q

أعلن رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو انه سيستقيل من زعامة حزبه ومن رئاسة الحكومة، على مايبدو انها احتجاجاً على ترتيبات الرئيس أردوغان الذي يسارع الخطوات لنقل تركيا من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي بما يجعل اردوغان، الرجل الوحيد في تركيا، ومن هنا نستطيع ان نؤشر ان تركيبة النظام السياسي في تركيا قد تغيرت وستتجه نحو مزيد من السلطوية.

لم يكن حزب العدالة والتنمية عند تأسيسه حزبا متجانسا بل ضم روافد عديدة من بينها التيار الأربكاني (نجم الدين اربكان)، والتيار الصوفي العريض المتمحور حول تركة الزعيم الصوفي سعيد النورسي وخليفته الحالي فتح الله غولن، وبعض اتجاهات التيار القومي التركي المنحدرة من أحزاب اليمين التي أنهكتها موازين الصراع السياسي والانقلابات العسكرية، واشترك ثلاثة شخصيات في تأسيس حزب العدالة والتنمية تجمع بينهم أصول اجتماعية متقاربة، هم: السياسي الشعبوي والخطيب أردوغان، والاقتصادي المعتدل المرن عبد الله غِل، والمهندس السياسي والمخطط أحمد داوود أوغلو.

إن الأفكار الاستراتيجية لداوود أوغلو التي اوردها في كتابه (العمق الاستراتيجي) هي التي صاغت التوجهات الاساسية لتركيا عبر جعل تركيا مركزا للحضارة الاسلامية وفق افكار واسس استراتيجية. فمنذ وصول حزب (العدالة والتنمية) للسلطة من عام ٢٠٠٢ إلى ٢٠١٢ بدأت مرحلة انفراد أردوغان بالسلطة، رؤية أوغلو تتمحور في اندماج تركيا مع اوربا وآسيا والشرق الاوسط تحت عنوان اطلق عليه صفر مشكلات، بحيث تكون تركيا بمقدورها أن تضطلع بحفظ التوازنات الضرورية في هذه المناطق الملتهبة والمتصارعة. ومن هنا يتعين على تركيا وفق هذه الرؤية أن تكون علاقاتها حسنة وقوية بدوائر جوارها، وأن توسع دائرة نفوذها من خلال حركيّة التجارة والاقتصاد والانفتاح السياسي.

بعد احداث الربيع العربي انفرد اوردغان بالحكم بعد ان ركز قبضته الحديدية وحقق مكاسب انتخابية واستطاع ان يتخلص من شركائه الذين ساندوه ودعموه (فتح الله غولن وعبد الله غل) ثم منعه الدستور التركي الذي يسعى الى تعديله من تولي رئاسة الوزراء لمرة رابعة فاضطر الى مناورة سياسية جعلته رئيسا يتقاسم الصلاحيات وفق التعديلات الدستورية عام ٢٠٠٧ على دستور عام ١٩٨٢ الا انه اصبح سلطانا جديدا وفق الواقع وهذا ازعج اوغلو كثيرا، ناهيك عن تقاطعات في كيفية ادارة الملفات الاقليمية والدولية بسبب افتعال مشاكل اقليمية ودولية انهت مبدأ اوغلو صفر مشكلات، ومنذ فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية يونيو 2015 تزايد الحديث عن الانتقال إلى نظام رئاسي كأولوية، إلى جانب أولوية وضع دستور جديد للبلاد أيضاً، إلا أن حصول الحزب على 317 مقعداً برلمانياً لا يعطيه الصلاحية الدستورية لإقرار النظام الرئاسي أو إقرار دستور جديد للبلاد إذ يتطلب الأمر الحصول على أكثر من ثلثي أصوات البرلمان أي 367 صوتاً من أصل 550، أو إلى 333 صوتاً برلمانياً للدعوة إلى استفتاء شعبي للتعديل الدستوري، ولكن من الواضح أن غالبية الأحزاب باستثناء حزب العدالة والتنمية تعارض تحويل النظام إلى نظام رئاسي وتفضل الإبقاء على النظام البرلماني.

