ماهي الفلسفة؟ ما الكيفية التي يجب ان تُدرس بها؟، لماذا يجب الاهتمام بها؟ هذه بعض الاسئلة التي تعالجها "ما بعد الفلسفة "(1)-الدراسة الفلسفية لطبيعة الفلسفة ذاتها. طلاب الفلسفة يصطدمون اليوم بعدد مربك ومزعج من الطرق الفلسفية والاتجاهات والاساليب وكذلك يواجهون انقسامات عميقة كالإنقسام السيء بين الفلسفة الاوربية والفلسفة التحليلية.

هذا الكتاب يأخذ القارئ في نطاق واسع من الاتجاهات – التحليلي مقابل القاري(الاوربي)، العلمي مقابل الانساني، الخالص مقابل التطبيقي، يساعده في تحديد وفهم هذه الطرق المختلفة لدراسة الفلسفة.

اصبحت ما بعد الفلسفة اكثر حضورا من اي وقت مضى. هذا يعود بدرجة كبيرة الى صعود الفلسفة التجريبية: التي ترى ان الطرق الفلسفية التقليدية لم تحقق جميع وعودها، الامر الذي أثار قدراً هائلا من التفكير حول الكيفية التي يجب ان تُدرس فيها الفلسفة. الوافدون الجدد الى هذا الحقل سيجدون في "مدخل لما بعد الفلسفة" مرشدا مفيدا جدا. هذا الكتاب، وهو جزء من سلسلة كامبردج في مدخل للفلسفة، يستطلع الاسئلة الاساسية في ما بعد الفلسفة ويصف الاجوبة الرئيسية التي اعطيت لها. للكتاب ثلاثة مؤلفين لديهم مجالات اهتمام مختلفة. الناس يأتون الى ما بعد الفلسفة من خلفيات متعددة، لذا سيكون هناك القليل من المؤلفين، وايضا القليل من القرّاء من ذوي الاطّلاع التام بالموضوع. جميع اولئك ذكروا ان "مدخل لما بعد الفلسفة" هو افضل كتاب تمهيدي للحقل الذي هم على دراية فيه.

الكتاب جاء في ثمانية فصول، ويعرض وجهات نظر مختصرة ومفيدة حول الاسئلة الميتافلسفية الاكثر اهمية.

الفصل الاول، فصل تمهيدي يسأل لماذا يجب على كل شخص الاهتمام بما بعد الفلسفة. انه يدافع عن هذا الموضوع الفرعي ضد التحامل القائم منذ فترة طويلة – على سبيل المثال، الرؤية بان مهمة الفيلسوف هي حل المشاكل ذات التخصصية العالية، وانه من غير الضروري وغير المفيد السؤال عن المشتركات بين هذه المشاكل او الحلول لها. المؤلفون يوافقون على ان التفكير الما بعد فلسفي قد يكون غير مفيد، خاصة حينما يكون دوغمائيا او مفرط في العمومية. لكن الاستنتاج من هذا هو ليس اننا يجب ان لا ندرس ما بعد الفلسفة، وانما يجب ان نكافح لدراستها بشكل افضل.

الفصل الثاني، جاء تحت عنوان "ما هي الفلسفة؟"، يصف ويقيّم التفسير الكلاسيكي لطبيعة الموضوع، متدرجا من الرؤية بانه "جزء من العلم" الى الرؤية "بانه محادثة بنّاءة" وليس نوعا من اي مشروع ادراكي. تركيز الفصل الثاني كان امرياً: انه يسأل ماذا ينبغي للناس النظر الى الفلسفة، وليس نظرة الناس الفعلية لها. الفصل الثاني يصلح ايضا كمقدمة ثانية للكتاب، لأن العديد من الرؤى التي يطرحها تُستكشف بتفصيل اكثر في الفصول اللاحقة.

