q

من بديهيات توحيد الخالق نجد الحقائق الكونية المبدئية الآتية في علم الفيزياء:

1- كل كائن؛ هو ظاهر لباطن قوة انجزته فلا فعل بدون قوة تنجزه على الاطلاق.

2- صفات كل القوى الكونية هي الجذب والألفة والرحمة فقط. ولو حل التنافر والقسوة بقوى الكون فلا وجود على الاطلاق.

3- للقوى الكونية مصدر واحد وسنخ واحد لا يشترك في سنخية القوى الكونية شيء على الاطلاق.

4- ان الكون منضبط وقائم وساري بقوة لا متناهية واحدة تثبت العجز الذاتي في نمط من انماط الخلق وترفعه في النمط اللاحق سريانا باتجاه الكمال الخلقي، فهي قوة مريدة رحيمة حكيمة مدبرة كاملة.

اذن؛ فكل الكائنات والكون هي افعال لقوة كونية رحيمة من سنخ واحد، ولا يوجد غيرها في الكون، وعليه فلا وجه على الاطلاق لشريك اخر في تكوين الكون والكائنات ولا غير قوي جبار مقتدر حكيم قائم في استمرار الكون.

والواضح من حياة وجمال تلك القوة اللامتناهية الموحدة الرحيمة المبدعة الحكيمة التي تقوم بها الموجودات؛ انها تتجسد في إثبات العجز في الكائن الموجود مرة كما في المادة (القصور الذاتي )، وبرفعه مرة أخرى كما في الحياة، ثم بإثباته في الحياة ( القصور الحيوي الذاتي) ورفعه في العقل كما في الانسان، ثم بإثباته في العقل ( القصور العقلي الذاتي)، ثم برفعه عن العقل في الانسان المختار بالعصمة وقوة الوحي، ليكون النبي ذا عقل مرفوع عنه كل القصورات وفق حركة كونية نسقية نمطية متكاملة صاعدة باتجاه الكمال وبأمر واحد.

سبحان القوي بهذا الكمال والجمال والحكمة والتدبير والدقة... : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].

ونحن نرى صور وحدته جل وعلا في معنى الحق؛ حيث الحق واحد لا يتعدد ولا يتبدد متجسدا وبشكل بديهي في:

اولا- وحدة السنن الكونية البديهية النافذة في الكون.

ثانيا- ووحدة الأنماط الخلقية التي تجسد الكون.

ثالثا - ووحدة الثوابت والنسب ووحدة قيامها وحياتها.

فلا وجه علمي محتمل لوجود شريك خارج تلك الوحدة؟

قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]

وهذا الكون كتاب مفتوح لآيات الله تعالى وبوضوح نجد ان نتاج تلك القدرة الحكيمة المبدعة؛ هو الكون كائنات وظواهر، وهو يحصل بنسق واحد، نقول عنه النسق الكوني والكل يدرك من خلال الكون وببداهة ان وحدانية المبدع تتحقق بالخصائص التالية:

أولا - الحركة النمطية التي تميز الموجودات الكائنة جميعا، قبضا وبسطا، والتي تتحقق في كل مفردة من مفردات الكون (الفعل)، وكل جزء من أجزائه.

ثانيا - الحركة النمطية الكونية الصاعدة في البسط ابتداءا من قبض، سريانا باتجاه قبض آخر؛ هو في الواقع بداية لبسط نمط أكثر اقترابا من الكمال.

ثالثا - القصور الذاتي في الأجزاء، والترابط والتكامل بين جميع الأجزاء الوجودية، في سعيها لإنجاز الكون الواحد (الفعل).

رابعا - كون جزء مختار من موجدات النمط السابق؛ كلبنات لبناء موجودات النمط اللاحق.

خامسا- الرفع التدريجي للقصور في الموجودات الكائنة المبسوطة (الظاهرة)، تطورا باتجاه الكمال، من الطاقة حتى العقل.

سادسا- سريان متسق دائب دائم لا يتوقف بدءً من التجرد، وعودا إلى التجرد في نمط كبير.

إن الله سبحانه وتعالى يقول:

(ذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟) يونس – 32.

فغاية كل علم هو بلوغ حقائقه، أي الإحاطة بثوابت الصدق من معاني وجوده؛ وهي جزئيات الحق الذي تبقى الإحاطة به بعيدة المنال، حيث لا يوجد سبيل علمي إلى الله تعالى من خلال أنماط التعلم في التكوين النفسي للإنسان، كالتسليم والتعليل والتصديق والتفاضل والتكامل والتعميم والتجريب والايمان بالغيب.

بل السبيل إلى معرفة الله تعالى تبدأ من نفس الإنسان وقلبه، أي عكس معرفة الأشياء، حيث تبدأ في خارج النفس ومحيطها، ثم بعد المعرفة تصير حقائق تنطوي عليها النفس في داخلها.

وقد بين القرآن العظيم ذلك في قصة سيد الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام.

فقد كان قلب الخليل مفعماً بالحب لربه، مما دفعه لسلوك سبل المعرفة الفطرية في أنماط التعلم فجرب السبل من فكره وذاكرته في النظر إلى النجوم، فلما رآها تأفل، علم أنها ليست بمكانة المحبوب الفاطر الذي لا يأفل ولا يتغير، فوجه وجهه إليه: ({وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79]

فقد امتلأ قلب إبراهيم عليه السلام بصدق بحب الله تعالى فأراه الله حقيقة ملكوت السموات والأرض فكان من الموقنين، وصار بذلك يحاجّ قومه بما امتلك ويقول:

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 80، 81].

فقد كان إبراهيم عليه السلام ذا قلب سليم وفطرة نقية، ولكنه حين رأى من ذاته لذاته أنه كلما وجه وجهه لشيء يظن أنه ربه، يجد أنه فقير بذاته محتاج لغيره لأنه يأفل وهو عليه السلام قد امتلأ قلبه السليم بحب الغني الفاطر الذي لا يصيبه الأفول، لذا فهو لا يحب الآفلين، فهي مخلوقات من أمثاله، مما جعله عليه السلام يلتفت إلى أنه إنما يبحث عن الذي ليس كمثله شيء، أي يبحث عن علة البحث عنده، بل علة كل شيء موجود مثله، فوّجه عليه السلام وجهه إليه سبحانه وتعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).

إذن فإبراهيم عليه السلام أحب الله تعالى ربه وامتلأ قلبه بهذا الحب، فلا وجود لغيره معه في قلبه؛ فهو عليه السلام بدأ بالحق الذي بدأ به الوجود كله ويقوم عليه ويستمر معه، إنه عليه السلام امتلك الحقيقة الكلية البديهية التي يعمى عنها الكثير لبداهتها ويتجاهلها الكثير لحماقته ويعدم فائدتها الكثير لكثرة ذنوبه، فان سلامة القلب تأهيل له لاستلام الحقيقة التي تشع منها كل العلوم.

اضف تعليق