كانت مواقفه في حياته اليوميَّة، وتعامله مع الناس، دروسًا صامتة لكنها أبلغ من ألف خطبة، ورسالته الحقيقيَّة كانت بناء الإنسان، قبل بناء أي مؤسسة أو مشروع. ما قدَّمه السيِّد الشيرازي من قيم وتوجيهات إنَّما يمثل زادًا تربويًّا يحتاجه كلُّ مربٍ وكلُّ داعية؛ بل وكل إنسان يريد لنفسه طريق الخير...
سماحة المرجع الدِّيني السَّيد محمَّد الحسيني الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه) هو واحد من أبرز علماء الدِّين والمفكرين الذينَ تركوا أثرًا عميقًا في مسار الحياة الإسلاميَّة المعاصرة؛ فقد امتلأت حياته بالعبر التَّربويَّة التي تمزج بين العلم والعمل الصَّالح؛ إذ استطاع أن يوازن بين المعرفة الواسعة والروح التربويَّة الرَّفيعة.
اتَّسمت مواقفه بتوجيهات حكيمة وأساليب تربويَّة نبيلة، كان لها تأثير كبير في حياة الأفراد والمجتمعات؛ وفي هذا السِّياق، سنتناول بعضًا من مواقفه التَّربويَّة التي شكَّلت مصدرًا للإلهام والإرشاد، وأثَّرت في كلِّ من تتلمذ على يديه أو تأثَّر بتوجهاته، ليصبحوا عنصرًا فاعلًا في تغيير مجتمعاتهم نحو الأفضل.
الدرس الأوَّل: النيَّة الطيِّبة والهدف الأسمى.
الإخلاص من أسمى القيم التي يجب أن يتحلَّى بها المسلم في كافَّة أعماله؛ سواء كانت عبادات أو أعمالًا خيريَّة؛ فالإخلاص هو سرُّ قبول الأعمال في الدُّنيا والآخرة، وهو المعيار الذي يقيم الله (عزَّ وجلَّ) به الأعمال؛ وفي هذا المضمار نجد سماحة السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي (طيَّب الله ثراه) يحرص دائمًا على أن تكون أعماله خالصة لوجه الله (تعالى)، بعيدًا عن أي مظاهر للتفاخر أو الرِّياء.
وممَّا يروى بهذا الصدد: "كانت في مدينة كربلاء المقدَّسة إحدى القابلات المتدينات، وكانت من مقلدي سماحة المرجع السيِّد محمَّد الشيرازي (رحمة الله تعالى عليه)، وتدعى (الحاجة صفيَّة)، وفي أحد الأيَّام جاءت إليه، وقالت له: لدي منزل واقع في المنطقة (الفلانية)، وكانت من المناطق الرَّاقية في كربلاء المقدسة. وقد اشتريته من أموالي الخالصة والمخمَّسة، وأودُّ أن أهديه إلى سماحتكم؛ لتسكنوا أنتم، وعائلتكم فيه.
فأجاب السيِّد الشيرازي: لقد قبلت هديتكم فجزاكم الله خيرًا، وتقبَّل الله أعمالكم؛ ولكن إذا تسمحين لي أن اجعلها مكتبة عامَّة؛ لتكون فائدتها عامَّة للناس، فأجابت القابلة بعد أن استولى الاستغراب عليها: إنني يا سيدنا أحب أن تسكنوها أنتم، فأجابها سماحة السيِّد: ألا تحبين أن يكون ثوابك أكثر، وأجرك أكبر؟
فكوني على ثقة تامَّة بأنَّ المكتبة أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا -إن شاء الله (تعالى)-، فأجابت القابلة: ما تقولونه يا سيدنا صحيح؛ ولكني أودُّ أن تسكنوها أنتم يا سيدي بأنفسكم، ولما رأى السيِّد الشيرازي إصرارها على ذلك تحدَّث معها مدَّة حتَّى أقنعها على تحويل الدَّار إلى مكتبة عامَّة، وقد سميت باسم (مكتبة القرآن الكريم العامَّة).
الملفت للانتباه أنَّ البعض من مقلديه (رحمه الله) نصبوا لافتة على باب المكتبة، وكتب عليها ما يدلُّ على أنَّ السيِّد الشيرازي قد وقفها لذلك؛ ولكنه (أعلى الله درجاته) ولإخلاصه الشَّديد، وعدم التَّظاهر، والتَّفاخر بأعماله التي يقوم بها أمرهم برفعها" (1).
