الانقطاع بين الأقارب، حين يصبح محل فخر، ليس سوى مرآة لثقافة متدهورة، ثقافة تخالف الفطرة البشرية التي فطرنا الله عليها حب القرب، السعي للصلح، الرحمة المتبادلة، والوفاء. نحن كأفراد، حين نسمح لهذه الثقافة بالانتشار، نفقد أحد أهم مفاتيح التماسك المجتمعي، ونترك الفراغ يزداد في قلوبنا، فراغ لا تسده الأموال ولا النجاح المهني...
في عالمنا اليوم، صار الانقطاع عن الأقارب أكثر من مجرد فعل شخصي؛ أصبح موضع فخر واعتزاز لدى البعض، كأن قطع الروابط العائلية هو مقياس للنضج أو قوة الشخصية. لكن حين نتمعن في هذا السلوك، ندرك أنه ليس سوى انعكاس لثقافة مقلوبة، حيث أصبح الكبرياء والانفصال الاجتماعي علامة على الحرية الزائفة، بينما يتهدم القيم الإنسانية الأساسية: المحبة، الوفاء، التضامن، والرحمة.
الفخر بالبعد عن الأقارب ليس مجرد سلوك اجتماعي عابر، بل هو حالة من الانفصال النفسي الذي يسلب الإنسان حس الانتماء والدفء العاطفي. هناك من يظن أن الانقطاع يحمي الذات من الخلافات، لكن في الحقيقة، هذه الحماية مصطنعة، إذ تُهدر معها الفرص للصفح، وللتقارب، وللبناء المشترك. كل انفصال هو خسارة، ليس للأقارب فحسب، بل للروح الإنسانية نفسها.
حين يفتخر الفرد بعدمه عن أسرته، يتحول الفعل من مجرد حماية إلى استعراض للذات، وكأن الانعزال هو وسام يفتخر به، ويعلن عن الاستقلالية وقوة الشخصية. لكن الانعزال الحقيقي لا يُفتخر به، فهو جرح صامت في الروح، وغياب القيم التي تربطنا بالبشر من حولنا. المجتمع الذي يروج لهذا الفخر يُشيّد بين أفراده جدرانًا وهمية من الكبرياء، ويزرع في النفوس فكرة أن الروابط الإنسانية عبء ثقيل يجب التخلص منه.
الانقطاع بين الأقارب، حين يصبح محل فخر، ليس سوى مرآة لثقافة متدهورة، ثقافة تخالف الفطرة البشرية التي فطرنا الله عليها حب القرب، السعي للصلح، الرحمة المتبادلة، والوفاء. نحن كأفراد، حين نسمح لهذه الثقافة بالانتشار، نفقد أحد أهم مفاتيح التماسك المجتمعي، ونترك الفراغ يزداد في قلوبنا، فراغ لا تسده الأموال ولا النجاح المهني.
لكن، رغم هذا الواقع المؤلم، يبقى السؤال الأهم هل الانقطاع يجب أن يكون نهائيًا أم يمكن أن يكون فرصة لإعادة تقييم الذات، للمصالحة، للتقارب الأخلاقي والروحي؟
التاريخ والمجتمعات العميقة تُظهر لنا أن العلاقات الإنسانية لا يمكن استبدالها بقيم سطحية أو شعارات عن الحرية الفردية. التفاخر بالبعد عن الأقارب قد يمنح شعورًا زائفًا بالقوة، لكنه في الجوهر ضعف أمام الحقيقة الأعمق الإنسان كائن اجتماعي، لا يكتمل إلا بتواصل حقيقي، بالحب والتقدير، بالرحمة والوفاء.
علينا أن نعيد قراءة الانقطاع ليس كأداة للتفاخر، بل كدعوة للتأمل في قيمنا، في أخلاقنا، في الطريقة التي نحمي بها الذات دون أن نهدم معها الروابط التي تشكل أساس المجتمع. الانقطاع الذي يتحول إلى فخر ليس انتصارًا، بل هزيمة للضمير والإنسانية. والفخر الحقيقي ليس بالبعد عن الأقارب، بل بالقدرة على الإصلاح، على الحفاظ على المحبة، على القدرة على الجمع بين الكبرياء والرحمة، بين الاستقلالية والمسؤولية الاجتماعية.
في النهاية، كل من يتفاخر بالبعد عن الأقارب يجب أن يسأل نفسه: هل أنا أحمي ذاتي أم أفرّغ روحي من قيمها، وأترك قلبي أسير الفراغ والبرود؟
الحقيقة صادمة، لكنها ضرورية: الانقطاع الذي نفاخر به ليس حريّة ، والتقارب الحقيقي، مهما كان صعبًا، هو الذي يصنع مجتمعًا متماسكًا، نافعًا.
اضف تعليق