عن أية صدمةٍ نكتب، ومن أيُّها نحذِّر، هل يعني ذلك أننا نواجه صدمة مستقبلية مجهولة، أم أننا يمكن من خلال تحكمنا بالحاضر والتمهيد لمادة المستقبل، أن نتجنب الصدمات والمفاجآت غير المحسوبة، ثم هناك من يتساءل ويحاول أن يفهم الإجابة عندما يطرح تساؤلات متنوعة عن المستقبل، منها هل الصدمة قادمة حتما، وإذا كان الأمر كذلك ألا يمكن أن نلج طرائق جديدة قادرة على أن تحمينا من عواقب تلك الصدمة؟.
في الإجابة يرد ما يلي، المستقبل يمكن أن يضمر في طياته صدمة أو صدمات عديدة، ومفهوم الصدمة المستقبلية يحيل الى أن أبناء الحاضر لم يحسبوا الأمور حسابا دقيقا، ولم يحيطوا بحيثيات القادم، لدرجة أن الصدمة من الممكن أن تلحق بهم أضرارا كتلك التي تنتج عن الحوادث الطبيعية الماحقة، فالصدمة إذاً من المتوقع أن تكون مخبّأة في رحم المستقبل، أما الإجابة عن إمكانية تفادي ما ينتج عنها، فإن الأمر ممكن بطبيعة الحال، خاصة إذا عرفنا أن التغيرات الصغيرة يمكن أن تكبر وتنمو وتتضاعف لتشكل قوة مدمّرة ينبغي أن يحسب أبناء الحاضر حسابهم الدقيق لها، فليس هناك ما يضمن لنا مستقبلا بلا صدمة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يؤكد ما سبق ذكره عن الصدمة، كما نقرأ في كتابه الموسوم بـ (فقه المستقبل)، حيث يقول سماحته: إن (التغيرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرات، ثم تصبح جداول، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الاختيار يصبح الفرد مُصاناً، ومحصناً لا تزلزله صدمة المستقبل، ولا تثنيه متغيراته).
وكل الدلائل تشير الى أننا لا يمكن أن نرسم قالبا واحدا لصورة المستقبل، أو لما يكون عليه من حيث الأحداث المتوقَّعة، ذلك أن الثبات من جهة والمستقبل من جهة أخرى نقيضان، فإعطاء الشكل الثابت والنهائي للمستقبل ليس ممكنا، بسبب الحالة التغييرية التي تتسم بها الأزمنة القادمة.
وهذا المعني نجده في قول الإمام الشيرازي حول هذا الأمر: (إن المستقبل ـ عادة ـ ليس ثابتاً، ولا هو نهائي الشكل بحيث لا يمكن تغييره، بل هو مُشتمل على مجموعة من البدائل التي يضعها الإنسان أمامه، والتي يستطيع أن ينفذ إلى مفرداتها، فيختار ما يراه صالحاً).
مسؤولية الطبقة الرائدة
هناك مساعٍ مزدوجة حول المستقبل، تتحمل الطبقة الرائدة إنجازها، فمن جهة ينبغي تفادي عواقب الصدمة المستقبلية، من خلال وضع التوقعات الكافية لاستيعاب الصادم أو المفاجئ من أحداث المستقبل، ومن جهة أخرى يجب أن يتم تدريب الأمة، جماعات، وأفرادا، على السبل الكفيلة بجعلهم مهيئين لاستيعاب تبعت الصدمة المستقبلية من خلال عدة إجراءات تقوم بها الطبقة الرائدة، ومن ضمن هذه الإجراءات بل وأهمها، أن يتم تدريب وتعليم الناس على دقائق الأمور المستقبلية، حتى لا تشكل مفاجأة غير معلومة لهم.
وعلى الجميع أن يعد العدّة لمواجهة تحديات المستقبل بكل ما تحمله من مصاعب، هذه المهمة وسواها لا يمكن أن يتصدى لها غير المنتمين للطبقة الريادية المعنية بتبصير الجميع وفتح عيونهم وعقولهم لفهم المستقبل وحقائقه التي غالبا ما تكون غامضة على عامة الناس، من هنا فالمطلوب هو زرع الثقة التامة في قلوب الناس ونفوسهم وتحصين الإرادة الجمعية لمواجهة المستقبل بكل ما يضمره من صدمات قد يفلت بعضها من التوقّع، وعندما تقوم النخب بما ينبغي عليها القيام به، سوف يُسهم هذا في تنمية بذور الثقة في قلوب ونفوس الأمة، ويصبحون في حالة استعداد مستدام مع حصولهم على حالة الاطمئنان وطرد الخوف بعيدا عن حياتهم.