وفي الواقع أصبح النظام السياسي التركي نظاماً يتمحور حول شخصية أردوغان بعد أن انتخب رئيساً لتركيا باقتراع شعبي مباشر في أغسطس 2014، الميول السلطوية لاردوغان هي مفتاح التجاذب السياسي في تركيا، الان مجسدا باستقالة اوغلو وخلفيات هذه الاستقالة جاءت بعد تزايد الخلافات بينه وبين الرئيس رجب طيب أردوغان.

أوغلو حرص حتى اللحظة الأخيرة على عدم إظهار أي نقد أو استياء من أردوغان، فقد صرح أمام إدارة الحزب قائلاً: لم أتلفظ أبداً بأية كلمة سلبية تجاه رئيسنا، ولن تخرج من فمي مطلقاً في المستقبل! غير أن محاولة التغطية على الخلافات العميقة بين الرئيس ورئيس الوزراء المستقيل لا يمكن أن تخفي أيضاً حقيقة وجود تجاذب مزمن بينهما ولابد ان تظهر الخلافات الى العلن، وستفرز من وراء هذه الخلافات خلافات اخرى بين تيارين داخل حزبهما على أساس هذا الاستقطاب.

ان الصراع بين الرجلين بدأ منذ شهر أغسطس 2014 عندما تم انتخاب أردوغان في منصب رئيس الجمهورية. وعندها ترك منصبه في رئاسة الحكومة ليشغله أوغلو الأستاذ الأكاديمي، الذي كان يعمل معه مستشاراً للشؤون الدولية، ثم وزيراً للخارجية، ولكن أردوغان الذي يصفه خصومه بـ(السلطان الجديد) يريد أن يكون السيد الوحيد وصاحب الزعامة المطلقة سواء على رأس زعامة الحزب أم الحكومة والجمهورية، ولذلك بدأت الخلافات والاختلافات في الرؤى تجاه السياسات الداخلية والخارجية تزيد بعد الشقة بينه وبين رئيس وزرائه إلى الحد الذي تكشف عن استقالة الأخير يوم الخميس الماضي 5/5/2016 معلناً أنه لن يترشح لرئاسة الحزب والحكومة في مؤتمر حزب العدالة والتنمية الذي سيعقد يوم 22 مايو الجاري.

ومن التقاليد السياسية التركية أن رئيس الوزراء يكون من الحزب ذي الأغلبية في البرلمان. وقد أتاح انتصار العدالة والتنمية في انتخابات 1 نوفمبر 2015 فرصة اختيار أوغلو لرئاسة الوزراء وبقاءه في هذا المنصب لمدة أربع سنوات، ولكن أردوغان كان له رأي آخر. اذ قررت اللجنة التنفيذية لحزب العدالة والتنمية، التي يغلب عليها أنصار أردوغان، في يوم 29 أبريل المنصرم، سحب صلاحيات رئيس الحزب والحكومة أوغلو، الذي كان في زيارة لقطر، في تعيين أطر وقيادات الحزب في الأقاليم وتعيين المجلس التنفيذي للحزب المكون من خمسين عضوا. وهذا يعني تقليصاً لدوره وحضوره في توازنات الحزب الداخلية، وتقليماً لقوة نفوذه في المشهد السياسي التركي العام. وهو ما يبدو أن أوغلو لم يقبله، حيث قرر التقدم باستقالته، ما يعني أن الصراع بين الرجلين على الزعامة قد يكون دخل الآن مرحلة الانطلاق والبداية، وليس بالضرورة مرحلة الحسم والنهاية.

المشكلة تطورت عندما أظهر داود أوغلو كرئيس للوزراء استقلالية نسبية عن أردوغان في إدارة شؤون الدولة لجهة التوافق مع الأحزاب المنافسة أو معارضة حبس الصحفيين أو الحوار مع الأكراد، فقد أصدر أردوغان الحكم بالنهاية السياسية لداود أوغلو. ناهيك عن اختلاف كبير في مواجهة التغييرات والانعطافات الاقليمية والدولية التي تحيط بتركيا والتي يريد ان يتعامل معها اوغلو بدبلوماسية جديدة تختلف عن عقلية اردوغان المحافظة الساعي الى الغاء النظام العلماني واسلمة الدستور والجمهورية التركية بل وحل هذه المشكلات والتداعيات وفق هذه الاسلمة الاخوانية حتى قبل ان تصبح واقعا دستوريا وسياسيا وهذا بيت الخلاف.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق