ترك الشباب للمقاعد الدراسية ليس مجرد قرار فردي، بل نتيجة تفاعل معقد بين عوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية وتعليمية، ومعالجة هذه الظاهرة تتطلب تكاتف جهود الدولة والمجتمع والأسرة معا، لوضع سياسات طويلة الأمد تحمي حق الأجيال القادمة في التعليم، الذي لا يمثل فقط أداة للمعرفة، بل ركيزة أساسية للكرامة والتنمية والسلام الاجتماعي...
منذ القدم ولغاية الآن تعد ظاهرة ترك المقاعد الدراسية من الآفات المجتمعية التي يصعب السيطرة عليها ووضع حلول لها، اذ تشكل أبرز التحديات التي تواجه النظام التعليمي خصوصا في البلدان النامية ومن بينها العراق الذي عجز عن إيجاد حلول للتهرب من المقاعد الدراسية نتيجة الازمات التي ألمت فيه منذ تغيير النظام في بغداد وقبلها.
في العقود الماضية كانت البلاد مبتلية بحروب مع دول الجوار، وبالطبع هذه الحروب تمثل آلة لثرم الآلاف من البشر، ففي حرب الثمانينات أصبح التشبث في المقاعد الدراسية واحد من طرق النجاة التي يتبعها الشباب ليبقى على قيد الحياة، وسط حالة الموت الجماعي الذي يحيط بالشباب من جميع الاتجاهات.
بقيّ الحال هكذا حتى بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، فلا يوجد أي خيار امام الشباب لعدم الذهاب الى الخدمة العسكرية، سوى الانتظام في الفصول الدراسية، ولهذا يكون ترك المقعد الدراسي اشبه باختيار الموت المحتوم.
النهاية الحتمية "بدون جزم لان الاعمار بيد وهو من يقدر حياة بني البشر" لكن وجود الاخطار افرز تخريج أجيال من الشباب ممن كان ينهي دراسته دون رغبة او امل يلوح في الأفق، لكن هذه العامل بالتحديد له الفضل في تخريج وجبات او أجيال من الشباب يحمل قدرا من الثقافة.
وبعد زوال هذا الكابوس عن العراقيين "تغيير النظام" استفحلت ظاهرة التخلف عن المقاعد الدراسية ومن هنا تأتي أهمية الغوص في أعماق هذه الظاهرة لفهم دوافعها الحقيقية والبحث عن حلول عملية وواقعية.
أولى الأسباب التي أدت الى عزوف الشباب عن الدراسة هي الأسباب الاجتماعية المتمثلة بالفقر والضغوط الاقتصادية، وبسبب العوز تضطر الكثير من العائلات الفقيرة لدفع أبنائها للعمل للمساهمة في مصروفات الأسرة، ويؤيد ذلك تقرير وزارة التربية عام 2023 الذي اشارت فيه إلى أن أكثر من 20% من المنقطعين عن الدراسة في المناطق الريفية تركوا الدراسة لأسباب اقتصادية مباشرة.
ومن بين الأسباب أيضا التفكك الاسري، اذ تُظهر الدراسات أن الشباب الذين ينشئون في بيئة أسرية مضطربة سواء نتيجة الطلاق أو العنف المنزلي يكونون أكثر عرضة لترك الدراسة، بسبب غياب الدعم النفسي أو الإشراف التربوي، وتشير إحصاءات منظمة اليونيسيف إلى أن الأطفال في البيئات غير المستقرة يُبدون مستويات تحصيل أدنى، ويعانون من تسرب أكبر من أقرانهم، فضلا عن مسألة الزواج المبكر للفتيات، ففي العديد من المجتمعات، لا تزال الأعراف الاجتماعية تشجع الزواج المبكر للفتيات، مما يؤدي إلى حرمانهن من التعليم.
ومن جانب آخر يقع على المؤسسات التربوية قسطا من المسؤولية، ذلك لانعدام الجانب التحفيزي، ولم تكن المدرسة بيئة جاذبة تقدم محتوى تعليمي يواكب التغيرات، مما يؤدي الى شعور الطالب بالملل ويجعله يفكر بأبسط طريقة للانسحاب من اللعبة العلمية والذهاب الى السوق او الاعمال الحرة في سن مبكرة.
وما يضاعف نية الترك او يشجع عليها هي الازمات الحادة في البنية التحتية، مع ارتفاع أعداد الطلاب مقابل نقص في المدارس والكوادر التدريسية، مما يضعف التفاعل داخل الصف ويؤثر سلبًا على مستوى التحصيل، وعلى سبيل المثال في محافظة بغداد، يبلغ متوسط عدد الطلاب في الصف الواحد أكثر من 45 طالبا بحسب تقرير وزارة التربية لعام 2024.
وهنا نحتاج الى قرار جريء وشجاع من قبل صاحب القرار او المعني المباشر بالموضوع لإصدار جملة من القرارات من أهمها دعم الأسر اقتصاديا من خلال تقديم منح مالية مشروطة بالتعليم للأسر الفقيرة، كما هو معمول به في بعض دول أميركا اللاتينية، يمكن أن يكون وسيلة فعالة لخفض التسرب المدرسي.
إصلاح المناهج لتصبح أكثر تفاعلية وربطها بسوق العمل من خلال التعليم المهني والتقني، اذ يعزز ذلك من رغبة الطلاب في البقاء في المدرسة، والعمل جديا على إعادة تأهيل المدارس وبناء صفوف جديدة وتوفير مرافق صحية وملاعب ومكتبات لخلق بيئة تعليمية جاذبة، تقلل من ظاهرة الهروب من المدارس.
ترك الشباب للمقاعد الدراسية ليس مجرد قرار فردي، بل نتيجة تفاعل معقد بين عوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية وتعليمية، ومعالجة هذه الظاهرة تتطلب تكاتف جهود الدولة والمجتمع والأسرة معا، لوضع سياسات طويلة الأمد تحمي حق الأجيال القادمة في التعليم، الذي لا يمثل فقط أداة للمعرفة، بل ركيزة أساسية للكرامة والتنمية والسلام الاجتماعي.
اضف تعليق