ووجوده.

كل البشر تقريبا يعرفون بأن الفضائل أفضل لهم من حيث النتائج النهائية، لكنها تحتاج إلى حكمة وصبر وقدرة على ردع النفس، وإهمال الملذات المحرَّمة إهمالا كاملا، وليس كل النفوس لها القدرة على إهمال اللذائذ، هنا يبدأ الصراع الحقيقي بين الإنسان ونفسه، وهنا بالذات يحتاج الإنسان أشد الحاجة إلى سمة وملَكة تسمى الإخلاص.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يركز في سلسلة محاضراته القيمة المسمّاة بـ (قطوف دانية/ الجزء السابع)، على ثنائية الفضائل والرذائل، ومصير البشرية وهي ترزح بين هاتين الصفتين المؤثّرتين، فيقول سماحته:

(عندما تكون هناك أمة صالحة يعيش أفرادها بوئام وسلام وتراحم، ستكون أعمالهم أسباباً لازدهار الحياة وسعادتها؛ وهذا كله بحاجة إلى الإخلاص في العمل، فإن الإخلاص يزيد في العلم والحكمة، وفقاً لقول الرسول الأعظم: من أخلص للّه أربعين يوماً فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).

من الأمور المحسومة لصالح الناس، أن يتمسكوا بالفضائل، فهي وحدها القادرة على أن تمنحهم الحياة السعيدة، المتوازنة، القائمة على الرحمة، والعدل، وكل القيم التي تراعي حقوق الناس وكرامتهم، وفي نفس الوقت تحفظ لهم مكانتهم، وهكذا فإن المجتمع يمكنه أن يعيش حياة هانئة مستقرة، ويمكنه العكس أن يعيش في فوضى عارمة.

الترويج المنظَّم للفضائل

هذا الأمر يعود للإنسان حقا، فهو بمجرد أن يتجاهل الفضائل، ويُغرَم بالرذائل، تبدأ تحاصره الحياة التي تضج بالمشكلات والأزمات والصراعات، وتضيع الحدود التي تحترم حقوق الآخرين، وتصبح المادة والحرام والابتعاد عن الدين والأخلاق، من القضايا التي تعصف بالمجتمع، لهذا يحتاج الناس دائما إلى من هو متوازن وحكيم من بينهم، حتى يكون بالنتيجة قادرا على الأخذ بأيديهم نحو الحياة الهانئة.

لذا لابد أن يسعى العقلاء بكل ما يمتلكون من قدرة وحجة نحو نشر الفضائل بين الناس، وتدريس الأطفال على الفضائل منذ بواكير وجودهم، بدءًا من الأسرة، الأم والأب، مرورا بالمدرسة، السوق، الشارع، المحلة، أماكن تجمعات الأطفال، هذه الأماكن لابد أن تكون قادرة على ترويج الفضائل وتحببها للأطفال بألف طريقة وطريقة، حتى يكون هؤلاء قادة المستقبل القائم على القيم النبيلة.

هذا ما يراه الإمام الشيرازي ويؤكد عليه حينما يقول:

(إذا سعى أبناء المجتمع نحو تهيئة الفضائل فإنهم يكونوا قد هيّأوا لأنفسهم أسباب العيش الهنيء والحياة الآمنة، البعيدة عن الحوادث والكوارث وغضب اللّه. ومن خلال هؤلاء الناس أنفسهم يظهر من فيه كفاءة القيادة، فيسوسهم بالرحمة والعطف والعدل وهذا يسبب نجاة المسلمين من معاناتهم).

هناك من يتساءل وكأنه لا يعرف الأسباب، لماذا الناس لا يرحمون بعضهم، لماذا الناس يفضلون أنفسهم على الآخرين، لماذا هناك مشكلات تقض مضجع الناس، وتسلب منهم الراحة وهم قادرون على العيش بأمن وسلام في ظل القيم الصحيحة؟

الأسباب في الحقيقة لا تحتاج إلى عناء لكي نكتشفها بأنفسنا، أن تفضيل الرذائل على الفضائل يمثل العقبة الحاسمة أمام صنع الحياة السعيدة الهادئة المتوازنة، لأن اختيار الرذائل يكفي لصناعة أزمات تقض مضجع الجميع بلا هوادة، لأن الكل هنا سوف يدخل في صراع مادي بحت، وبالتالي ليست هناك فرصة للإخلاص ولا للقيم الأخرى لكي تصحح حياة الناس وأفكارهم، لهذا فإن انتشار المحرمات يفتح الأبواب على جميع الأزمات والمشاكل.