الفصل الثالث "الفلسفة، العلوم، والانسانيات"، يفحص مختلف الآراء عن الكيفية التي ارتبطت بها الفلسفة بالعلوم والانسانيات. الشطر الاكبر من الفصل يتعامل مع السؤال حول ما اذا كانت الفلسفة تتقدم بطريقة مشابهة للعلوم الطبيعية. يعتقد المؤلفون ان "الآمال معتمة جدا في رؤية الفلسفة تتقدم مثلما تتقدم العلوم الطبيعية، لكنهم لا يعتبرون هذا انتقاص من الموضوع. اولئك الذي يندبون فقدان التقدم في الفلسفة، هم عادة في قبضة الافتراض المريب بان العلوم الطبيعية هي "الطريقة الوحيدة لقول شيء ما ذو معنى ومهم حول العالم". لكن الفلسفة، حسب رأيهم، متعلقة خصيصا بما يسميه (Sellar) الرمز الواضح manifest image، وان اهمية الرمز الواضح لن تتضائل بصرف النظر عن التقدم في العلوم الطبيعية. وكما في علاقة الفلسفة بالانسانيات، يتحمس المؤلفون للرؤية بان الفلسفة منشغلة بالصيغة الاكثر عمومية للمشروع المتّبع في التاريخ والدراسات الادبية. الفلسفة، مثلما هذه المواضيع، تحاول الاجابة على اسئلة حول معنى ان نكون كائنات انسانية وذلك من خلال الإمساك برؤىً انسانية متميزة حول العالم. لكنهم يعترفون بان تصادم الجانب الانساني للفلسفة مع الطبيعية يصعب إنكاره دون التخلي عن مجمل النظرة الحديثة للعالم. في النهاية، هم يستنتجون، ان الجوانب الانسانية والعلمية للفلسفة تستلزم "تصادما في وجهات النظر، يكمن حلّه في لب الفلسفة المعاصرة".

الفصل الرابع "معطيات الحجج الفلسفية"، هو مبهم الى حد ما. "المعطيات" Data تشير الى الاهتمام بموضوع الفلسفة، لكن ما يناقشه الفصل الرابع في الحقيقة هو المنهجية او الميثدولوجي، بمعنى، السؤال حول كيفية تبرير الفلاسفة لإدّعائاتهم. ان الربط بين الطريقة والبيانات عرضها الفيلسوف البريطاني (Timothy Williamson)، الذي يرى ان اي حقل اكاديمي هو انما يخضع لشيء ما، ويجب "ان يبذل جهدا واعيا ومنظّماً للامتثال لمبادئه.

الفصل الرابع يفحص طريقتين متعارضتين في الامتثال لموضوع الفلسفة – الوصف الفينومينولوجي والتحليل المفاهيمي – ويدافع بايجاز عن كل منهما امام النقد الكلاسيكي. انه يدافع عن اتهام الفينومولوجي كطريقة مبسطة تفتقر للاهمية العامة. لكنه يأخذ على محمل الجد القلق بان مختلف الفينومولوجيين ربما لديهم مختلف التجارب الراديكالية، وانه يستنتج بان الفينومولوجي يكون اعظم نفعا عندما يُستعمل بالارتباط مع طرق اخرى. الفصل الرابع ايضا يدافع عن طريقة التحليل المفاهيمي امام الشك البديهي والذي نال التشجيع من بعض تيارات الفلسفة التجريبية. المؤلفون يقاومون معظم الاستنتاجات الراديكالية للشك البديهي – على سبيل المثال، عدم وجود سبب للاعتقاد بان "البديهة هي مصدر موثوق للدليل على اي شيء". لكنهم يطالبون ممارسي التحليلات البديهية ليدافعوا عن طريقتهم بشكل اكثر وضوحا، عبر اعطاء المزيد من التفاصيل حول رؤيتهم لما يجب ان تكون عليه البداهة وماهي الآليات الاساسية لذلك.

الفصل الخامس "الفلسفة القارية والتحليلية"، يسأل ما اذا كان هناك حقا نوعان للفلسفة مختلفان جوهريا. انه ينظر بالعديد من الاستراتيجيات الشائعة لبلورة هذا الفرق بين الاثنين، كالادّعاء بان هذين النوعين من الفلسفة يحتويان على مختلف المواضيع والمذاهب والاساليب. المؤلفون يشكّون بان تعطي اي من هذه الاشكال طريقة مقنعة للتمييز بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية. غير انهم يعتقدون ان هناك شيء ما للتمييز. وفي أعقاب Hans Johann Glock (الفيلسوف الالماني في جامعة زيورخ)، هم يرون بان لكل نوع من الفلسفة هوية محدودة ترتكز على مسار من التأثير والتشابه العائلي. نحن عادة ننجح في تشخيص أفراد كل معتقد من خلال "مختلف السمات – بعضها مذهبية، بينما الاخرى ميثدولوجية واخرى اسلوبية – حتى عندما يصبح "من غير المجدي محاولة اعطاء شروط ضرورية وكافية" للعضوية في تلك المعتقدات.

الفصل السادس يناقش دور الحقيقة في الفلسفة. هذا الفصل يتوقف كثيرا عند اعمال ريتشارد رورتي، في جداله بان الفلاسفة يقترحون صورا واستعارات بدلا من ادّعاء الحقيقة. المؤلفون يشيرون بذكاء لرورتي، بان الاستعارات ليس فيها محتوى ادراكي من حيث الايمان او عدم الايمان بها. بدلا من ذلك، نحن نقبلها كشيء مناسب او نرفضها كشيء غير مناسب. غير ان بعض تفاصيل الفصل السادس المتعلقة بقراءة رورتي تبدو عرضة للتساؤل. فمن جهة، جرى وصف رورتي باعتباره يمتلك نظرية برجماتية للحقيقة، بموجبها يكون الصدق truth "غير مطابق للحقيقة fact" وانما "هو ما يمكن الاسترشاد به بشكل جيد". لكن رورتي اصر باستمرار بانه لم يقصد استبدال نظرية معينة للصدق باخرى، وانما ليبيّن ان الحقيقة او المصداقية هي شيء ما لا نحتاج منه نظرية. الفصل يطرح موقفا مقنعا بان توصيات رورتي للفلسفة هي ليست ملزمة – بمعنى، حتى لو قبل المرء بكل من تاريخيته ومعارضته للتجسيدية، فلايزال يأمل بتفسير حقيقي لكيفية العالم.

الفصل السابع "ما هي الفلسفة الجيدة؟"، يستكشف موضوع المستويات او المعايير. يبدأ الفصل بمقارنة بين سقراط والسوفسطائيين، وحيث يتضح ان الاول هو فيلسوف حقيقي بينما السوفسطائيين هم ليسوا كذلك. لكنه من الصعب توضيح ما يميز بين الاثنين. في محاولتهم التمييز بين الفلسفة الجيدة والفلسفة الرديئة، يعرض المؤلفون تفسيرا ملفتا للعديد من المستويات التي استُخدمت كثيرا للقيام بهذا، بما فيها التفكير البالغ الدقة، والفضائل مثل الاستقامة. المؤلفون يتفقون بان قائمة المستويات ليست تامة. "الاصالة والعمق"، على سبيل المثال، هما سمتان للفلسفة الجيدة جدا، لكنهم لم يناقشوهما. غير ان الفصل السابع يضع اقتراحات مفيدة حول كيفية البدء بالتفكير بشأن المستويات التي اعتُقد كثير انها تحكم الممارسة الفلسفية.

الفصل الثامن والاخير يناقش قيمة الفلسفة. انه يسأل كيف يمكن للفلسفة ان تنفع اولئك المنخرطين فيها، وربما المجتمع ككل. المؤلفون لا يعتقدون بان الفلسفة تقدم الكثير في مجال تحسين الاخلاق، على الاقل في شكل رسائل اخلاقية واضحة. لكنهم يأملون ان قيام الفلسفة بكشف الافتراضات، وتعريضها للنقد، واثارة اسئلة جديدة للتحقيق، سيرسخ ثقافة النقد والتغيير لأنه لا توجد ممارسة اخرى تستطيع ذلك.

* كتاب مدخل لما بعد الفلسفة للمؤلفين Soren Overgaard, Paul Gilbert and Stephen Burwood صدر عن مطبوعات جامعة كامبردج في عام 2013 في 240 صفحة.

...........................................
الهوامش
(1) metaphilosophy تسمى احيانا (فلسفة الفلسفة)، هي تحقيق في طبيعة الفلسفة. موضوعها يتضمن اهداف الفلسفة، حدود الفلسفة، طرق الفلسفة. البعض اعتبرها خارج موضوع الفلسفة، بينما آخرون ادخلوها اوتوماتيكيا كجزء من الفلسفة، وهناك فريق آخر اعتبرها مركب من جميع هذه المواضيع. الاهتمام بما بعد الفلسفة قاد الى تأسيس مجلة ما بعد الفلسفة Journal of metaphilosophy في شهر كانون الاول عام 1970. Morris Lazerowitz هو اول من وضع مصطلح ما بعد الفلسفة في عام 1940. الاستخدامات المبكرة وُجدت في بعض الترجمات الفرنسية. المصطلح مشتق في الاصل من الكلمة اليونانية (meta) وتعني ما وراء، و philosophia حب الحكمة. اما paul moser فقد استخدم المصطلح بمعنى "الترتيب الثاني" ويشير الى مهمة اكثر جوهرية من الفلسفة ذاتها. البعض يرى ان الفرق بين الفلسفة وما بعد الفلسفة يشبه الفرق بين الرياضيات وما بعد الرياضيات.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق