اقتصاد - مقالات اقتصادية

الدولار لا يزال يتبوأ صدارة العملات

كيف تمكنت العملة الأميركية من الصمود أمام ضربات ترمب؟

مكانة الدولار على قمة النظام النقدي العالمي قد تبدو هشة على نحو متزايد، سيحول غياب البدائل الفاعلة دون سقوطه عن هذه القمة، خلال الوقت الراهن. وكما كان الحال دوماً، لا تعكس هذه القدرة على الصمود استثنائية أميركية، بل هشاشة اقتصادية وسياسية ومؤسسية عميقة داخل باقي أنحاء العالم....
بقلم: إسوار براساد

أربك ترمب الأسواق العالمية برسومه الجمركية وهجماته على الاحتياط الفيدرالي، ما أضعف الثقة بالدولار ومكانته كملاذ آمن، في سابقة لم تحدث في أزمات سابقة. ومع أن هشاشة النظام الأميركي باتت واضحة، لا يزال غياب البدائل القوية يحمي الدولار من السقوط الفوري عن عرشه العالمي.

بدت الولايات المتحدة العام الماضي وكأنها ترسخ موقعها المتقدم كملاذ آمن للاستثمار الدولي، فقد أسهم الأداء القوي للاقتصاد الأميركي مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى في ارتفاع قيمة الدولار بنحو 10 في المئة خلال خريف 2024. وواصل كل من الاقتصاد وسوق العمل أداءه الجيد حتى قبيل تنصيب دونالد ترمب وبعده، فيما بدأت معدلات التضخم تتراجع تدريجاً نحو الهدف الذي حدده الاحتياط الفيدرالي، والبالغ نحو اثنين في المئة.

لكن منذ توليه الرئاسة، بدأ ترمب يثير الشكوك في أوساط المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء. فقد تسبب إعلانه خلال الثاني من أبريل (نيسان) الماضي عن "يوم التحرير" -الذي تضمن فرض رسوم جمركية شاملة على جميع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة- في إرباك التجارة العالمية وإحداث اضطرابات في الأسواق المالية، وعلى رغم أن البيت الأبيض علق أو خفض بعض هذه الرسوم من مستوياتها الأولية المرتفعة جداً، فإن الضرر وقع. فقد تسببت حال عدم اليقين التي أوجدتها هذه الرسوم في إضعاف آفاق النمو خلال ما تبقى من العام، لا سيما داخل الولايات المتحدة، إذ إن الرسوم تطاول عملياً جميع مبادلاتها التجارية، ونتيجة لذلك تزايد احتمال أن يقدم الاحتياط الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة لاحقاً هذا العام لدعم الاقتصاد، وهو ما أدى بدوره إلى تراجع قيمة الدولار لتعود إلى مستوى سبتمبر (أيلول) 2024، أي قبل أن يحقق ارتفاعه البالغ 10 في المئة.

دفعت هذه التطورات إلى التشكيك في الدور التاريخي للدولار كملاذ للاستثمار العالمي. فعلى مدى العقدين الماضيين كانت كل موجة اضطراب اقتصادي ومالي تدفع المستثمرين في أنحاء العالم نحو الأصول المالية الآمنة، لإيداع أموالهم فيها إلى حين انقضاء العاصفة. وكما أوضحت في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" صيف العام الماضي، كانت سندات الخزانة الأميركية بفضل استقرار الاقتصاد الأميركي وتوافرها بكميات كبيرة وسهولة تداولها، هي الأصل الأكثر أماناً، مما دفع الطلب عليها إلى الارتفاع. وهذا الطلب المتزايد يؤدي عادة إلى رفع سعر السندات وخفض عوائدها، مما يسهل على الحكومة الأميركية والأسر الأميركية الاقتراض في مقابل كلف منخفضة، كذلك يدعم تدفق الأموال نحو الأصول المقومة بالدولار قيمة العملة نفسها.

لكن عقب إعلان ترمب الرسوم الجمركية، اختلف رد الفعل. لم يتوجه المستثمرون المذعورون إلى سندات الخزانة الأميركية أو الأصول المقومة بالدولار، بل فضلوا بدائل لها على غرار السندات الحكومية اليابانية والذهب. وعلى عكس ما حدث في موجات الاضطراب الأخيرة، ارتفعت معدلات الفائدة الأميركية البعيدة الأجل، ولا سيما عائد سندات الخزانة المستحقة بعد 10 أعوام، التي تعد مرجعاً أساساً للقروض العقارية وقروض السيارات وقروض الشركات الأميركية. كذلك، تراجعت قيمة الدولار أمام العملات الأخرى، بعدما كانت تستقر عادة في مثل هذه الأوقات التي تشهد اضطراباً في الأسواق المالية الأميركية.

