تشتت جمع البعث مع دخول القوات الأمريكية للعراق، فلا مكان لهم بعد زوال حكمهم المستبد، فالشعب لن يسامحهم على جرائمهم، وحتى كبيرهم ولى هاربا الى الحفر كالجرذ، كانت الأيام الأولى مثل ليلة طويلة ممطرة، ننتظر بعدها الخروج للتعرف ما ينتظرنا من نهار جديد مختلف، بجملة من المتغيرات الكبيرة، فإذا بوضع غريب يحيل الأحلام الى كوابيس، أنها الفوضى من فساد وإرهاب وصراع سياسي، مما تسبب في تعطيل اغلب جهود الأعمار والبناء، وتعطل كسب ثمار التغيير، بل بقينا عند نقطة البداية من دون أي خطوة الى الإمام.

حيث عمدت فلول البعث لإشاعة العنف والتخريب، ودخلت ضمن التنظيمات الإرهابية، وشكلت جيوش خفية بقيادات عسكرية موالية لصدام، لغرض القتل والخطف والتخريب، والاهم إعاقة نجاح التجربة الجديدة، وكان هذا الهدف الأكبر عندهم وعملوا بكل جد على تحقيقه، وقد توسلوا بأربع قواعد عمل كي ينجحوا وهذه القواعد هي:

● قاعدة تحييد سنة العراق عن التجربة الجديدة

عمد الطاغية صدام على تهميش الأغلبية (الشيعة) والسعي لسحقهم، واختص قربه برجال من سنة العراق خاصة، أي رفع الأقلية لتتمتع معه بمكاسب الحكم، فكانت المناصب العسكرية والأمنية وحتى المؤسساتية حكرا لأبناء المحافظات الثلاث (الانبار وصلاح الدين ونينوى)، مما جعل ولائهم لنظام الحكم غير محدود، مع انه نظام طاغوتي ويظلم الأغلبية، لكن كانت المكاسب أهم من المبادئ، فكان احد أسباب نجاح صدام هو الولاء الكبير من رجال هذه المحافظات الثلاث.

فعمدت قيادات البعض للتركيز على هذا الوتر لكسب أهل السنة، باعتبار أن ملكهم اخذ منهم، وان حكم العراق استحقاقهم الأبدي، وان النظام الجديد جاء ليهمشهم، ولا حل أمامهم الا السعي بعودة الأمور كما كانت، وهذا الأمر يتم عبر عدم الاندماج مع الآخرون في الحياة الجديدة، بل عبر شق المجتمع العراقي، فكان الجهد الأكبر على ابعاد سنة العراق من الاندماج مع الآخرين.

ونجحت فلول حزب البعث في تحييد المحافظات الثلاث (نينوى وصلاح الدين والانبار) ذات الأغلبية السنية عن الاندماج مع التغيير، فتشكلت فيها ثقافة رفض التغيير والحنين لأيام صدام، وتقبلت فكرت أن تكون حواضن لتنظيم القاعدة، بخلاف باقي المحافظات التي تحارب تنظيم القاعدة، أي انقلاب جذري ضد ما يريده العراقيون، وبسبب سيادة الجهل وغياب الوعي بسبب طبيعة البداوة الطاغية على هذه المحافظات الثلاث، فإنها صدقت وأمنت بأطروحات البعث والقاعدة، وجعلت منها يقينيات لا تقبل النقاش وإلا صنف خائنا في مناطقهم، من لا يقبل بآرائهم المتطرفة والشريرة.

● قاعدة المعارضة الدموية

بعد عملية تحييد سنة المحافظات الثلاث، نشطت قيادات البعث في تشكيل جيوش إرهابية سرية بعناوين إسلامية، واستقطبت أبناء المحافظات الثلاث، مع تواجد المقاتلون العرب الذين احتضنتهم هذه المحافظات، لتبدأ عمليات التخريب بعنوان معارضة، ضرب أنابيب النفط، مهاجمة السجون، السيارات المفخخة، قتل جنود الجيش العراقي، عمليات خطف وقطع الطرق الخارجية، وصبغت هذه الأعمال الإجرامية تارة بأنها مقاومة وتارة بأنها جهاد، والعجيب أن تتقبل جماهير واسعة من هذه المحافظات الثلاث ما يحصل وتبارك هذه الجرائم.

بخلاف محافظات العراق الخمسة عشر، التي تجرم وتشجب وترفض ما يجري من أجرام، وتصنف من يكون مع تنظيم القاعدة والبعث خائناً.

وهكذا تحققت أهداف فلول البعث في تحييد السنة عن الإجماع العراقي، ومن ضمن خطوة التحييد، هو السلوك الذي اتسمت به الأحزاب والقوى السياسية السنية، التي تعاطفت مع المعارضة الدموية التخريبية، وسكتت عن حواضن الإرهابيين، بل أن بعض ساستهم كانوا قلبا وقالبا مع تنظيم القاعدة وحزب البعث، بتصريحات علنية مخيبة للآمال، وكانت هي المظلة لحمايتهم، هنا يتضح كيف نجح فلول البعث في إدخال أهل السنة وأحزابها في خندق المعارضة الدموية، وكان هذا الخطأ الكبير.

