q
اقتصاد - تنمية

هل ترتدي المدن الكبرى حلّتها الزراعية؟

الأغذية والمدن: النهوض بمستقبلنا الحضري

الاستفادة من عنصر الجودة المزدوج لدى المقيمين في هذه المدن بوصفهم منتجين ومستهلكين في آن معًا والقيام، في خضم هذه العملية، بإرساء الأساس لنظم زراعية وغذائية محلية أكثر قدرة على الصمود. تعزيز الأمن الغذائي، على تحقيق الاستقرار في القوى العاملة وخلق فرص عمل جديدة في سلسلة القيمة...

يعيش في المناطق الحضرية اليوم أكثر من 50 في المائة من السكان. وتعدّ المدن بالفعل مصدر ما يقارب ثلاثة أرباع الطلب العالمي على الأغذية وما يزيد على 70 في المائة من الاستهلاك الإجمالي للطاقة الغذائية. ولذلك، يجب أن تتأتّى الاستدامة والحلول الغذائية المبتكرة من هذه المراكز الحضرية.

في منطقة بورتا نوفا (Porta Nuova) وسط مدينة ميلانو، يحلّق المرء بنظره ليرى غابة Bosco verticale، أو الغابة العامودية، وهي عبارة عن بنائين شاهقي الارتفاع تضم شرفاتهما قرابة 1000 شجرة ناضجة. وقد نبت حقل قمح خارج الباب الأمامي ليربط هذه الغابة بمجموعة من ناطحات السحاب التي تأوي بنوكًا وشركات إيطالية عملاقة.

وقد شهد مفهوم تخطيط بورتا نوفا محاكاة واسعة النطاق. وتعتبر شعبيته دليلًا على الحسّ المتنامي بأنه مع تغير التوازن العالمي بين المناطق الحضرية والريفية، لا بد للوظائف التي تميّزنا وتدعمنا – بما فيها إنتاج الأغذية- أن تتغيّر أيضًا.

وفي الوقت الراهن، يعيش أكثر من نصف سكان العالم في مناطق حضرية، وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2050 سيعيش في المدن حوالي 70 في المائة من السكان. ونتيجة لذلك، فإن "الريف" يهاجر أيضًا. وعلى أطراف صحراء ليما التي تعاني من الحرمان التغذوي، يقوم السكان بزراعة الخضار في الأحواض المائية. وتنتشر الحدائق العائلية في أنحاء لندن الكبرى أيضًا. ومن نيويورك إلى مانيلا، تستحوذ الحدائق المجتمعية على الأراضي الخالية. ومع استعادة الماضي الريفي بفخر، ترتدي المدن الكبرى حلّتها الزراعية.

مبادرة المدن الخضراء التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة

لقد بدأ هذا التحوّل - الديمغرافي والاقتصادي والنفسي الاجتماعي في الوقت ذاته - في إلهام النُهج المؤسسية الخاصة بالأغذية والزراعة. ويعرّف السيد Eduardo Mansur، المسؤول عن تغير المناخ والتنوع البيولوجي والبيئة في المنظمة، مبادرة المدن الخضراء الجديدة التابعة للمنظمة بأنها مزيج من "النهج الحضرية وشبه الحضرية والريفية" يرمي إلى تعزيز الأمن الغذائي وسبل العيش والنتائج في مجال الصحة. وتتمثل فكرة الكامنة وراء المبادرة في إعادة مواءمة السياسات والديناميكيات المكانية ودمجها، وتحفيز الابتكار وتعزيز الإدماج الاجتماعي بطريقة تسدّ الفجوة بين المدن والمناطق النائية، بما يؤدي إلى تأمين الوصول إلى المساحات الخضراء والأغذية المغذّية للجميع.

وتنبع هذه المبادرة من حقيقة لا تقبل الجدل مفادها أنه بعيدًا عن الحالات المعروضة، مثل بورتا نوفا في ميلانو، لا تزال التجربة الحضرية بالنسبة إلى الكثيرين حول العالم تمثّل معركة من أجل الصحة والتغذية. ويعيش أكثر من مليار (1) شخص في تجمعّات مكتظة وغير آمنة وغير سليمة. كما أن الجوع ونقص التغذية وزيادة الوزن والسمنة تخيم على هذه المناطق الحضرية غير الرسمية.

وكثيرًا ما يتعذر تحمّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية – أي الفواكه والخضار والتوازن الصحيح للمغذّيات مقارنة بالنشا فقط. وزادت جائحة كوفيد-19 الطين بلّة حيث زادت من صعوبة توافر الأغذية والخدمات اللوجستية، إذ أصبح من الواضح أن إحدى طرق الحدّ من الجوع وسوء التغذية واعتلال الصحة البشرية والبيئية تتمثل في تقليص الفجوة بشكل كبير بين مكان زراعة الأغذية ومكان تناولها.

وتهدف مبادرة المدن الخضراء إلى تسجيل 100 مدينة في غضون ثلاث سنوات، و1000 مدينة بحلول عام 2030. وينصب تركيزها في البداية على أفريقيا، من برايا، كابو فيردي، أحد أطراف القارة، إلى نيروبي، كينيا في طرفها الآخر.

وبغض النظر عن الاستثناءات الملحوظة، فإن معظم المناطق الحضرية الأفريقية تضم أقل من 300000 نسمة؛ ولم تصنّف العديد منها على الإطلاق كمدن من الناحية الفنية. ويتيح طابعها الحضري والريفي المختلط فرصة لتعزيز الشركات الزراعية الناشئة داخل المدينة، وذلك من أجل الاستفادة من عنصر الجودة المزدوج لدى المقيمين في هذه المدن بوصفهم منتجين ومستهلكين في آن معًا والقيام، في خضم هذه العملية، بإرساء الأساس لنظم زراعية وغذائية محلية أكثر قدرة على الصمود. ويمكن لهذه الشركات أن تساعد، إضافة إلى تعزيز الأمن الغذائي، على تحقيق الاستقرار في القوى العاملة وخلق فرص عمل جديدة في "سلسلة القيمة".

الهدف: الاستفادة من الإمكانات التي تزخر بها المدن ومستجمعاتها الزراعية من خلال تعزيز الروابط القائمة بين المناطق الريفية والحضرية. وباستخدام النظم الغذائية كمنطلق، يمكن لهذا النهج أن يعزّز فرص العمل المحلية على طول سلسلة القيمة وأن يحدّ من الفقر المدقع.

الأغذية والخطة الحضرية

لقد بدأ الاهتمام الأكبر بالنظم الغذائية، وقدرتها على تحقيق أهداف اجتماعية أوسع نطاقًا، بتحقيق زخم سياسي. وفي جميع أنحاء العالم، تزداد المطالبة بالأغذية بوصفها مجالًا يندرج ضمن اختصاص البلديات.

وفي مدينة روما التي يقع فيها المقر الرئيسي للمنظمة، صوّت مجلس المدينة بالإجماع في أبريل/نيسان 2021 على اعتماد سياسته الغذائية. ورأى المشرّعون في مدينة روما أنه يوجد بالكاد 100 "مُزارع مباشر" في 127 سوقًا للمواد الغذائية في العاصمة. ويدعو المشرّعون، في القرار المعتمد، إلى تأمين وصول أفضل للمزارعين المحليين. ولكن سعيًا إلى تحقيق الاستدامة، يحثّ المشرعون أيضًا على فرض قيود على "استهلاك الأرضي" - وهي الممارسة التي تختفي من خلالها المناظر الطبيعية الثمينة تحت طبقة من المحاصيل.

ويقول السيد Karel Callens، وهو محلّل اقتصادي في المنظمة، "صحيح أن التوسع في مساحة الأراضي المخصصة للزراعة ليس خيارًا؛ ولكن في الوقت نفسه، فإن المشكلة المتعلقة ببعض أنواع الزراعة غير القائمة على التربة، التي نشهد بزوغها الآن، هي أن الأغذية المزروعة بهذه الطريقة تفتقر إلى فوائد المايكروبيوم الطبيعي للنباتات والتربة. ولهذا السبب، تكتسي المساحات الخضراء الموجودة في المدن أهمية أساسية أيضًا بالنسبة إلى الصحة. كما يؤدي التعرض للكائنات الحية الدقيقة الموجودة في الطبيعة دورًا في الحد من الأمراض الالتهابية."

