إسلاميات - الإمام الشيرازي

مبدأ التوازن في ثنائية الحقوق والعقوق

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

الحقوق والعقوق ثنائية متقابلة، تدخل في دائرة التوازن المطلوب بين الماديات والمعنويات في حياة الإنسان، والحقوق هي ما يترتب على الفرد من تصرفات تجاه الآخرين، بدءًا بالوالدين وأفراد العائلة، والأصدقاء والغرباء والمجتمع كله، وقد نظمت هذه الحقوق مجموعة من الضوابط، تبدأ بالأحكام الشرعية، والمنظومة الأخلاقية، والأعراف الاجتماعية وسواها...

(إن من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية)

الإمام الشيرازي

الحقوق والعقوق ثنائية متقابلة، تدخل في دائرة التوازن المطلوب بين الماديات والمعنويات في حياة الإنسان، والحقوق هي ما يترتب على الفرد من تصرفات تجاه الآخرين، بدءًا بالوالدين وأفراد العائلة، والأصدقاء والغرباء والمجتمع كله، وقد نظمت هذه الحقوق مجموعة من الضوابط، تبدأ بالأحكام الشرعية، والمنظومة الأخلاقية، والأعراف الاجتماعية وسواها.

وتوجد رسالة الحقوق المعروفة للإمام السجاد عليه السلام، حيث تفصل هذه الحقوق وتقدّمها للناس بصورة واضحة وسلسلة وسهلة الفهم والتطبيق، وتؤكد هذه الرسالة أن على الإنسان حقوق تجاه الآخرين، وله حقوق عليهم، كذلك لنفسه حق عليه، ومطلوب منه أن يؤدي هذه الحقوق تجاه الآخرين مثلما يريد أن يحتفظ بحقوقه هذه.

هنالك العقوق الذي يعني رفض الإنسان للوفاء بما عليه من حقوق تجاه الآخرين، فيعقّ مثلا والديه، ويتنكّر لأفضال الأصدقاء عليه، ويجحد الآخرين لأي سبب كان، وهذا العقوق هو حالة اختلال صارخو في الثنائية المتقابلة بين الحقوق والعقوق، وهنا لابد للعقل أن يتدخل بقوة، ويتصرف بحكمة ويعيد الأمور إلى نصابها، خصوصا في مسألة الموازنة بين الماديات والمعنويات، فربما يقصّر الإنسان مع الآخرين عندما يهتم أكثر بالماديات.

لهذا تريد الشريعة للإنسان أن يستفيد من عقله، وأن يحقق التوازن المقبول في معادلة أو ثنائية الماديات والمعنويات، والحقوق والعقوق، يجب على الفرد اكتساب الفضائل، والاهتمام بحقوق الآخرين وحقوقه أيضا، حتى فيما يتعلق بحقوق بدنه عليه.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ (العقل رقيّ الإنسان/ دراسة في الحقوق والعقوق):

(الشريعة الإسلامية هي التي تريد كمال الإنسان وسعادته، وأن يستفيد من عقله لكي يرقى ويتقدم، فهي تحثه على رعاية الآداب الاجتماعية واكتساب الفضائل الأخلاقية من جانب، وتنبهه إلى رعاية حقوقه الشخصية، وتذكره من جانب آخر بأن لبدنه عليه حقاً).

شتّان ما بين المعنويات والماديات

هذه الثنائية، تدل على أن الإنسان كيان ذو بعدين، متقابلين، البعد المادي هو الجسم الذي نلمسه بأيدينا ونراه بأعيننا، والبعد الثاني هو الروح، وتمتد هذه الثنائية في تكوين الإنسان إلى معادلات أخرى متقابلة منها: العقل و الشهوة، لذا كيان الإنسان خليط من الماديات والمعنويات، وكلاهما له نسبة وحصة في تكوين الإنسان، وأي اختلال في طرف على حساب الآخر ينعكس على تكوين هذا الإنسان ويسبب له ضررا ماديا أو معنويا أو كليْهما.

وشتان ما بين المعنويات والماديات، فالأولى تسمو به عاليا، وترتقي بوجوده وكيانه، وتجعله إنسانا نقيا لا تلوّثه مغريات الدنيا، أما الثانية (الماديات) فعلى الرغم من أهميتها في تسيير شؤون الحياة، إلا أنها في حال الانجراف معها فإنها سوف تهبط بالإنسان نحو الحضيض، إذا انصاع لمغرياتها وملذاتها ومحرّماتها وتنفلت الغرائز، وهنا يظهر دور العقل بقوة، كما يؤكد الإمام الشيرازي:

(هذا يعني أن الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات، فالمعنويات تسمو بالروح وتعرج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الاخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة. بينما الماديات لا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز من الأكل والشرب والنوم والجماع وغيرها). 

هناك خطر جسيم يتهدّد كيان الإنسان اذا سيطرت عليه المادية، فكل شيء في عالمنا اليوم يسير في ركب المادة، المكتشفات، والابتكارات، والصناعات، والتجارة والصناعة بأنواعها، كل هذه قد تهيمن عليها العلاقات المادية، ويحدث ذلك الاختلال ما بين الحقوق والواجبات، ويتنمر وحش العقوق، وتنحدر القيم، وينجرّ الإنسان نحول عالم منقوع بالتسافل.