يقول الإمام الراحل حول هذا المضمون تحديدا: (إن مسؤولية الطبقة الرائدة في المجتمع توعية الناس، وفتح عيونهم على حقائق المستقبل؛ لأنهم بذلك سيمنحون الأمة الثقة ويصنعون فيها العزيمة، والاستعداد لخوض غمار الصراع المرير مع تحديات المستقبل، وستكون الثقة والطمأنينة والسكينة بديلاً عن الخوف، والفزع وتوتر الأعصاب التي يعيشها كل إنسان يجهل مستقبله).
وفي حالة رفع الستار عن غموض المستقبل سوف يتم انتزاع الخوف من الصدور، وعلى النخب المستقبلية دراسة رموز المستقبل وفهمها واقتحام الغموض الذي تنطوي عليه، وفق السبل العلمية الموثوقة، لتصبح كل الأشياء المستقبلية واضحة للجميع، فتبقى مهمة هذه النخب تنوير عامة الناس بكل ما يتعلق بالمستقبل.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن مهمة النخب المستقبلية فكّ رموز المستقبل، وجعل الناس يميزون بين القادم الصالح والطالح، والخطر والأخطر، بين الجيد والرديء، وتحويل الجيد إلى أجود، وتلافي الأخطار، أو تحديد وتحجيم آثارها، إضافة إلى ذلك عليها أن تمنح الناس مفاهيم جديدة ومفيدة، تساعدهم على التعامل مع عالم سريع ومتطور).
التخطيط للأبعاد الزمنية القادمة
إذاً فمن يهمه الأمر، ويكون معنيا بالمستقبل، ليس أمامه سوى التصدي لمهامه على أفضل وجه، وهذا يحتّم عليه مواصلة التفكير العلمي الدقيق بالمستقبل، حتى يكون هدف استيعاب الصدمة المستقبلية ممكنا، وكما يسعى أي إنسان، فرد أو جماعة، نحو أهداف معينة، يخطط لها ويشبعها تفكير وسعيا وصولا الى تحقيقها، كذلك الأمر بالنسبة للمفكرين النخبويين المستقبليين، عليهم أن يعملوا بالطريقة نفسها من التفكير والمواظبة وصولا الى الأهداف المستقبلية المرسومة.
علما أن طبيعة التخطيط للمستقبل، ينبغي أن تلامس أو تتصدى للأبعاد الزمنية المختلفة، أي تبحث في الزمن القريب والمنظور والبعيد، كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (إن العقلاء كافة بحكم العقل لابدّ أن يفكروا بالمستقبل، فكما يواظب طلاب الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرهم، على الدراسة ست سنوات أو أكثر حتى يصلوا لأهدافهم، والتي منها خدمة الناس، والسعة في الرزق، والراحة في العمل. وهكذا بالنسبة إلى من يتعلم العلوم الدينية حتى يصبح فقيهاً والمُزارع يتعب ويجهد نفسه مدة طويلة بانتظار الثمار، كذلك على العقلاء أن يفكروا ويخططوا لمستقبل أممهم وشعوبهم القريب المدى والمتوسط والبعيد).
وثمة مهمة أخرى على الطبقة الريادية، النخبة المستقبلية تحديدا أن تتنبّه عليها بصورة دقيقة، حتى لا تضيع جهود النخبة فرديا أو جماعيا في حالة عدم توظيف الجهود في الاتجاه السليم، مثلا لا يصح أن ينشغل المسؤولون عن دراسة المستقبل وفهمه ورسم الممكنات القادرة على استيعاب الصدمة المستقبلية، بتلك الأهداف الصغيرة التي لا تستحق أن يهتموا بها، بل عليهم مواجهة التحديات المستقبلية بأهدافها الكبيرة، حتى تأتي النتائج موازية لجهودهم، ومتطابقة مع ما يبتغون.
وليس صحيحا أن ينشغل الرياديون بالقضايا الصغيرة التي لا تشبع ولا تغني من جوع، سوى أنها تشغل المعنيين بأمور لا تستحق الانشغال، فمن يسعى للتخطيط الى بناء المستقبل كما يجب، ويفكر بالكيفية التي ترقى الى استيعاب صدمات المستقبل، مثل هذا العقل أو مجموعة العقل، لا نظن من الملائم لها إلا البحث في الوصول الى الأهداف المستقبلية الكبيرة.
وهذا بالضبط ما دعا إليه الإمام الشيرازي عندما قال في كتابه نفسه: (ينبغي على الإنسان أن يكون سعيه منصباً على معرفة آفاق المستقبل والأهداف الكبيرة، وليس الأهداف الصغيرة التافهة).
اضف تعليق