لكل حضارة نهاية أو حالة سقوط تصنع أسبابها وعناصرها بنفسها، حيث تنمو وتتجمع لكي تطيح بها، وكل الحضارات التي ظهرت وتمركزت في بقاع مختلفة من المعمورة، حملت معها عوامل فشلها وسقوطها، والحضارة الغربية لا تُستثنى من هذا الاستنتاج، فهي أيضا تحمل في أعماقها أسباب وعوامل سقوطها...
لكل حضارة نهاية أو حالة سقوط تصنع أسبابها وعناصرها بنفسها، حيث تنمو وتتجمع لكي تطيح بها، وكل الحضارات التي ظهرت وتمركزت في بقاع مختلفة من المعمورة، حملت معها عوامل فشلها وسقوطها، والحضارة الغربية لا تُستثنى من هذا الاستنتاج، فهي أيضا تحمل في أعماقها أسباب وعوامل سقوطها، ولعل أخطر وأكبر هذه العوامل التي باتت تسرّع بعملية السقوط الغربي هي (المادية) التي نشأت مع نشوء هذه الحضارة ونمت وتطورت معها، بل تسارعت المادية في فرض سطوتها على الحضارة الغربية، فصارت كالوباء الذي يتهدد صانعَهُ بالفناء والموت.
إن المادية التي اكتسحت الغرب مرض تسببت به الحضارة الغربية نفسها، ومن المفارقات الصادمة أن الغرب سوف يكون أول ضحاياها، فالأمم الأخرى ليس وحدها من يتعرّض لتداعيات هذا السقوط، بل الغرب هو من عانى وسيعاني كثيرا من النزعة المادية، أما الأسباب التي قادت إلى هذه النتائج فتكمن في ردة الفعل على التحريف الكنسي ومحاكم التفتيش التي بطشت بالناس في حينها، فانتفضوا وتولدت الحضارة كبديل ونتيجة لرد الفعل، ولكنها حملت بين جوانحها مقتلها ونعني بذلك المادية.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم (إلى العالم):
(مما لا شك فيه أن العالَم كلّه قد اُبتلي بالحضارة المادية التي جاءت من الغرب، والغربيون هم أوّل من وقع ضحيةً لهذه الحضارة غير الواقعية، لأنّها انعكاس لمظالم الكنيسة التي تعرّض لها المسيحيون في محاكم التفتيش).
الشيء نفسه حدث ولا يزال مع المسلمين الذين انساقوا وراء الغرب، وانبهروا بحضارتهم، وما هذه المحاكاة والتهافت على الحضارة الغربية من قبل المسلمين إلا رد فعل ساخط تبلورَ كنتيجة لما فعله السلاطين والخلفاء والأمراء من أعمال منحرفة نسبوها للإسلام وهو منها ومنهم براء، فقد حكم أمراء المسلمين وسلاطينهم أمة الإسلام بالقمع والظلم والقهر وانتفاء العدالة الاجتماعية، فحدث رد الفعل الذي جعل بعض المسلمين يبحثون عن ملجأ وملاذ لهم في الحضارة الغربية التي هي نفسها تعاني من أمراض فتاكة كالمادية والانحلال.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(إن مشايعة ومحاكاة المسلمين للغرب جاء كردّ فعل لما كان فعلهُ ويفعله الخلفاء والأمراء والسلاطين من أعمال منحرفة باسم الإسلام).
عالَمُنا يعاني مشاكلَ لا تُحصى
ومع اندثار عصر الكنيسة وتراجع محاكم التفتيش، بزغ نظام جديد توفر على نسبة ما أو إلى حد ما على المال والنظام والمشاركة في صنع القرار عبر الانتخابات، ولكن مع هذه العلامات والمؤشرات التي تتفوق على عصر الكنيسة، ظهرت مشكلات جمة عانى منها المجتمع الغربي ولا يزال، والسبب الرئيس يعود إلى انتعاش المادية وسيطرتها على العلاقات الاجتماعية والسياسية في الغرب، ما أدى بالنتيجة إلى انحدار شديد في الجانب الروحي.
وهذا الانحدار اتخذ طابع الشمول، فطبعَ النظام العالمي كلّه بالضعف والسوء وتراجع القيم وانتشار حالات الانحراف التي تحولت إلى ظواهر باتت تكتسح الغرب كله وتزرع فيه مشكلات لا حصر لها، بسبب غياب الحس الإنساني في التعاملات المختلفة بالأخص ما يتعلق بالتعاملات التجارية واللهاث نحو اكتناز الأموال بأية طريقة كانت، بغض النظر عن كونها مشروعة أو مرفوضة، وهذا الوضع نشط كنتيجة طبيعة لازدهار المادية وضمور القيم الإنسانية.
وقد ظن الغرب بأنه قادر على معالجة الوباء المادي، لكنه ارتكب الخطأ الأكبر والأكثر تدميرا حينما أقدم على استعمار الدول والأمم الأضعف، وكان الدافع ماديا صرفا، وهو سلب الثروات وإدامة عجلة الصناعة بالمواد الأولية المنهوبة من الدول التي تم استعمارها، فضلا عن استغلال الموارد البشرية لتلك الدول أبشع استغلال عبر ما عُرف بتجارة الرقيق وتصدير البشر واستعبادهم وإجبارهم العمل وفق ما يسمى بنظام السخرة، أو العمل الإجباري المجاني:
يقول الإمام الشيرازي في المصدر المذكور:
(إنّ رفاه الغرب المادي من حيث المال والنظام، ومشاركة الناس ــ ولو نسبياً ــ في تقرير مصير أنفسهم، لا يُنكَر، لكن الغرب في نفس الوقت يعاني من مشاكل لا تحصى).
