العلماء يحذرون الناس دائماً من مغبة الانزلاق في متاهات النفاق مع ممارسة أعمالهم العبادية والعيش في أجواءً دينية، في نفس الوقت يمالون السلطة، ويتزلفون لصاحب المال والنفوذ لإنجاز بعض الأعمال او الحصول على ترقيات وظيفية، او حتى توظيف في دائرة حكومية...

"هوّن ما نزل بي إنه بعين الله"

هذه العبارات البسيطة التي ربما تصدر من أي انسان، خرجت على لسان متحجّر من شدة العطش، من انسان مهدد بالموت من قبل جيش جرار، وهو وحيد في الميدان، أما سبب هذا القول فهو مقتل طفله الرضيع في حجره وبشكل مفاجئ في القصة المعروفة من فصول عاشوراء.

لنتخيل الموقف؛ التوقع بأن يسقي القوم طفله الرضيع قليلاً من الماء، فربما تأتي الموافقة، او الرفض ليعود أدراجه –مثلاً-، ولكن! لم يحصل لاهذا ولا ذاك، إنما اجتمعت الصدمة مع المصيبة في لحظة واحدة على قلب الامام الحسين، عليه السلام، فكيف يكون الموقف؟

العلاقة المتينة مع الله –تعالى- لا تهزها أكبر عاصفة نفسية او مادية، وهو ما جسّده، عليه السلام، في واقعة عاشوراء، ثم أردف الإمام بقلب كسير ونفس محتسبة مخاطباً السماء: "ارجو ان لا يكون أهون عليك –مضمون الرواية- من فصيل ناقة صالح"، كناية عن رد الفعل السريع والمدمر الذي نزل من السماء على رؤوس قوم ثمود قبل آلاف السنين لسكوتهم على جريمة ارتكبها أشقى الأولين بقتله فصيل الناقة المعجزة التي كانت شاهداً على صدق نبوة صالح، وكانت الإجابة بالتكذيب والكفر والقتل، فلاقوا جزاءهم العادل سريعاً، بينما الامام الحسين، قتل اصحابه، ثم ابناءه وإخوته أمام عينيه، ومن ثم يُقتل هو ايضاً أمام أنظار نسائه وأهل بيته دون أن يطرأ أي تغيير على الأرض ولا على السماء، ولم يشهد أحد نزول صاعقة أو أي نوع من العذاب الإلهي على القتلة المتجرئين على الله وعلى رسوله، وترك جثمان الإمام على الارض ثلاثة أيام، وعاد الجيش الأموي يحتسي نشوة النصر العسكري على شاكلة الحروب القبلية الجاهلية.

العبودية لله وحده

وهذه إحدى الدروس التي نتعلمها من مدرسة الامام الحسين، عليه السلام، فمن الزيارة التي نقرأها أمام ضريح الإمام، عليه السلام: "أشهد أنك قد أقمت الصلاة"، نستنبط حقيقة جوهرية في حياته، وايضاً في نهضته المدوية، وهي بلوغه الغاية الأسمى للصلاة، ألا وهي العبودية المطلقة لله –تعالى- وحده، حيث نقرأ في سورة الفاتحة: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، والدليل من الناحية اللغوية أن "تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر، ولم نقرأ "نعبدك"، لأن نعبدك لا تفيد بما هي هي، بشرط لائية عن عبادة الغير، بينما {إيّاكَ نَعبُدُ} تفيد بشرط لا، أي نعبدك حصراً ولا نعبد غيرك، وعدم عبادة الغير مقوّم للعبادة المقبولة للرب –جلّ اسمه- وقد نشر الإمام الحسين، عليه السلام، هذه الثقافة بجهاده، وبصموده وبطولاته". (الامام الحسين وفروع الدين- آية الله السيد مرتضى الشيرازي).

وفق هذا المنهج العبادي سار الأئمة المعصومون، وقبلهم جدّهم المصطفى، صلوات الله عليهم، و دعوا الناس للالتزام به في عباداتهم، ولعل ما نقرأه من روايات عديدة عن أعمال عبادية مجدّة، وحالات تضرّع وخشوع من النوع الاستثنائي، يؤكد الرسالة الثقافية للأمة بأن المعصوم والولي من قبل الله –تعالى- يبقى عبداً من عباد الله، رغم مكانته ومنزلته، وكانت البداية من النبي الأكرم، عندما جاءه جبرائيل ذات مرة يخبره بأن العلي الأعلى يعرض عليه أن يكون ملكاً ونبياً يملك خزائن الأرض، فكان جوابه، صلى الله عليه وآله، بأنه يفضل أن يبقى عبداً لله –تعالى-.

