تغير التوجهات الاقتصادية الحكومية بإجراءات فورية او جذرية هو ليس بالأمر السهل او الهين في بلاد اعتادت على نمط استهلاكي مريح والبحث عن التشغيل الرسمي المكتبي في نظام اتسع فيه مفهوم التوظيف الحكومي كبديل لسوق العمل إلى حد واسع وعد الاشتغال في المؤسسات الحكومية بمثابة...
1. البنية المؤسسية
ثمة قانونين أساسيين هما بحاجة إلى هيكلية تنظيمية ترافقهما قوة تنفيذية فاعلة وهما مجلسي حماية المنتج وحماية المستهلك كتشكيل يمثل السلطة النظامية في العراق. ذلك لضمان أمرين مهمين اولهما: السعي إلى حماية نوعية السلع المستهلكة ولاسيما المستورد منها لوجود انتهاك لا حدود له لصحة المستهلك واستنزاف دخله، اذ تتدفق سلع ومواد إلى البلاد تفتقر إلى مقومات حماية المواطن وعلى وفق المواصفة والنوعية المعتمدة، ذلك دفاعاً عن حقوق المستهلكين وبشكل خاص الأغذية والادوية ومستلزمات انتاج السلع الاستهلاكية وغيرهما.
والثاني تفعيل المنتج المحلي وحماية دالة الإنتاج الوطنية من التعثر بسبب الاغراق السلعي وسياسة الباب المفتوح لتجارة العراق الخارجية التي يرافقها شبه انفلات حدودي وهجوم سلعي لم يسبق له مثيل جراء سهولة تمويل التجارة مع ضعف الانضباط الحدودي والكمركي.
ان حماية المنتج الوطني من القاتل السلعي الاجنبي المتمثل بالإغراق هو بحاجة إلى إرادة وقرار وطني تتوافر فيه اربعة عناصر فاعلة:
اولهما، قوة نفاذ القانون في حماية المنتج الوطني من المنافس الاجنبي ذلك بتفعيل جداول قانون التعرفة الكمركية وتوجيه عوائدها بصورة مباشرة لدعم المنتج الوطني، والثاني، ضبط الحدود باستخدام القانون والقوة المسلحة لحماية سياج البلاد وسيادته الاقتصادية من سطوة المهربين ومخترقي الحدود وثالثهما، استخدم منظومة ضريبية وكمركية رقمية بديلة بالتعاون مع شركات عالمية متخصصة ذات خبرة رقمية متميزة بالإدارة الكمركية وعلى وفق اسلوب عالمي معتمد يسمى التعهيد الرقمي Digital Outsourcing.
واخيراً، توافر حراك من الدبلوماسية الاقتصادية مع دول الجوار الموردة للسلع الزراعية والغذائية للتوجه نحو الاستثمار الزراعي داخل العراق باستغلال اراضيه الزراعية المهملة التي تبلغ ٤٨ مليون دونم والتي لم يستغل منها سوى ١٢ مليون دونم في احسن الاحوال (ولأسباب كثيرة يعود قسم منها داخلي يتمثل إلى فشل ادارة المياه الزراعية وملكية الاراضي وتسوية الحقوق والملكيات الزراعية، فضلاً عن السبب الخارجي المتمثل بالإغراق السلعي ولاسيما الزراعي للدول المجاورة)، ذلك بدعوة الشركات الزراعية في تلك الدول، وخصوصاً شركات الدول المجاورة التي هي مصادر اساسية لتدفق الروافد المائية إلى العراق، للاستثمار في بلادنا بموجب قانون الاستثمار النافذ.
فبدلاً من تصدير مياه افتراضية virtual water واقصد سلع زراعية مغذاة بمياه يفترض تدفقها إلى العراق لأغراض الزراعة، يجري التعاون على النطاق الاقليمي بالسماح لاستثماراتها باستغلال تربة العراق للزراعة داخل البلاد واستخدام قوة العمل العراقية وعلى وفق مبدأ يطلق عليه بالتقابل offsetting كما ان ادارة النشاط الاستثماري عبر متلازمة (الارواء-الزراعة) لابد ان تكون من صلب مهام المجلس الاعلى للمياه مستقبلاً، الذي سيضع قضية التصدي لموضوع نشوء ظاهرة المياه الافتراضية وتحقيق مبدأ التقابل على سلم اولوياته.
2. الشراكة التنظيمية للدولة في الاقتصاد الوطني
اولاً: الاساس الجزئي
أ- امسى البدء في لم شمل الحرف اليدوية والصناعية في وحدات مصنعية مدعومة بتوافر البنى التحتي من جانب الدولة وعد تلك البنى من السلع العامة هو توطين العودة إلى اصول الانطلاق في قواعد التنمية بعد ان يتم تشكيل مناطق حرفية او تجمعات للمهن الحرفية (من مختلف المشارب كالنجارين واعمال الحدادة الفنية وقطع الغيار على سبيل المثال وصانعي الاحذية والحقائب المدرسية ومختلف المهن الحرفية)، والتي اختفت تماماً من مجالات الإنتاج العراقي واسواقه، ذلك بمدها بالتمويل عن طريق برنامج الاقراض الميسر الذي يمسك به البنك المركزي العراقي حالياً على سبيل الاشارة او غيره، فضلاً عن تخصيص الحصيلة الضريبية او حصيلة الرسم الكمركي على السلع الموردة لتكون بمثابة دعم حكومي في توفير البنى التحتية للنشاطات الإنتاجية الوطنية وبما يعظم من الوفورات الخارجية للمشاريع ويقوي من مظاهر اقتصاديات الحجم وتعزيز احد اهم مبادي السلعة العامة التي تقدمها وتدعمها السياسات الحكومية في الغالب.
ب- تتولى الدولة ضمان جانب من مشترياتها من منتجات تلك القوى الحرفية كالأثاث الخشبي والمعدني والمنسوجات الوطنية وغيرها على سبيل المثال لا الحصر بغية التشجيع والتطوير، فضلا عن اعتماد تسويق منتجات المجمعات الحرفية سواء لمصلحة الحكومة نفسها كما اسلفنا او عن طريق اشاعة البيع في المجمعات التعاونية المعفاة من الرسوم والتي ينبغي اعادة نشاطها بقوة، اذا ان اغراق السوق بالمستوردات عن طريق سياسة الباب المفتوح قد افقد المهن الحرفية وجودها والتي كانت تمتص آلاف من العمال والصناع الحرفيين بغية اعادة تنمية دورة العمل والاستخدام على اوسع نطاق ذلك ضمن برنامج حماية الحرف والمنتجات العراقية.
ان اقوى الدول ليبراليةً في الاقتصاد مازالت تحمي التنافسية للسلع الوطنية واقصد الولايات المتحدة. اذ يحظر الاغراق الخارجي بتاتاً بموجب القانونين الفيديرالية وتمنع المؤسسات الحكومية الاتحادية هناك من تنفيذ مشترياتها من اي منتج أجنبي يوجد له بديل أمريكي وتشكل القيمة المضافة الوطنية الامريكية في الصنع او الإنتاج ٤٥٪ صعوداً ويؤشر ذلك لدى لجان المشتريات الحكومية. فما بالنا نحن في العراق!
ثانياً: الاساس الكلي
تأخذ المبادرة كما في مسألتي الاساس الجزئي (أ، ب) في اعلاه اطاراً فلسفياً للشراكة التنظيمية لعمل الدولة في الاقتصاد الوطني وسوقه الاجتماعية كي تتسع لتشمل العمل في تشجيع القطاع الصناعي الخاص والعام، اذ ان هناك ٢١ ألف مشروع صناعي متوسط وكبير (ممنوح اجازة استثمار من مؤسسة التنمية الصناعية الحكومية واغلبها متوقف او متعثر حالياً) ذلك لضمان تشغيل خطوطها وتحديثها تكنولوجياً وتأهيل العاملين فيها ومدها بالقروض الميسرة وتبنى اجراءات دعم البنية التحية كلاً او جزءاً. فضلاً عن ضمان تشغيل أكثر من ١٢٠ منشاة مملوكة للدولة ومتوقفة منذ العام ٢٠٠٣ والتي مازالت تضم قرابة نصف مليون عاطل ولكن مضمون بالوظيفة والراتب الحكومي الشهري.
3. التوظيف الحكومي غير المنتج
وبعيدًا عن هموم التوظيف الحكومي غير المنتج ومشكلات تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي مازالت محدودة، فضلاً من ان غالبية القروض تذهب لتمويل استهلاكيات أو مشاريع وهمية لا اثر ولا جدوى اقتصادية لها، فان تغير التوجهات الاقتصادية الحكومية بإجراءات فورية او جذرية هو ليس بالأمر السهل او الهين في بلاد اعتادت على نمط استهلاكي مريح والبحث عن التشغيل الرسمي المكتبي في نظام اتسع فيه مفهوم التوظيف الحكومي كبديل لسوق العمل إلى حد واسع وعد الاشتغال في المؤسسات الحكومية بمثابة زبائنية في شركة ضمان الحياة او تأمين على الحياة من دون عمل مجدي.
وان الاستمرار بهذا النمط في التشغيل (ازاء تدفق ما ال يقل عن نصف مليون عامل سنوياً إلى سوق العمل مع وجود أكثر من مليونين عامل عاطل جلهم يعمل بأقل من ١٥ ساعة في الأسبوع) يتطلب توافر عملية جراحية اقتصادية وقانونية كبرى في اعادة تسيير ادارة الدولة للاقتصاد وتوليد شراكة حقيقية في الإنتاج تتسم بنقاء عالي في الفهم المشترك لإدارة الاقتصاد بين الدولة القطاع الاهلي.
وان هذا النسيج والتلاحم بين اقتصاد الدولة واقتصاد السوق يقتضي توفير نظام حماية للمشتغلين في اقتصاد السوق الحر يمثل الحد الادنى للأمن الاجتماعي ويضع الجميع فوق خط الفقر. لذا لابد من ايجاد نظام لتقاعد العمال وارباب العمل سوية ويكون أكثر يسراً من التشريعات المعتمدة ولاسيما في مضامين مساهماته غير الطاردة للمساهمين فيه ويشترك الجميع فيه (عمال وارباب عمل طواعية) عبر مساهمات عقلانية تذهب إلى صندوق التقاعد مع ضمان من يبلغ منهم سن التقاعد من الآهلين حالياً بالتخصيصات التقاعدية بعد دفع الحد الادنى من المساهمات وبمعاونة الدولة، ما يقتضي في الاحوال كافة تبني صندوق تقاعد موحد (للدولة وللقطاع الأهلي) والعمل على تشريعه.
4. الخلاصة
تأسيساً على ما تقدم فلابد من ان يضمن الصندوق الجديد للتقاعد توافر الحماية الاجتماعية للقطاع الاهلي محققاً الرغبة في العمل الخاص المنتج والتخلص من مرض الوظيفة العامة لكون الاشتغال الحكومي قد تحول إلى حيز (مولد للدخل غير المنتج) ومعظم للكسل وموفر للحماية الاجتماعية المطلقة في آن واحد مما أخل بالتوازن الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
اضف تعليق