q
إسلاميات - اخلاق

أنظر أين تضع نفسك

فمن كان عاقلا غير عدو لنفسه وجب عليه أن يصرف جل همه في تحصيل السعادة العلمية والعملية، وإزالة النقائض الكامنة في نفسه، وليقتصر على الأمور الشهوانية، واللذات الجسمانية بقدر الضرورة، بأن يكتفي من الغذاء بما يحفظ اعتدال مزاجه وقوام حياته، ولا يكون قصده منه الالتذاذ، بل سد الضرورة...

لما عرفت أن الإنسان في اللذة العقلية يشارك الملائكة، وفي غيرها من الحسية المتعلقة بالقوى الثلاث، أعني السبعية والبهيمية والشيطانية، يشارك السباع والبهائم والشياطين - فاعلم أن من غلبت عليه إحدى اللذات الأربع كانت مشاركته لما ينسب إليه أكثر حتى إذا صارت الغلبة تامة لكان هو هو.

فأنظر يا حبيبي أين تضع نفسك، فإن الغلبة لو كانت لقوتك الشهوية حتى يكون أكثر همك الشهوات الحيوانية كالأكل والشرب والجماع وسائر النزوات البهيمية، كنت واحدا من البهائم.

وإن كانت لقوتك الغضبية حتى يكون جل ميلك إلى المناصب والرياسات الردية، وإيذاء الناس بالضرب والشتم، وباقي الحركات السبعية، نزلت منزلة السباع.

وإن كانت لقوتك الشيطانية حتى يكون غالب سعيك في استنباط وجوه المكر والحيل للوصول إلى مقتضيات قوتي الشهوة والغضب بأنواع الخداع والتلبيسات الوهمية دخلت في حزب الأبالسة.

وإن كانت لقوتك العقلية حتى يكون جدك مقصورا على " أخذ" المعارف الإلهية واقتفاء الفضائل الخليقة عرجت إلى أفق الملائكة القادسية.

فمن كان عاقلا غير عدو لنفسه وجب عليه أن يصرف جل همه في تحصيل السعادة العلمية والعملية، وإزالة النقائض الكامنة في نفسه، وليقتصر على الأمور الشهوانية، واللذات الجسمانية بقدر الضرورة، بأن يكتفي من الغذاء بما يحفظ اعتدال مزاجه وقوام حياته، ولا يكون قصده منه الالتذاذ، بل سد الضرورة ودفع الألم، ولا يضيع وقته في تحصيل أزيد من ذلك، فإن تجاوز عنه فبقدر ما يحفظ رتبته، ولا يوجب مهانته وذلته، ومن اللباس بقدر ما يستر العورة، ويدفع الحر والبرد، فإن تجاوز عن ذلك فبقدر ما لا يؤدي إلى حقارته، ولا يوجب السقوط بين أقرانه وأهل طبقته، ومن الجماع بقدر ما يحفظ نوعه، ويبقي نسله، وإن تعدى فبقدر ما لا يخرجه عن السنة. وليحذر عن الانهماك في مقتضيات قوتي الشهوة والغضب، لأنه يوجب الشقاوة الدائمة والهلاكة السرمدية.

فالله الله في نفوسكم معاشر الأخوان أدركوها قبل أن تغرقوا في بحار المهالك، وتنبهوا عن نوم الغفلة قبل أن تنسد عليكم السبل والمهالك، وبادروا إلى تحصيل السعادات قبل أن تستحكم فيكم الملكات المهلكة، والعادات المفسدة، فإن إزالة الرذائل بعد استحكامها في غاية الصعوبة والمجاهدة مع أحزاب الشياطين بعد الكبر قلما يفيد الأثر، والغلبة على النفس الأمارة بعد ضعف الهرم في غاية الإشكال، إلا أنه في أي حال لا ينبغي أن تيأسوا من روح الله، فاجتهدوا بقدر القوة والاستطاعة، فإنه خير من التمادي في الباطل، فلعل الله يدرككم بعظيم رحمته.