ومن خلال هذه المواقف، نكتشف العديد من الدروس التربويَّة العميقة التي تعكس القيم الإنسانيَّة العالية؛ وأوَّل درس يظهر الإخلاص في العمل كأحد أبرز هذه القيم، حيث كان السيِّد الشيرازي (قُدِّس سره) حريصًا على عدم التَّفاخر أو التَّظاهر بالأعمال الخيريَّة؛ وهذا الموقف يعلِّمنا أنَّ العمل يجب أن يكون لوجه الله (تعالى)، بعيدًا عن أي رغبة في الشهرة أو الرياء، وأن الإخلاص هو أساس قبول الأعمال.
كما تبرز نظرة شمولية للخير، حيث كان السيِّد الشيرازي يسعى لتحويل نية القابلة التي كانت ترغب في إهداء المنزل له شخصيًا إلى هدف أسمى، وهو جعل المنزل مصدرًا للعلم والنفع العام. وهذا التحول يعكس أهميَّة توجيه الأعمال الطيبة نحو خدمة المجتمع بأسره بدلًا من المصالح الشخصيَّة، حيث يُظهر كيف يمكن للأعمال الخيرية أن تكون مصدرًا للمصلحة العامة، وتساهم في خدمة الجميع.
علاوة على ذلك، تسلِّط القصَّة الضوء على مفهوم التربيَّة على العطاء والبذل؛ إذ يظهر كيف يمكن للتوجيه التَّربوي أن يقنع الآخرين بأن أعمالهم قد تكون أكثر نفعًا وأعظم أجرًا إذا تم توجيهها بشكل صحيح.
كذلك نجد في تحويل المنزل إلى مكتبة عامة تأكيدًا على أهميَّة التَّعليم والتثقيف في الإسلام؛ فتحويل البيت إلى مكتبة عامَّة يعكس التقدير الكبير للعلم والمعرفة كأداة للنهوض بالمجتمع، وأنَّ الإسلام يولي العلم مكانة كبيرة باعتباره وسيلة لتحسين الأفراد والمجتمعات، ومن خلال نشر العلم يمكن تحقيق التغيير الإيجابي الذي يعود بالنفع على الجميع.
ثمَّ إنَّ من أبرز الصِّفات التي تميَّز بها السيِّد الشيرازي (رضوان الله عليه) تواضعه الجمّ وخضوعه المطلق لأهل البيت (عليهم السلام)، فقد كان شديد الأدب معهم، ولا يقدِّم نفسه على المعصومين في قول أو فعل، ولا يسمح بأن يضع اسمه بدلًا من أسمائهم، وكان يرى في ذلك تجاسرًا لا يليق بمقامهم القدسي، فحرص دائمًا على أن يظل اسمه خافتًا عند ذكرهم، مؤمنًا بأنَّهم النور الذي لا يُضاهى، وأنَّ كلَّ مقام يُذكر فيه اسم المعصوم (عليهم السلام) يجب أن يُصان من أي تدخّل بشري قد يخل بجلالته.
"نقل سماحة حجَّة الإسلام والمسلمين السيِّد مهدي الشيرازي (حفظه الله) أنَّ أحد التُّجار المحترمين جاء إلى والدي، وأهداه مبلغًا ضخمًا، فقال له (رحمه الله): كان من الأفضل لك أن تضيف إليه مبلغاً إضافيًا وتشتري أرضًا، وتشيد مسجدًا تقام فيه الصَّلاة، فقبل ذلك التَّاجر، وقال: ولكن بشرط أن يكون ذلك المسجد باسمك، وبقي يصرُّ على ذلك.
فقال له الوالد: أأنت تريد رضاية خاطري، أم خاطركم؟
فقال التَّاجر: بل خاطركم يا مولانا.
فقال الوالد: إذا كنت تريد رضايتي فاجعل المسجد باسم الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقبل التَّاجر، وما زال المسجد موجودًا حتَّى الآن في مدينة قم المقدَّسة إلى جانب المرقد الشريف لابن بابويه"(2).
الدرس الثَّاني: الوفاء للأصدقاء
على الرغم من أن الحفاظ على بعض الصداقات قد لا يكون محبوبًا في ظاهر الأمر، خصوصًا عندما تختلف الطباع أو تتباين القناعات، إلَّا أنَّ التَّمسك ببعض هذه العلاقات قد يكشف عن جوانب طيِّبة في النَّفس، كالوفاء، والصبر؛ فالصَّديق وإن لم يكن مثاليًّا قد يحمل في قلبه محبَّة خالصة أو نيَّة صادقة لا تُقدّر بثمن، أو قد يحمل في طيَّاته صفات أو قدرات تُفيد في لحظات معيَّنة.
قال السيِّد محمَّد الشيرازي (رحمة الله عليه): "اتفق مرَّة أن كان لي صديق كنت أحافظ على صداقته رغم رفض الأصدقاء الآخرين له؛ بل ومارسوا الضَّغط عليَّ بأن اتركه، وبعد مدَّة قليلة حدثت لنا مشكلة، فقلت: من يستطيع حلَّها؟
من يتمكن أن يذهب إلى الموظف الحكومي ويطلب منه حلَّ المشكلة؟
والجميع لم ينبسوا ببنت شفة، فقلت لهم: إنَّ صديقنا الذي طلبتم منِّي تركه هو القادر على لعب هذا الدور، وبالفعل أنجز المهمَّة التي أوكلت إليه.
وكان لنا صديق آخر لا يرغب فيه بقية الأصدقاء وكانوا يتمنون أن اتركه أو اطرده أو أبعده عنِّي، وكنت أفعل العكس، وصادف أن جاء أهل قرية في شهر رمضان وكانوا يريدون خطيبًا، فأحجم الجميع عن الذهاب إلَّا هذا الصديق الذي وافق على المقترح سريعًا وذهب إلى القرية ونجح فيها فقلت لهم: إذا كنا طردناه ماذا كانت النتيجة؟!!"(3).
تُظهر هذه المواقف كيف أنَّ الوفاء للأصدقاء يُعدُّ من المبادئ التربويَّة الأساسيَّة في الحياة، وعلى الرغم من الضغوط التي تعرَّض لها السيِّد الشيرازي لترك صديقه، إلَّا أنه بقي مخلصًا لصداقته، ممَّا يعكس قوَّة شخصيَّته وتمسكه بالقيم والمبادئ التي يؤمن بها، وهذه الوفاء لا يعبر فقط عن التزام أخلاقي؛ بل يشير أيضًا إلى مدى الاستقامة والتفاني في الحفاظ على العلاقات الإنسانيَّة.
كما تسلط هذه المواقف الضوء على حقيقة أنَّ الشخص الذي قد لا يحظى بشعبيَّة أو الذي لا يفضله البعض قد يكون له دور إيجابي في المستقبل، وهذا يبرز أهميَّة عدم التسرع في الحكم على الآخرين بناءً على تصوراتنا الأوليَّة أو الانطباعات السطحيَّة؛ فكلُّ شخص يحمل في داخله إمكانيات وخصال قد لا تظهر بوضوح في البداية، ولذلك يجب أن نتجنَّب إصدار أحكام سريعة قد تحجب عنَّا الفرص للتعرف على قدراتهم الحقيقيَّة.
إلى جانب ذلك، سنعرف ضرورة النَّظر إلى عمق العلاقة مع الأصدقاء بدلًا من الاهتمام بالمواقف السطحيَّة أو الانطباعات الأولى؛ فالحكم على الأشخاص بناءً على مواقف عابرة قد يخفف من قيمة العلاقة، بينما الحقيقة تكمن في فهم الشخص على مستوى أعمق، حيث يمكن لكلِّ شخص أن يكون له تأثير إيجابي في المستقبل، حتَّى لو لم يظهر ذلك في بداية معرفتنا به.
الدرس الثَّالث: أخلاق تتجاوز الإساءة
الأخلاق الرَّفيعة والتَّواضع هما من أبرز الصِّفات التي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان، خاصَّة عندما يكون في مقام القيادة أو العلم، وفي هذه القصَّة، يظهر سماحة السيِّد محمَّد الشيرازي (رحمه الله) نموذجًا حيًّا للأخلاق العاليَّة والتَّعامل النَّبيل مع الآخرين، حتَّى في أصعب الظروف؛ "فقد نقل أحد العلماء الثُّقاة ممن لا يعتبر ضمن العاملين في مرجعيَّة آية الله السيِّد محمد الشيرازي (رحمه الله) أنَّه لما حلّ سماحة السيد في الكويت... أخذ أحد العلماء هناك يقول لجماعته كلامًا يستنقص به مقام السيِّد، ومما قاله: "انه أعلم منه" فذهب بعض الحاضرين إلى السيد الشيرازي ينقلون إليه ما قاله الرجل؛ فأجابهم السيد ما يلي: "أنتم أشخاص مؤمنون، لا أراكم نمّامين ولا كذّابين، وأنا لا اعتقد أنَّ فلانًا من شأنه هذا الكلام عنّي، وبالنسبة إلى أعلميته، فمن يقول أنا أعلم منه، لعلَّه هو أعلم منِّي بالفعل؛ لأني أراه إنسانًا لا يكذب"(4).