ولذلك شعر الغرب ولو متأخرا بارتكابه لهذا الخطأ التاريخي الشنيع، وهو استعمار الأمم والدول الأخرى، مما أحدث لهم مشاكل جديدة هم في غنى عنها، لكنهم إلى الآن يسعون عبر علمائهم إلى محو هذه الفعلة النكراء التي لا يمكن محوها بالكلام كونها تسببت بفجائع لا تُنسى للدول والشعوب المستعمَرة التي يدعون لإنقاذها من الخراب الاستعماري المندثر.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن استعمار الغرب لسائر البلدان، بحدّ ذاته مشكلة للغرب قبل أن تكون للبلاد المستَعمَرة ــ بالفتح ــ كما يلاحظ ذلك في نداءات علمائهم الذين يريدون إنقاذ أنفسهم من هذه الجريمة الاستعماريّة، وإنقاذ البلاد المستَعمَرة ــ بالفتح ــ عما يطولهم من جرائم إنسانية بسبب الاستعمار والاستثمار).
انحدار النظام العالمي
وقد كان للإمام الشيرازي في حياته، قدرة كبيرة على استشراف الأحداث، والتنبّؤ بما سيجري على المستوى العالمي، ومن هذه الأحداث تنبّؤ الإمام الشيرازي بسقوط الاتحاد السوفيتي قبل حدوثه بعشرة أعوام، وقد أورد ذلك في كتابه (ماركس ينهزم) قبل أن يتفكك الإتحاد السوفيتي، الذي تجزّأ بالفعل وتحولَ إلى دويلات، ومما تنبأ به الإمام الراحل أيضا هو سقوط الغرب، وتلاشي النظام العالمي الذي أنتجته هذه الحضارة، بعد أن تبدأ مرحلة انحداره من السيّئ إلى الأسوأ.
وما تراجع وضعف وضمور القارة الأوربية العجوز إلا دلائل أولى، حيث تعاني من التشظي والتشرذم وشيوع القيم البائسة وتفشي الانحلال وتصاعد موجات الانحراف والتحلل، وهي نتائج طبيعية للمنهج المادي الذي يحكم مجتمعات أوروبا وفق لطبيعة الحضارة الغربية نفسها في مقابل تراجع المنهج الروحي المتوازن.
ومما قاله الإمام الشيرازي في هذا المجال: (إنني قد استشرفت من المقدمات، قبل عشر سنوات من سقوط الاتحاد السوفيتي في عدّة كتب، ومنها (ماركس ينهزم): أن الاتحاد السوفيتي سيسقط عن قريب، وحصل ذلك بالفعل، وقد توقّعتُ سقوط الغرب أيضاً، وكتبت ذلك في كتابي الغرب يتغيّر).
من هنا ينبّه الإمام الشيرازي المسلمين ويدعو حكوماتهم وقادتهم إلى السيطرة على زمام الأمور والتأهب التام للتغيير القادم، فالنظام العالمي يعلن بقوة عن انحداره وضعفه، والأدلة لا تحتاج لكشفها كثيرا من الذكاء والعناء، فالاحتقان العالمي وغياب العدالة في توزيع الثروات والاحتكار، وحصر ثروات العالم بأيدي الأقلية هذه كلها علامات ومؤشرات تثبت هشاشة النظام العالمي وانحداره من سيّئ إلى أسوأ.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي بقوله:
(إذاً المهم، أن يأخذ العقلاء زمام التغيير، لئلا تتغير الأمور إلى ما يماثل النظام الحالي في السوء أو أسوأ، وقد لاحظنا كيف أن الاتحاد السوفيتي حينما تحطّم، لم تُصَبْ لتوانيا، ولا استونيا بسوء حيث إنهما كانتا على استعداد للتغيير إلى الأحسن، بينما بعض البلدان الإسلاميّة هناك مثل: أذربيجان، والشيشان، وغيرهما أصيبت بسوء، لأنهم لم يكونوا مستعدين للتغيير إلى الأفضل).
وهذا يدعونا كمسلمين، مجتمعات وقادة ودولا، أن نستعد لهذا التغيير بما يضمن لنا عدم التعرض لمفاجآت غير محسوبة، فمن يعرف ما سيحدث ويتهيأ له غير من لا يعرف ما الذي سيحدث، وإذا كنّا فاهمين مدركين للتغييرات القادمة في النظام العالمي، وعارفين ومتوقعين بأنه أسوأ مما مضى، فإننا سوف نكون قادرين على التعامل مع التغييرات الجديدة مهما بلغت درجة سوئها، وهذا ما ينبهنا له الإمام الشيرازي لكي لا يكون المسلمين عرضة لصدمة التغييرات السياسية على المستوى العالمي.
ويضرب لنا الإمام الشيرازي مثلا ضمن هذا المدار بقوله: (إن من يُفاجَأ بسقوط قطعة من جبل قريب منه، سيصيبه أكبر الخوف والأذى، بينما من يعلم بذلك السقوط ويستعدّ له، لا يصيبه أيّ شيء من الأذى).
اضف تعليق