يقول الإمام الشيرازي:

(في مقابل الفضائل تأتي الرذائل التي تسبب الهلاك المجتمع، فمن أسباب معاناة المسلمين ما نراه اليوم من تفشٍ للمحرمات والرذائل فإنها هي التي تؤدي إلى تدهور وتدمير المجتمع).

الفضائل والمدينة الفاضلة

لذا من أكثر الأسباب التي تقف وراء تدمير المجتمعات، عندما يتصف الناس بالأخلاق الهابطة، وهذا كله مصدره التعلق بالرذائل، وكان من الحري بالآباء والأمهات والمربين بأنواعهم، أن يضعوا بين الأطفال من جهة وبين الرذائل من جهة حواجز شاهقة تمنعهم من التماس مع الرذيلة أو المعصية كونها ستقوده إلى سلسلة من الرذائل والكوارث.

وعندما لا يتعاون المجتمع مع بعضه في علاقاته المختلفة، سوف تكون هناك فرصة كبيرة جدا لفسح المجال للمستبدين بالتسلل إلى هرم القيادة والسلطة، والتحكم بالناس وفرض القمع عليهم كأسلوب حياة، في حين كانت هناك فرصة عظيمة لكي يكون المجتمع متمسكا بالفضائل، وبالتالي سوف يصنع الحياة الجيدة التي لا تسمح للقمعيين بالتسلل إلى السلطة.

وهناك مشكلة أخرى تحدث بسبب الانصياع لمهزلة الرذائل، وهي أن الإنسان المكبل بالمعاصي لم يعد قادرا على التخلص من القيود والأغلال التي تقيّد معصميْه وجسده وروحه ونفسه، فيكون عبدا ذليلا لملذاته، ومعاصيه، ويغادر الإخلاص كليّا ويصبح حاله حال أي كائن ليس له القدرة على التأثير والتغيير في نفسه وفي المجتمع.

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(إذا اتصف أبناء المجتمع بالرذائل والصفات غير الأخلاقية فإن هذه الصفات نفسها تكون كافية لهلاكهم وتسليط الجبابرة عليهم، لأن طبيعة الإنسان العاصي أن يكون مستغرقاً في الملذّات والهوى، ولا يعلم كيف تجري الأمور السياسية والاقتصادية أو غيرها من حوله).

وهكذا تكون الجملة الشهيرة التي قالها الإمام الشيرازي بخصوص الرذائل، منطبقة تماما على المجتمع وعلى الإنسان الذي لا يعرف ما هي النتائج العاصفة التي تنظره في حال أغرق نفسه بالرذائل، إن من أبسط النتائج التي تحدث بسبب الغرق في الرذائل أن الإنسان يضيع في متاهة الحياة، وكأنه لا يعرف ماذا يريد وماذا يفعل وما السبب في مجيئه لهذه الحياة؟

تلك الجملة الكبيرة التي قالها الإمام الشيرازي هي: (من يغرق في الرذائل يجهل حتى هدفه في الحياة)، نعم إن كل من يغرق في الرذائل يخسر حيته جملة وتفصيلا. 

أما الأسباب التي تقف وراء ذلك فهي في الحقيقة واضحة، ومنطقية تماما، فالصفات البعيدة عن الأخلاق حين نجدها في المجتمع أو عند الفرد، فإنها سوف تنعكس على حياة هذا المجتمع، كما أن أفراده يفقدون إيمانهم، لأنهم غارقون في الصفات اللاأخلاقية.

هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي حين يقول:

(لقد جعل اللّه لكل صفة لا أخلاقية، ولكل ذنب أو معصية نتائج سلبية تنعكس على روح الإنسان، فتضعف إيمانه، وهناك أيضا نتائج سلبية مادية تنعكس أضرارها في المجتمع).

لذلك هناك فرصة للمجتمع أن يزدهر بالفضائل، ويكون أفراده من المخلصين، المتمسكين بالقيم النبيلة، الرافضين جملة وتفصيلا للرذائل، وهؤلاء هم الذين يمكن التعويل عليهم في صناعة مجتمع فاضل ومدينة فاضلة على غرار ما بشر به الفلاسفة الإيجابيون، فحين تنتشر الفضيلة، يمكننا بناء المدينة الفاضلة، وهذا بالضبط ما يمكن أن تتمخض عنه نتائج التمسك الصارم بالفضائل على حساب الرذائل. 

اضف تعليق