من خلال سياساته الاقتصادية وهجماته على استقلالية الاحتياط الفيدرالي والأضرار التي ألحقها بسيادة القانون في الولايات المتحدة، لم يضعف ترمب قوة الدولار في أسواق الصرف فحسب، بل مس أيضاً الإطار المؤسسي الذي يدعم هيمنة هذه العملة على المدى البعيد. وتشير هذه الظروف إلى أن الدولار يقترب من مرحلة اختبار حقيقي لمكانته العالمية، الذي هيمن على النظام المالي العالمي لأكثر من قرن بوصفه العملة الرئيسة في التسعير والمدفوعات والاحتياطات. وما يزيد من خطورة الوضع أن ترمب طرح فكرة السعي إلى تعاون دولي لإضعاف الدولار، في محاولة متفائلة لدعم الصادرات الأميركية.

ومع ذلك، فإن فقدان الدولار لعرشه -وهو احتمال طالما أثار حماسة حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء- يظل مستبعداً ما لم تبادر دول أخرى إلى اغتنام الفرصة لإزاحته، لكن يبدو أن هذه الدول غير مستعدة لذلك. فعلى رغم أن ترمب أضعف الموقع الاقتصادي للولايات المتحدة، لا تزال الأصول الاستثمارية في الاقتصادات الكبرى الأخرى، مثل الصين واليابان ومنطقة اليورو، أقل جاذبية مقارنة بتلك الموجودة داخل الولايات المتحدة. ففي بعض الحالات، أدت توقعات النمو الاقتصادي الضعيفة في هذه الدول إلى تقليل جاذبية أصولها. أما الصين فهي تعاني في نظر المستثمرين من القيود المفروضة على حركة رؤوس الأموال من وإلى البلاد، إضافة إلى افتقار البنك المركزي الصيني إلى الاستقلالية. وفي المقابل، تثير الاضطرابات السياسية في أوروبا تساؤلات حول استقرار منطقة اليورو.

لم تبد مكانة الدولار في قمة النظام النقدي العالمي أكثر هشاشة مما هي عليه اليوم. لكن لحسن حظ الولايات المتحدة –ولسوء حظ كارهي الدولار– لا يبدو أن ثمة منافساً قوياً بما يكفي لإزاحة هذه العملة عن عرشها.

سباق نحو القاع

لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت موجة التوجه العالمي نحو الأصول غير المقومة بالدولار، التي تسارعت خلال وقت سابق من هذا العام، تشكل بداية اتجاه طويل الأمد أم أنها مجرد انعكاس لعوامل تقنية وظروف اقتصادية كلية موقتة. فقد أدت التعديلات في التوقعات المتعلقة بالنمو الأميركي ومعدلات الفائدة، عقب إعلان ترمب عن الرسوم الجمركية، إلى إجبار صناديق التحوط -التي راهنت بصورة مفرطة على سندات الخزانة الأميركية- على بيع حصصها بعد أن خالفت رهاناتها التوقعات. وأسهمت القوى الاقتصادية الكلية بدورها في الاتجاه نفسه، إذ بدأ المشترون يطالبون بعوائد أعلى على ديون الحكومة الأميركية، مما يعكس توقعات بارتفاع التضخم. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى زيادة حجم دينها الفيدرالي الضخم أصلاً، ومع احتمال أن تؤدي الرسوم المعلنة إلى ارتفاع التضخم، لا يبدو مستغرباً أن ترتفع معدلات الفائدة على الاقتراض الحكومي، على رغم أن تباطؤ النمو الاقتصادي في الظروف الطبيعية كان سيؤدي إلى خفضها.

وقد يكون هذا التحول عن الأصول المقومة بالدولار مدفوعاً أيضاً برغبة المستثمرين في تنويع محافظهم الاستثمارية، فبالنسبة إلى المستثمرين الأجانب سواء كانوا من القطاع الخاص أو من جهات رسمية -كالمصارف المركزية وصناديق الثروة السيادية– لا يبدو منطقياً الاحتفاظ بأكثر من 50 في المئة من محافظهم في أصول تعود إلى بلد واحد أو مقومة بعملته، ذلك أن هذا التركيز الشديد يعرضهم إلى أخطار اقتصادية ومالية وجيوسياسية، وهي أخطار تتفاقم منذ تولي ترمب منصبه. بالتالي، قد يكون التوجه نحو الأصول غير الأميركية مجرد تحول انتهازي نحو هدف عقلاني يتمثل في التنويع.

لكن هذا التحول قد يصل إلى حدوده قريباً، لأن أسواق العملات والأصول المالية في البلدان الأخرى تفتقر ببساطة إلى العمق (توافر كميات كبيرة من الأصول العالية الجودة) والسيولة (سهولة التداول) اللازمين لاستيعاب تدفقات كبيرة من رؤوس الأموال. وبالمثل، على رغم أن التغييرات التكنولوجية التي تربط أنظمة التسديد في البلدان المختلفة ورغبة المستثمرين في التنويع قد تضعف من دور الدولار كعملة تسديد في المعاملات الدولية، لا تزال الأدلة على ذلك محدودة. ولا يزال الدولار يتقدم بفارق واسع عن العملات الأخرى كلها.