هنا لابد للعقل أن ينتفض، وللحكمة أن تصحو، فتندفع حالة الاعتدال بأقصى صورها، وتعيد الأمور إلى نصابها، فبعد حالة النكران للفضائل، سوف يعود إليها الإنسان بقوة العقل وحكمته، و بظهور الاعتدال مجددا، وتحريك تلك الموازنة القوية بين المعنويات والماديات، وبين الحقوق والواجبات، وبين الموت والحياة، هذه الثنائيات كلها ينظمها العقل ويتحكم بها.

حيث يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:

(إن الماديات والشهوات من طبيعتها أن تجر الإنسان عادة إلى التسافل، وتدعوه إلى التخلي عن الفضائل، وتهبط به إلى ترك الحقوق والواجبات، إلاّ إذا تعامل معها بنحو من الاعتدال والتوازن).

في عالمنا المادي اليوم، غالبا ما يتعرض الإنسان للضعف، وتضمحل روحه في مقابل الرغبات المادية الغرائزية الهائلة، كل ما ترغب به الغرائز متوفر في الأسواق، ومتاح بشتى السبل، وكل الطرق تؤدي إلى الانحراف، فأي قوة يحتاجها الإنسان حتى يكبح جماح الغرائز الجائعة، أما إذا انفلتت من عقال العقل كما يحدث في مجتمعاتنا بين حين وآخر، فإن المخاطر تُساق على قدم وساق، وينحدر الناس نحو الأسوأ.

الإمام الشيرازي ينبّه على هذه الحالة فيقول:

(إن من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية، والأهواء النفسانية، الأمر الذي يوقعه إما في الإفراط أو التفريط).

المشكلة أن غلبة المادة على الواقع الحالي، أدى إلى سحب الكثير من العقول إلى ضفة السكون والتراجع، وترك المادة تصول وتجول كما تشاء، ويرتبك التوازن المادي والمعنوي، وتستنفر الماديات قواها، فيسهو الإنسان ويفقد توازنه، ويتم هدر الحقوق وترك الواجبات، والضياع في مهبّ الغرائز.

النجاة من خراب الغرائز المنفلتة

تظهر الحاجة قوية إلى العقل، الحكمة، الاعتدال، كل هذه الصفات، فردية الإنسان وحده يمكنه امتلاكها، والتصرف بها، فتنجيه من خرائب المادية الغرائزية المنفلتة، أو يحدث العكس تماما في حال، يستسلم الإنسان لغرائزه، فيغوص في الأكل والشراب والنوم، ويبحث عن امتلاك القصور، وعن الجنس الحرام، وهذه كلها تهدر الحقوق وتدمر الواجبات.

يحذّر الإمام الشيرازي من هذه الكوارث المجتمعية فيقول: 

(الإنسان غير المتوازن في طريقة تمتعه بالطيبات والاستفادة من الماديات لا شك أنه سيقع فريسة الشهوة إذا ما تغلبت عليه، فيكون مضيِّعاً للحقوق تاركاً للواجبات، شرهاً في الأكل والشرب والنوم والسكن والجماع والملبس). 

غياب التوازن هو المشكلة التي يواجهها البشر اليوم، لاسيما في مجتمعاتنا التي تُحسَب على التجمعات السكانية المخترَقة بالفوضى، القيم لدينا منتهكة، الغرائز تصول وتجول في عالم لا يهمه سوى المال والربح والانحدار المادي المتسارع.

يغضب الإنسان في واقع كهذا، ويفقد صوابه لأنه أساسا يفتقد للتوازن المطلوب بين الحقوق والواجبات، وبين ثنائية الحقوق والعقوق، وبين قطبيّ المعنويات والماديات، مطلوب التوازن بقوة، حتى يستطيع الناس أن يوازنوا بين الحقوق والواجبات، ويتجنبوا الاختلالات، ولا ينفلت الغضب في التعامل فيما بين الناس، فغياب التوازن يعني حضور الغضب.

هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:

(كذلك الإنسان غير المتوازن في غضبه وطريقة استخدامه للقوة الغضبية، لا شك في أنه يضيّع الحقوق والواجبات التي عليه للآخرين، لأنه قد يغلب عليه غضبه فيظلم نفسه وأهله ومجتمعه).

ماذا نحتاج في عالم اليوم، العالم المادي الصارخ، هذا ما يدعونا إليه الإمام الشيرازي قبل عدة عقول، وقبل أن تشتد أزمة الصراع بين الماديات والمعنويات، نعم منذ زمن بعيد استشرف الإمام الشيرازي ما سوف يحدث، وحذر منه، وها هو يحدث اليوم، ويضع الإنسان في مواجهة نفسه، وهو يقف أمام تحدي العالم المادي للقيم وللأحكام وللأخلاق وللأعراف الاجتماعية كافة، مطلوب حالة من الاستنفار الحقيقي الكبير الشامل لمواجهة هذه المعضلة المتنامية يوما بعد يوم، فهل سنقوم بمهمة النهوض بالقيم، إننا نحتاج إلى الجواب الأصعب. 

اضف تعليق