هذه الأخلاق من السيد جعلت أولئك الأشخاص في ضمائرهم يقارنون بين عالمهم، وبين هذا السيد العظيم، فقرروا اتِّباع الأخلاق والتَّقوى، وتركوا ذلك العالم الذي أوقعه حسده فيما كان يريده لهذا السيِّد الجليل.
وعلى الرَّغم من أنَّ العالم الآخر كان يحاول التقليل من مقام السيد الشيرازي بدافع من الحسد، إلَّا أنَّ ردَّ السيِّد كان يعكس حكمة عظيمة في التَّعامل مع الحسد والغيرة من الآخرين؛ إذ كان يترك الأمر لله (سبحانه) من دون أن يردَّ الإساء، وهذا يعكس ردَّ السيد الشيرازي إيمانًا عميقًا بأنَّ الله (تعالى) هو الذي يقرر مقام الإنسان، وأنَّ الإنسان يجب أن يترك الحكم لله (عزَّ وجلَّ) بعيدًا عن التَّفاخر والردود الانتقاميَّة.
ومن طريق تصرفات السيِّد الشيرازي، تغيَّرت مواقف الحاضرين، وأدَّى تصرفه الرَّاقي إلى إقناعهم باتِّباع الأخلاق الحسنة والتقوى.
الدرس الرَّابع: التعامل الحكيم مع الاختلافات.
الاختلاف بين الفقهاء مسألة طبيعيَّة في التاريخ الإسلامي؛ حيث أنَّ اختلاف وجهات النظر بين العلماء ينبع من اختلاف الأساليب الفقهيَّة وطرق الاستنباط من النصوص الشرعيَّة. ومع ذلك، وعلى الرَّغم من هذه الاختلافات التي قد تبدو أحيانًا شاسعة، فإنَّ روح التعاون والاحترام المتبادل تظلُّ أساسًا في العلاقة بين العلماء؛ فالاختلاف في الرَّأي لا يعني بالضرورة تفرقة أو انقسام؛ بل يمكن أن يكون مصدرًا للإثراء الفكري والتطور الديني؛ وفي هذا الموقف، نرى كيف أنَّ سماحة آية الله العظمى السيِّد محمَّد الشيرازي (رحمه الله) تعامل مع الاختلافات بحكمة بالغة، مبرزًا قيمة التَّسامح والعفو، حتى في مواجهة من يختلفون معه في الرَّأي أو يهاجمونه.
فقد روي أنَّه: "جاء قادم من إحدى الدول الخليجيَّة إلى مدينة قم المقدَّسة، فالتقى بمرجعه الذي هو سماحة آية الله العظمى السيِّد محمَّد الشيرازي (أعلى الله مقامه).
سأله السيد الشيرازي ـ كعادته ـ عن أوضاع المسلمين والمؤمنين في تلك الدَّولة، وفي أثناء سرد الرجل لمجموعة من الأخبار، ذكر اسم مسجد.
فقال له السيِّد الشيرازي: من يصلي فيه؟
فقال: العالم الفلاني، وذكر اسمه.
قال السيِّد: وهل تصلي خلفه؟
قال: أبدًا!
قال السيِّد: ولماذا؟
أجابه الرَّجل: لأنَّه يجاهر في اغتيابكم سيّدنا!
قال السيد: هذا هو السَّبب فقط؟
قال: نعم سيدنا، إنَّه فاسق بارتكابه الغيبة، وكلامه ضدّكم.
فقال له السيِّد الشيرازي: أنا أقول لك اذهب وصلِّ خلفه، ولا تبالي!
قال الرجل باستغراب: سيدنا إنَّه باغتيابكم، وتمزيقه لصفوف النَّاس، وبثِّه التَّفرقة حتَّى بين العائلة الواحدة بسبب أنَّ فيها من يقلدكم، لا تبقى له عدالة، أليست العدالة شرط صحة الجماعة كما اتَّفق الفقهاء، وسماحتكم منهم؟
ابتسم السيِّد وكرّر قائلًا: أنا صاحب الحقِّ، فقد عفوت عنه، ومتى ما اغتابني فإنَّ عفوي له باق على حاله، إذن عدالته لا تكون ساقطة من هذه النَّاحية، فالتزم بصلاة الجماعة خلفه، وانصحه بالتي هي أحسن، وبدون حضور الآخرين؛ كي لا تأخذه العزة فيصرُّ على موقفه، كونوا متحابين في الله، متعاونين لدين الله"(5).
وتُظهر القصة درسًا عميقًا في التَّسامح والعفو، حتَّى في ظلِّ الإساءة؛ إذ نجد أن السيِّد الشيرازي، حتَّى وإن تعرَّض للغيبة من قبل أحد الأشخاص، اختار أن يعفو عن هذا الرجل ويطلب منه الصلاة خلفه، وهذا التصرف يعكس تجسيدًا عظيمًا للأخلاق الإسلاميَّة، التي تبرز التسامح والتجاوز عن الأخطاء، وتُظهر لنا كيف يمكن أن يتعامل الإنسان مع المواقف الصعبة بحلم ورحمة.
كما تعكس القصة الأسلوب الهادئ والمتزن الذي يجب أن يتبعه المسلم في مواجهة الاختلافات في الرأي أو التصرفات؛ ففي الوقت الذي قد يكون فيه التباين في الأفكار أو المواقف أمرًا طبيعيًّا، يعكس تصرف السيد الشيرازي كيف يمكن للمسلم أن يتقبل الآخر، بغضِّ النَّظر عن الفروقات الفكريَّة أو الفقهيَّة، ويظل محافظًا على الوحدة والإخوة بين المسلمين.
ويتجلَّى من تصرف السيِّد الشيرازي حرصه الكبير على الحفاظ على الوحدة الإسلاميَّة والابتعاد عن التفرقة التي قد تنشأ نتيجة للخلافات الشخصيَّة أو الفقهيَّة، فبدلًا من أن يسمح بتفاقم الخلافات، كان يهدف إلى تعزيز المحبَّة والتآلف بين المسلمين، مما يعكس حرصه على المصلحة العامَّة للدِّين والمجتمع.
كذلك تبيِّن القصَّة كيف أنَّ التعاون بين المسلمين يجب أن يتجاوز الخلافات الفكريَّة والفقهيَّة من أجل تحقيق مصلحة الدِّين والمجتمع؛ فالتعاون والتآلف في الله (تعالى) هما الأساس لبناء مجتمع إسلامي متماسك، يركِّز على المصالح المشتركة بدلًا من الفرقة التي قد تنجم عن الاختلافات.
الدرس الخامس: أسلوب الرَّحمة في توجيه العاصين.
في كثير من الأحيان، نواجه مواقف صعبة مع الأشخاص الذين يخطئون في حقِّ أنفسهم أو غيرهم، وقد نميل في تلك اللحظات إلى التصرف بحزم أو حتَّى بقسوة على أمل أن نصحح خطأهم؛ ولكن الحقيقة هي أنَّ التَّعامل مع العاصين أو المخطئين بأسلوب الهدوء والحلم يمكن أن يكون له تأثير أكبر في إحداث التغيير والإصلاح؛ فالرفق واللطف في التَّعامل مع الآخرين، خاصَّة أولئك الذين يخطئون، لهما قدرة عظيمة على فتح قلوبهم وتوجيههم إلى الطريق الصحيح، وفي هذه القصة نرى كيف أنَّ أسلوب السيِّد محمَّد الشيرازي (رضوان الله عليه) في التَّعامل مع شخص أخطأ في سلوكه، كان مثالًا حيًّا على كيفيَّة تأثير الحكمة والهدوء على النُّفوس، وكيف أنَّ التوجيه الصائب يمكن أن يفتح أبواب التَّوبة والرجوع إلى الله (تعالى).
"نقل أحد خدمة الإمام الحسين (عليه السلام) الذين قضوا أعمارهم في خدمة أهل البيت (عليهم السلام)، وإحياء مجالسهم القصَّة التَّالية فقال: في أيَّام شبابي كنت أعيش شره الشَّباب، وجنونه، وكنت ألبس خاتمًا من ذهب.
