q

في الهجرة الى أي مكان يجب عليك ان تنتزع طريقا من عدة طرق تتشابه أحيانا وتختلف أيضا.

لكن الاعتقاد بالوصول يبقى سيد الهواجس برغم مخاوف أخرى تتوقع ان تترصد خطواتك..

في الهجرة الى ربك طريق واحد يقود اليه، انه ضميرك الفردي الذي تعود اليه حين تشعر بالخراب حولك.. وتستشعر الخطر بالضياع اذا بقيت وحدك. هكذا كان المسلمون في مبدأ دعوتهم. قلة ضئيلة لا يكف سادة مجتمعهم عن اضطهادهم والتنكيل بهم.

لكن تلك القلة على ضآلة عددها واتساع صبرها، احتضنت هذا الضمير الفردي الذي اتحدث عنه.. كانت قلوب أولئك المسلمين الأوائل مطمئنة على لحظة انتصار قادمة تقودها تلك التعاليم الأولى للإسلام (الخام) في بداية تشكله وتكوينه..

صحيح ان الهجرة الى الحبشة فتحت كوة لهذا الانتصار القادم الذي ستنجزه اقدام نبيهم بعد ذلك، الا انها لم تستطع ان تنهي هذا التنكيل المتواصل لحلمهم بالانتصار الذي يلوح في الأفق..

كان يمكن للطريق الى الحبشة ان يكون هو طريق الخلاص، لكنه خلاص مرهون بتطورات لاحقة ليس اقلها ان لا نبي هناك ينتهي اليه الطريق، وان الغيب لازال يكتنف اللحظة لتحقيق الوعد القادم..

الطريق الى المدينة كان معبدا بخطوات نبي (ضال عن قومه) وعن تعاليم سدنة بيت يحج اليه الجميع، القلة الناهضة والجمع المتكور على سباته..

كانت خطوات المهاجرين الأولى تتلمس اثار تلك الاقدام المباركة التي مسحت اثارها الرياح من على الرمال المحرقة، الا انها بقيت منطبعة في الافئدة وبين حدقات العيون الشاخصة الى هناك..

لم تكن (الهناك) قريبة مثلما تعودوا عليها في رحلتي الصيف والشتاء، أصبحت اكثر بعدا ومشقة فالأولى كانت طريقهم لمنافع شخصية تمليها عليهم ضروريات الحياة الا انها الان تمليها عليهم اصوات الله وخطوات نبيه..

لم تكن (الهناك) مجرد انتقالة لغوية من مكان الى اخر، بل هي انتقالة وجدانية بالكامل بين ان تكون ضمن قطيع يحاصرك، او تكون انت ذاتا متفردة ترسم العالم بالوان جديدة..

ولم تكن (الهناك) عبورا مجردا من فاصل زمني بين الان وهنا، وبين الان وهناك، بل هي عبور الى الغد والمستقبل في (الهناك) الموعود بالانتصار الغيبي يتشكل تدريجيا تبعا لتطور الافهام والعقول.

والإسلام (الخام) الذي كانت احدى مفرداته هي الهجرة النبوية المباركة، وكذلك صلح الحديبية، ومواقف أخرى لنبيه واتباعه، سيستمر بعملية هجرة متواصلة الى نفس الخطوات التي قادته الى (الهناك) لكنه سيكون محملا أيضا بمفردات جديدة تكشف عن هذا التطور الحاصل في مجالات الإسلام الخام مقابل اسلام بدأ (تصنيعه) داخل خنادق السياسة بعد رحيل صاحب الخطوات الى رفيقه الأعلى.

لم تكن مواقف الامام علي (عليه السلام) وعدد من أصحابه الا تعبيرا عن تلك الهجرة المستمرة وعن هذا القلق الوجودي على ما أصاب الإسلام الأول، ولم تكن ثورة الحسين (عليه السلام) بعد ذلك الا تعبيرا جديدا شديد الدموية ضد ما انتهت اليه محاولات تصنيع وتخليق ذلك الإسلام البديل.

اضف تعليق