إلا أن هذا الفارق آخذ في التقلص. ويظهر التاريخ أن العوامل التي قد تؤدي إلى تغير حاد في قوة أية عملة أو موقعها المالي العالمي يمكن أن تتراكم ببطء، ليحدث التبدل الحاسم بصورة مفاجئة. وفي هذا السياق، ينبغي النظر إلى الأضرار التي يلحقها ترمب بالإطار المؤسسي الأميركي، وهو أحد الأعمدة الأساس التي ترتكز عليها هيمنة الدولار وثقة المستثمرين المحليين والأجانب في النظام المالي القائم على العملة الأميركية. إن تقويض ترمب لسيادة القانون وتخبطه في صياغة السياسات، يجب أن يدفع الحكومات والبنوك المركزية الأجنبية إلى تقليص اعتمادها على الدولار كعملة دفع واحتياط دولية، شأنه في ذلك شأن هجماته المتكررة على استقلالية البنك المركزي الأميركي. فلم يكتف ترمب بالضغط على الاحتياط الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة، بل لمح أيضاً إلى احتمال تعيين مسؤولين كبار أكثر طواعية، ينفذون توجيهات إدارته في ما يتعلق بالسياسة النقدية والتنظيمية، وسيكون لهجومه المباشر على استقلالية الاحتياط الفيدرالي آثار خطرة على قدرة المؤسسة على تحقيق أهدافها في ضبط التضخم وخفض البطالة، وهما عاملان أساسيان في تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب بقيمة الدولار على المدى البعيد.

وحيداً في القمة

ومع ذلك، من السابق لأوانه نعي هيمنة الدولار، نظراً إلى هشاشة العملات الاحتياطية الأخرى والحاجة الشديدة إلى أصول آمنة خلال أوقات الاضطراب الاقتصادي والمالي. لا شك في أن سوق السندات الحكومية اليابانية تحوي كماً هائلاً من السندات المتاحة، وتعد آمنة على نطاق واسع، وكذلك أسواق السندات داخل بعض بلدان منطقة اليورو الأساس مثل النمسا وفرنسا وألمانيا وهولندا. لكن هذه البدائل كلها تعاني ضعفاً في آفاق النمو أو اضطرابات سياسية محلية. ولم تحقق منطقة اليورو تقدماً يذكر خلال الأعوام الأخيرة نحو مزيد من التكامل الاقتصادي والمالي، كما أن بلدانها الأساس تشهد ميلاً نحو الشعبوية واليمين، مما ينبئ بعدم الاستقرار السياسي. وهذه التطورات، إلى جانب العجز المتصاعد في موازنات هذه البلدان، لا تبعث على الثقة في قدرة اقتصادات هذه البلدان على تحقيق نمو قوي ومستقر.

أما الاقتصاد الصيني، فقد بدأ يواجه حقيقة هشاشته الداخلية، إذ لا تزال أزمة انهيار أسواق العقارات تسبب ضغوطاً متواصلة، فيما أصبحت الأخطار المالية المرتبطة بالنموذج الاقتصادي الصيني - الذي يعتمد بصورة كبيرة على استثمارات غير فعالة تمولها القروض المصرفية - واضحة للمستثمرين. كما لم تنجح الصين بعد في التخلص من شبح الانكماش الناتج من تجاوز قدرتها الإنتاجية لحجم الطلب الاستهلاكي المحلي خلال الأعوام الأخيرة. وتراجعت ثقة الأسر والشركات الخاصة في السياسات الحكومية وإدارة الاقتصاد. كما أن الصين لا تحظى بثقة المستثمرين الأجانب بسبب ضعف مؤسساتها، إذ يحتفظ الحزب الشيوعي الصيني بسيطرته المطلقة على النظامين الاقتصادي والقضائي والسياسي.

وعلى رغم أن مكانة الدولار على قمة النظام النقدي العالمي تبدو هشة على نحو متزايد، سيحول غياب البدائل الفاعلة دون سقوطه عن هذه القمة، خلال الوقت الراهن. وكما كان الحال دوماً، لا تعكس هذه القدرة على الصمود "استثنائية أميركية"، بل هشاشة اقتصادية وسياسية ومؤسسية عميقة داخل باقي أنحاء العالم. وما لم يتغير هذا الواقع، سيظل الدولار يحتفظ بمكانة لا تستحقها أية عملة أخرى على الإطلاق.

* إسوار براساد، أستاذ أول في سياسات التجارة في كلية دايسون للاقتصاد التطبيقي والإدارة بجامعة كورنيل، وزميل أول في "مؤسسة بروكينغز"، ومؤلف كتاب "مستقبل المال: كيف تغير الثورة الرقمية العملات والتمويل".

المقال مترجم عن "فورين أفيرز" 23 مايو 2025

https://www.independentarabia.com/

اضف تعليق