ولقد قال الشيخ (1) الفاضل أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه وهو الأستاذ في علم الأخلاق، وأقدم الإسلاميين في تدوينه: "إني تنبهت عن نوم الغفلة بعد الكبر واستحكام العادة، فتوجهت إلى فطام نفسي عن رذائل الملكات، وجاهدت جهادا عظيما حتى وفقني الله لاستخلاصها عما يهلكها، فلا ييأس أحد من رحمة الله، فإن النجاة لكل طالب مرجوة، وأبواب الإفاضة أبدا مفتوحة" فبادروا إخواني إلى تهذيب نفوسكم قبل أن يصير الرئيس مرؤسا، والعقل مقهورا، فيفسد جوهركم، وتمسخ حقيقتكم، ويدرككم الانتكاس في الخلق الذي هو خروج عن أفق الإنسان ودخول في زمرة البهائم والسباع والشياطين، نعوذ بالله ونسأله العصمة من الخسران الذي لا نهاية له. وقد شبه الحكماء من أهمل سياسة نفسه الغافلة بمن له ياقوتة شريفة حمراء، فرماها في نار مضطرمة فيحرقها، حتى تصير كلسا (2) لا منفعة فيها.

تتميم

ولا تظنن أن ما يفوت عن النفس من الصفاء والبهجة لأجل ما يعتريها من الكدرة الحاصلة من معصية من المعاصي يمكن تداركه، فإن ذلك محال، إذ غاية الأمر أن نتبع تلك المعصية بحسنة تمحي آثارها، وتعيد النفس إلى ما كانت عليه قبل تلك المعصية، فلا تزداد بتلك الحسنة أشرافا وسعادة، ولو جاء بها من دون سيئة لزاد بها نور القلب وبهجته، وحصلت له درجة في الجنة، ولما تقدمت السيئة سقطت هذه الفائدة وانحصرت فائدتها في مجرد عود القلب إلى ما كان عليه قبلها، وهذا نقصان لا حيلة لجبره، ومثال ذلك أن المرآة التي تدنست بالخبث والصدأ إذا مسحت بالمصقلة وإن زال به هذا الخبث، إلا أنه لا تزيد به جلاء وصفاء، بخلاف ما إذا لم تتدنس أصلا، فإن التصقيل يزيدها صفاء وجلاء، وإلى ما ذكر أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "من قارف ذنبا فارقه عقل لم يعد إليه أبدا".

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

...........................................
(1) هو الحكيم الأعظم والفيلسوف الأكبر "أبو علي أحمد بن محمد" بن يعقوب ابن مسكويه الخازن " الرازي " الأصل والأصفهاني المسكن والخاتمة كان من أعيان العلماء وأركان الحكماء معاصرا للشيخ أبي علي بن سينا. صحب الوزير المهلبي في أيام شبابه وكان من خاصته إلى أن اتصل بصحبة " عضد الدولة " البويهي فصار من كبار ندمائه ورسله إلى نظرائه ثم اختص بالوزير "ابن العميد" وابنه "أبي الفتح" له مؤلفات كثيرة بعضها في الحكمة ومنه كتاب "الفوز الأكبر" وكتاب "الفوز الأصغر" "وجاويدان خرد" بالفارسية في الحكمة وهو يقرب من خمسة آلاف بيت وبعضها في التأريخ ومنه "تجارب الأمم" وبعضها في الأخلاق ومنه كتاب "الطهارة" المشهور وهو الذي قصده " المصنف ره " هنا لأنه أول كتاب صنف في علم الأخلاق، وقد مدحه أستاذ البشر وأعلم أهل البدو والحضر الحجة الأعظم الفيلسوف المحقق الخواجة "نصير الدين الطوسي" قدس سره بأبيات. وكان (ره) من علمائنا الإمامية قدس الله أسرارهم وقبره (بأصفهان) على باب (درب جناد) وقد اشتهر أن السيد (الدماد) الذي كان من أعاظم علمائنا وأكابر حكمائنا كان كلما اجتاز يقف على قبره ويقرأ الفاتحة (الترجمة عن الكنى والألقاب للمحدث الشهير الحاج شيخ (عباس القمي)).
(2) الكلس ما يقوم به الحجر والرخام ونحوهما ويتخذ منها بإحراقها.

اضف تعليق