ربما يريد المعصوم أن يصوّر لنا، او يحسسنا بحلاوة العبودية لله –تعالى- وأنها تعلو على أي طعم يتحسسه الانسان في حياته المادية من مال ومنصب وجنس، لأن هذه العبودية المخلصة هي التي تغمره بالاطمئنان والسعادة.

الصلاة والتزلّف الى السلطة ومتاهات النفاق

لمن يبحث عن مصاديق لمصادر القوة في الحياة، يجدر به مراجعة قصص الانبياء والأولياء المقربين من السماء، فهم مسنودون بشكل لا يضاهى في طريق أدائهم رسالة التوحيد ونشر الفضيلة والأخلاق والعدالة، بيد أن هذه المساندة لم تكن على طول الخط، ليس لأن الله –تعالى- يتركهم وشأنهم –حاشاه- وإنما لاختيارهم هم بأنفسهم طريق التحدي بالإيمان العميق والمطلق، و أنه –تعالى- سميعٌ وبصير بالعباد ، وكل ما يحصل لهم يجري وفق قضاء وقدر وحكمة منه –تعالى- مع امكانيتهم في تغيير هذا القدر في ظروف زمانية ومكانية كما تفعل الصدقة في "تغيير القضاء المبرم"، في الحديث الشريف. 

ولا أروع من موقف النبي ابراهيم وهو مرميّ في الهواء على وشك السقوط وسط نار مهولة، فجاءته الملائكة تدعوه للطلب منها بأن تطفئ النار او تغيير شيئ من الموقف لانقاذه، فرفض، فقالوا له: إذن؛ اطلب من الله –تعالى- على الأقل! فرفض مرة أخرى، وقال قولته المشهورة: "حسبي من سؤالي علمه بحالي"، فجاء الرد فوراً بأن {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. 

ونفس هذا الموقف حصل مع الامام الحسين يوم عاشوراء عندما هبط الى الأرض حوالي اربعة آلاف من الملائكة –حسب بعض المصادر الروائية- يعرضون عليه النصرة وإبادة الجيش الأموي بأكمله، فرفض الامام لأنه وطّن نفسه على المضي في الطريق الذي اختاره له الله –تعالى-: "شاء الله ان يراني قتيلاً ويراهنّ سبايا". 

فهل يمكن مقارنة قوى كهذه مع قوى وقدرات مثل المال، والسلطان؟ لسبب بسيط واحد –من بين اسباب- أن المال والسلطان ليستا قوتين لا تُقهر بالتمرد والمعارضة، و ظهور منافسين بقدرات أكبر يغلب بعضها على البعض الآخر، بينما القدرة الإلهية لا متناهية وقاهرة لا محالة. 

لذا فان العلماء يحذرون الناس دائماً من مغبة الانزلاق في متاهات النفاق مع ممارسة أعمالهم العبادية والعيش في أجواءً دينية، في نفس الوقت يمالون السلطة، ويتزلفون لصاحب المال والنفوذ لانجاز بعض الأعمال او الحصول على ترقيات وظيفية، او حتى توظيف في دائرة حكومية.

نحن نقرأ الآية الكريمة: {إيّاكَ نَعبدُ وإياكَ نَسْتَعِين} في الصلوات اليومية على مر الأيام والسنين دون أن ندرك استحقاقها في سلوكنا وثقافتنا لتجسد بالضرورة التوكل على الله –تعالى- وحده، بلى؛ عباد الله يكونون دائماً الواسطة في العطاء وإنجاز بعض الاعمال المتبادلة بين الناس، بيد أن الإيمان بارتباط قدرة هؤلاء جميعاً بقدرة الله –تعالى- هو الذي يجب ان يكون سيد الموقف في حياتنا اليومية، وحتى تكون عباداتنا متصلة بشكل حقيقي وصادق بالله –تعالى- ومنها الصلاة التي من مبادئها الآية الكريمة: {إيّاكَ نَعبُدُ وايّاكَ نَسْتَعِين}، لأن "هنالك الكثير ممن يلجأ أو يتكئ على القوى الاستعمارية، او الظلمة، او الطغاة، سواء في الحقل السياسي او الاقتصادي، او العلمي، او غير ذلك، ألا يعني هذا طمساً حقيقياً لمعنى الصلاة ومغزاها"؟!

مشكلة البعض في فقدان السيطرة على لجام النفس للحصول على المكاسب وانجاز الاعمال وتحقيق الرغبات بأسرع ما يمكن، وربما لتحقيق نوع من السبق على الآخرين والتفوق عليهم، وقد {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}، بيد إن اختباره الكبير في الأخذ بعنان هذه النفس المتسرعة، والحفاظ على التوازن وضبط النفس بالتوكل عل الله –تعالى- والإيمان بأنه المعطي والرازق والمنتقم والجبار، وله الاسماء الحُسنى، وأي تجاوز لهذه الحقيقة لن يكسبه سوى الخسران والندم.

اضف تعليق