q
صحة الإنسان تاج على رأسه، هذا ما لا يعلمه كثير من الناس حتى يسقط أحدهم في مرض خطير، حينذاك يعرف قيمة الصحة، وقد يتوقّى ويحذر أكثر، لكن من عادة الإنسان أن ينسى سريعا، ويعود إلى ما هو عليه، حتى تهدده الأمراض بطريقة فعلية، لذا على الإنسان أن يستثمر صحته...

صحة الإنسان تاج على رأسه، هذا ما لا يعلمه كثير من الناس حتى يسقط أحدهم في مرض خطير، حينذاك يعرف قيمة الصحة، وقد يتوقّى ويحذر أكثر، لكن من عادة الإنسان أن ينسى سريعا، ويعود إلى ما هو عليه، حتى تهدده الأمراض بطريقة فعلية، لذا على الإنسان أن يستثمر صحته بشكل صحيح وجيد طالما كان على قيد الحياة.

يبقى الإنسان عاجزا عن اكتشاف الكثير من العوالم (السرّية أو الخاصة)، تلك العوالم التي نبقى نجهل أسرارها حتى تحين لحظة الدخول إليها قسرا، فبعد أن تقلّ فرص الحياة، ويُصاب جسد الإنسان بعلّة أو بمرض خطير، لم يبقَ أمامه سوى الانتماء الفوري إلى عوالم العلاج القسرية، تلك التي كان يتهرَّب منها ولا يريد أن يعرفها ولا يرغب بالغوص في أسرارها.

لكن حين يصبح هذا الإنسان واحدًا من مرضى القصور أو الفشل الكلوي، لن يكون أمامه إلا الدخول في عالم (الديلزة) شاء أم أبى، لأن هذا العالم المليء بأسرار المرضى، وبالمفارقات الحزينة، يبقى هو الخيار الوحيد المتاح للمريض حتى يستمر بالبقاء على قيد الحياة.

دخلتُ إلى عالم (الديلزة) مرافقا لقريب لي أصيب بقصور كلوي، لم أكن عارفا في السابق بهذا العالم، ولا بالتفاصيل والأسرار الغريبة التي ترافق كل مريض يدخل هذا العالم مجبرا، لكي يحظى بيوم جديد يُضاف إلى عمره، بعد أن تتكدس السموم في جسمه بسبب عدم اشتغال الكلى بشكل صحيح في جسده، أعمال معقدة تقوم بها الكلى تنتهي بتخليص الجسد من السموم، ولكن أي قصور في عملها يحيل الإنسان إلى كائن ذليل منكسر ويائس.

في قسم الديلزة بالمستشفى التركي هناك قاعة استقبال للمرضى ومرافقيهم، غالبا تجد هذه القاعة تغصّ بمرضى القصور والفشل الكلوي، وتجد معهم مرافقيهم، وسرعان ما تكتشف الفارق بوضوح بين المرضى والأصحّاء من خلال ألوان الوجوه، فوجوه المصابين بالعجز الكلوي مخطوفة تميل إلى الاصفرار والاخضرار، يغيب عنها دم الحياة الوردي، أما عيون المرضى فتكاد أن تكون خالية من رغبة الحياة ومن ذلك الضوء الساطع في العيون، فتبدو خافتة خابية حزينة وخالية من ملامح الحياة.

تنقية الدم من السموم

الديال أو غسل الكلية أو الدَّيْلَزَة أو المَيْز الغشائي (بالإنجليزية dialysi) هي تقنية تهدف إلى إزالة الفضلات والمواد السامة من الجسم وتعويض فقدان عمل الكلى. تعرف لدى العامة باسم غسيل الكلى. عادة، يخضع مرضى المرحلة النهائية من الفشل الكلوي (داءٌ كُلْوِيٌّ بالمَرْحَلَةِ النِّهَائِيَّة) أو مرضى القصور الكلوي الحاد إلى معالجته بالديال من حين لآخر، إما بإدخال المريض إلى المستشفى أو عبر زيارة وحدات غسيل الكلى في العيادات الخارجية.

الهدف من الديلزة هو تنقية الدم من السموم، وهذه العملية تتم بواسطة جهاز يقوم بهذه المهمة في عملية معقدة، حجم الجهاز كبير جدا قياسا لحجم الكلى، والعمل الذي يقوم به أقل كفاءة مما تقوم به الكلى، ولكن ليس هنالك من سبيل للمصابين بهذا المرض سوى زيارة مركز غسيل الكلى مرّتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، يبقى فيها المريض لصيقا بالجهاز لمدة أربع ساعات متواصلة مع متابعة دقيقة لكادر طبي متكامل.

من خلال ملاحظاتي الدقيقة لجميع المرضى اكتشفت أشياء تجمع بينهم وأخرى لا تجدها عند الجميع، فمثلا هناك أشخاص رغم مرضهم هذا لكنهم يتبسّمون ويتكلمون كثيرا، ويمتلكون روح الدعابة والسخرية، وكأنهم بهذا السلوك يقتصّون من هذا المرض الغادر الذي أصابهم وأجبرهم على الدخول في عالم الديلزة، الأعمار في الغالب كبيرة السن، لكن هذا لا يعني عدم وجود ذكور أو فتيات في عمر الزهور يفتك بهم هذا المرض.

هناك فتاة لم تبلغ العشرين بعد، مصابة بالفشل الكلوي، تطرح جسدها إلى جانب جهاز الغسل، وتمسك بكتاب مدرسي، تقرأ بتركيز استعدادا لخوض امتحان الدور الثاني، كنتُ أتابع حالتها وهي تقرأ بطريقة تدل على أنها تصرّ على النجاح، لم تكن منشغلة بالجهاز ولا بالأنابيب الحمراء التي تنقل الدم من جسدها إلى داخل الجهاز في حالة ضخ ودوران مستمر للدم خروجا من جسدها ودخولا في الجهاز ثم عودة إلى الجسد لتنقية الدم من السموم، كنتُ أتساءل هل يمكنها فهم المعلومات الدراسية وهل ستنجح ودمها يهرب منها باستمرار؟

الصحة تاج فوق الرؤوس

ليس بعيدا عنها شاب في الثالثة والعشرين من عمره، خريج كلية الاقتصاد، قسم المحاسبة، ينام مسترخيا إلى جانب جهاز الغسيل، مستسلما لدوران الدم في الأنابيب، زارعا بصره في شاشة الموبايل، وغائبا في العالم الافتراضي، هربا من جهاز غسيل الكلى وأصوات التحذير التي يطلقها بين حين وآخر، كنتُ أنظر للفتاة الطالبة وللشاب الخريج، وأتساءل مع نفسي، لماذا لم يبادر أحد الأثرياء بتحمّل تكاليف زرع كلى معافاة لمثل هؤلاء الشباب؟

مريض آخر يتجاوز عمره الخمسين، مصاب منذ ست 6 سنوات بالفشل الكلوي، جلست معه جلسة طويلة وحدثني عن بداية إصابته بالعجز الكلوي وعن الأسباب المؤسفة فقال:

كنتُ في بيروت أصطاف في منتجعاتها وأزور معالمها السياحية والدينية، وكنتُ مع عدة أصدقاء، استمتعنا بسفرتنا، وسُعدْنا بما رأيناه في بيروت، وفي احد الأيام اتفقنا على أن نصلي صلاة الجمعة في أحد مساجدها، وكنت جائع جدا وتأخرت على لقاء الأصدقاء، فدخلت مطعم مشويات وطلبت (شيش لحم لا أكثر) واستعجلت صاحب المطعم لكنه أخبرني بعدم وجود الصمون، فاضطررت للانتظار والأذان اقترب كثيرا، كنت جائعا ومحرجا من أصدقائي وحين وصل (الصمون/ الخبز) كان ساخنا جدا، حتى أنني أتذكر حين أمسكت (الصمونة) بكفي ضربت يدي صعقة كهربائية فقذفت يدي إلى الخلف بقوة، هكذا فعلت بي (الصمونة) ومع ذلك فتحتها بأصابعي وأدخلتُ فيها الشيش المشوي مكن اللحم وتناولتها بسرعة عجيبة وهي ساخنة جدا، وما أن وصلت معدتي حتى أصابني نزيف حاد بالمعدة، نقلتُ على أثره إلى المستشفى فورا وبقيت مريضا راقدا في الفراش لعدة أيام، حيث أصابني تليّف في الكلْيتين، وحدث لي عجز كلوي مزمن، هذا ما فعلته بي (الصمونة الساخنة) فإياكم من تناول الطعام وهو ساخن جدا.

درس للآخرين، كي يعرفوا كيف يتعاملوا مع الطعام، ومع صحتهم، فمن لا يهتم بجسده فإنه سوف يكون عرضة للأمراض التي تلزمه الفراش طوال عمره، اشكروا الله على نعمة الصحة، واعرفوا أنها تاج على الرؤوس.

اضف تعليق