وفي أحد الأيام ذهبت إلى مجلس من مجالس عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، وذلك في منزل بعض الأصدقاء... دخلت المجلس والخطيب في أثناء خطابه فلمَّا جلست وقعت عيناه على يدي فرأى خاتم الذَّهب الذي كنت متختمًا به، فخاطبني وهو على المنبر قائلًا: يا عاصي، لماذا لبست خاتم الذَّهب، أما تستحي من الله (تعالى)، ومن الإمام الحسين (عليه السلام)؟
وحيث إنني لم أكن متوقعًا من الخطيب أن يخاطبني بمثل هذه اللهجة الحادَّة أمام أصدقائي، ومعارفي فقد أخذني العزَّة بالإثم، وبدأت أوجه إليه كلَّ ما يخرج من اللسان، والشَّتائم، ثمَّ قلت له: لأنك عاملتني بمثل هذا التَّعامل السيء فلن أخرج الخاتم من يدي أبدًا، وإنَّ أي أحد لن يستطيع إجباري على ذلك!
وقد أدَّى هذا النِّزاع اللفظي إلى اختلال نظام المجلس مما دعا بعض المشاركين أن يشير عليّ بالخروج من المجلس؛ لكن صاحب المجلس جاء إلي، وطلب منِّي ألَّا أقول شيئًا.
وبعد مضي عدَّة أشهر على هذه الحادثة اشتركت، وبطلب من بعض الأصدقاء في وليمة زفاف لأحد الأقرباء، وكنت أقدّم الشربت للضيوف، وكان من جملة المدعوين لوليمة الزفاف والضيوف الكرام سماحة آية الله العظمى السيِّد محمَّد الشيرازي (رحمة الله عليه) ولما قدمت الشربت رأيت منه عملًا أثار تعجبي ودهشتي؛ فقد رأيته قام لي، واحترمني كثيرًا، ثمَّ قال لي بصوت منخفض هادئ: "هداك الله"، ثمَّ أخذ منِّي كأس الشَّربت، وشكرني عليه.
بقيت متعجبًا كثيرًا من فعل السيّد. ورحت أفكر في نفسي وأقول: لماذا احترمني السَّيد كلَّ هذا الاحترام الشَّديد، وما هو مقصوده من جملة "هداك الله"، وبشكل لا إرادي وقعت عيني على خاتم الذَّهب الذي بيدي، فقلت في نفسي لعلّ مراد السيِّد هو هذا الخاتم، فعمدت إليه، وأخرجته من يدي، وقلت في نفسي: هذا من أجل السيّد، وإذا ذهب لبسته مرَّة أخرى.
وبعد دقائق ذهبت إلى سماحته لآخذ منه كأس الشربت وإذا به يقوم لي مرّة أخرى، ويحترمني، ويرجع الكأس إلي ويقول لي بكلِّ هدوء: "الحمد لله" ثمَّ جلس.
لقد تأثرت كثيرًا بهذا التَّعامل الأخلاقي السَّاحر حتَّى إنني ندمت في إصراري على لبس خاتم الذَّهب! وعاهدت الله في نفس ذلك الموقف على الإقلاع منه، وقلت: إنّني أتوب إلى الله (تعالى) من هذا العمل المحرّم، ولن أعود إليه أبدًا، ثمَّ قلت: ياليت جميع المبلِّغين يأمرون الناس بالمعروف، وينهوهم عن المنكر بهذه الكيفيَّة المؤثرة، وبهذا الأسلوب الجميل؛ ليهتدي الناس بأوامرهم، ولا تأخذهم العزّة بالإثم"(6).
وإجمالًا لما تقدَّم، لا يسعنا إلَّا أن نقف بإجلال أمام سيرة هذا المرجع الربَّاني؛ سماحة السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه)، الذي لم يكن مجرد فقيه أو قائد ديني؛ بل كان قدوة متكاملة في الأخلاق والتربيَّة، ومعلّمًا بليغًا في السلوك والنيَّة والرَّحمة والتَّسامح.
لقد كانت مواقفه في حياته اليوميَّة، وتعامله مع الناس، دروسًا صامتة لكنها أبلغ من ألف خطبة، ورسالته الحقيقيَّة كانت بناء الإنسان، قبل بناء أي مؤسسة أو مشروع.
إنَّ ما قدَّمه السيِّد الشيرازي (أعلى الله مقامه) من قيم وتوجيهات إنَّما يمثل زادًا تربويًّا يحتاجه كلُّ مربٍ وكلُّ داعية؛ بل وكل إنسان يريد لنفسه طريق الخير والعطاء.
فلنستلهم من سيرته المباركة ما يعيننا على تهذيب أنفسنا، وخدمة ديننا، وتربية مجتمعاتنا على المحبَّة والإخلاص، لنكون بذلك من السائرين على نهج الصَّالحين، ومن العاملين على امتداد رسالتهم في الحياة.
اضف تعليق