وفي ظلّ اتسام إنتاج الأغذية بالطابع الحضري في خضم الشواغل المتزايدة بشأن الرفاه وتطلّعات الاستدامة، هل يمكن للزراعة، لأول مرة في آلاف السنين من وجودها، أن ترتبط بالمدينة بدلًا من الريف؟ ربما. ولكن لا بد أن يكون للمدن قلب نابض أكثر اخضرارًا.

مجالات التركيز:

تركّز المبادرة على تحسين البيئة الحضرية، وتعزيز الروابط القائمة بين المناطق الحضرية والريفية، وقدرة النظم والخدمات الحضرية وسكان المناطق الحضرية على الصمود أمام الصدمات الخارجية. ومن شأن ضمان الانتفاع ببيئة صحية وأنماط غذائية صحية عن طريق نظم زراعية وغذائية مستدامة، وزيادة توافر المساحات الخضراء من خلال الحراجة في المناطق الحضرية وشبه الحضرية، أن يساهم أيضًا في التخفيف من حدة آثار تغير المناخ والتكيف معه والإدارة المستدامة للموارد الطبيعية. وستتيح "شبكة المدن الخضراء" للمدن من جميع الأحجام، من المدن الضخمة إلى المتوسطة والصغيرة الحجم، تبادل التجارب وأفضل الممارسات والنجاحات والدروس المستفادة، فضلًا عن بناء فرص التعاون في ما بين المدن.

تهيئة بيئة مواتية لدعم عمليات تقييم المخاطر وأوجه الضعف، ووضع سياسات قائمة على الأدلة وشاملة، والتخطيط ووضع أطر للحوكمة من أجل زيادة الاستثمارات وتشجيع الابتكار من أجل استحداث مساحات خضراء قادرة على الصمود ونظم غذائية حضرية مستدامة.

اتخاذ الإجراءات الملائمة لكي تتمكن المدن الكبرى من تعزيز مساهمتها في النمو المستدام وتوليد الثروات على الصعيد الوطني مع التركيز على الابتكار والتكنولوجيات الخضراء للنظم الزراعية والغذائية والبنى التحتية الخضراء، وتحسين نظم توزيع الأغذية والبيئات الغذائية، وتحسين إدارة المهدر من الأغذية والمياه من خلال تحسين التخطيط الحضري والروابط بين المدن الحضرية والريفية.

اتخاذ الإجراءات الملائمة لكي تتمكن المدن المتوسطة الحجم من تعزيز دورها في إقامة الروابط بين المناطق الريفية والحضرية والمرافق والخدمات الأساسية، مع التركيز على تحقيق التوازن بين البيئات الخضراء والصحية والإنتاجية، وإنتاج الأغذية المحلية، والربط بين المنتجين والأسواق المحلية، والمراكز المبتكرة لتجهيز المنتجات الزراعية الغذائية، وفرص العمل الخضراء، وأسواق المزارعين، والاقتصاد الدائري.

اتخاذ الإجراءات الملائمة لكي تتمكن المدن الصغيرة من تعزيز التغذية وتوفير أنماط غذائية صحية بقدر أكبر، وتعزيز التفاعل مع المناطق القريبة لإنتاج الأغذية، مع التركيز على الحوكمة بالنسبة إلى الأقاليم الوظيفية، والابتكار والتكنولوجيات الخضراء لتوفير البنى التحتية والنظم الغذائية الخضراء، وتحسين مراكز تجهيز المنتجات الزراعية والروابط القائمة بين المناطق الحضرية والريفية، وتعزيز فرص العمل خارج المزارع، والحد من الفاقد من الأغذية، وتحسين إدارة المهدر من الأغذية والمياه.

وستعزز منظمة الأغذية والزراعة عملها المتصل بالأنشطة في المناطق الحضرية وشبه الحضرية من خلال توطيد أواصر التعاون مع السلطات المحلية والوطنية، والمجالس البلدية وعُمدة المدن، والقطاع الخاص، والأوساط الأكاديمية والمنظمات الدولية، والانخراط مع المجتمعات الحضرية، وخاصة مع النساء والشباب.

اضف تعليق