● قاعدة خذ وخرب

عمدت قيادات البعث في المحافظات الثلاث، على دعم الاعتصامات والتظاهرات، في مسعى لإرباك الوضع وتحقيق مكاسب مادية وسياسية مقابل لا شيء، فكل اتفاق يبرم هو تحت أرجلهم، فالتخريب مستمر والعصيان لا ينتهي ودور الإرهاب دائم، والعصابات تنطلق من هذه المحافظات باتجاه المناطق الآمنة، وكانت سنوات محنة خصوصا لأهل بغداد، بسبب إجرام التنظيمات المتطرفة السنية والبعثية، التي جعلت من الجريمة طريق للعودة للحكم، وكاد البلد يقع في حرب طائفية بعد تفجيرات سامراء، لولا المرجعية الدينية الصالحة في النجف الاشرف، التي دفعت الجماهير الناقمة والغاضبة نحو التهدئة.

وكان التوجيه لكل البعثيين في كل العراق، بان أن يكون الهم الأكبر لهم، في الأخذ من الدولة مقابل التخريب، والغريب أن تتاح لهم الفرصة من جديد لأخذ أماكن القرار، بعد تعطيل قانون الاجتثاث بآلاف الاستثناءات، فأصبحت لهم سطوة كبيرة، في الوزارات المهمة، بسبب صعود العشرات منهم لمناصب مدير عام ووكيل ومستشار، فأنهم بنوا الدولة العميقة، حيث تحول القرار بيدهم، تحت أقنعة الأحزاب الجديدة، لكن خلفيتهم البعثية لا تزول، والارتباط موجود، وقد عمدوا الى نشر الفساد حتى ضاعت مليارات الدولارات.

فتمت الخطة الشريرة بنجاح، اخذوا وخربوا وعطلوا مشروع النهوض، فكانوا كالسرطان يأخذون ويخربون، عسى إن تدوم أيام الفوضى أو تعود لهم الأمور من جديد، باعتبار الحكم ارث الأقلية السنية في العراق.

● قاعدة شارك وشاكس

سطوة فلول حزب البعث وارتباطهم بالقاعدة وداعش، جعل منهم قوة خفية لا يستهان بها في المحافظات الثلاث، فأصبحت الأحزاب ومجالس المحافظات تحت رحمة فلول البعث، عبر اذرعها الإرهابية، فكان الجهد الأكبر يتجه لإشاعة الفوضى والتمرد، كي لا يستقر العراق، لان استقرار العراق يعني موت حزب البعث نهائيا، فربط حزب البعث حلم المحافظات الثلاث بالعودة للحكم والسطوة، عبر المشاكسة وإعاقة أي جهد لاستقرار البلد، وجعلوا من الأحزاب ومجالس المحافظات تابع لهم ومنفذ لأجندتهم.

عندها تحولت الساحة السياسية لصراع لا حل له، وفقدنا الأمل بأي تتقدم بالعراق، فقط أموال تنهب، وفساد يتوسع، وتخريب لا ينتهي، وإرهاب يتمدد ويتطور بإشكال جديدة، من القاعدة لداعش وبرعاية بعثية وحواضن سنية.

فكان ما أراده فلول البعث، من إدامة زمن الفوضى، ونجاحهم في المشاكسة المعطلة والمستمرة.

● النتيجة، حصول التعطيل

وبحسب ما قام به فلول البعث من جهد كبير وبدعم إقليمي وأمريكي، فأنهم نجحوا في منع العراق من كسب ثمار التغيير، نتيجة الكوارث التي جلبوها للعراق، وهم الى الان هدفهم إطالة زمن الفوضى، لان ما بعد الفوضى لا يخدمهم.

● لكن الأهم

ما يخص ساسة المحافظات الثلاث، فيجب عليهم أن يفهموا أن الاستمرار في الحنين لسنوات صدام ومن قبله، عندما كان التمكين فقط للأقلية، على حساب حق الآخرين في البلد، هذا الحنين يسبب لهم انعزال اكبر، ولن تعود أيام حكم الأقلية، فما حصل من تغيير كان كبيرا، وعليهم أن يتعايشوا مع الحالة الجديدة، فهو الحل الأمثل لازدهار محافظاتهم، بدل الحرب والعناد ومتابعة البعث واحتضان التنظيمات الإرهابية، الذي جلب الدمار لهم وللعراق، والاهم أن يفتحوا أبواب الحوار مع الآخرين، ونسيان الماضي، والشروع بانطلاقة جديدة، على أساس احترام الأخر.

* كاتب واعلامي عراقي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق