إذا غابت المواقف الحرة، فاعلم أن النفوس قد سُعّرت، فالسعر، في أحد معانيه، ليس قيمة الشيء فحسب، بل قيمة ما نحن مستعدون للتنازل عنه من أجل الحصول عليه. وهكذا تغدو العلاقة بين السعر والقيمة ليست مسألة اقتصادية بَحْتة، بل سؤالًا وجوديًا: ما الثمن الذي نحن مستعدون لدفعه كي نحيا حياة حقيقية، لا حياة حسابات؟...
(من اقتصاد السوق إلى اقتصاد المعنى : مراجعة فكرية عبر زوربا)
منذ أن دخلتُ في عالم الاقتصاد قبل عقود طويلة، تعلّمت أن السعر هو التعبير النقدي عن قيمة الشيء، وأنه أداة المجتمع لقياس الندرة وتنظيم المبادلات. لكنني مع الزمن، تعلّمتُ أيضًا أن ارتفاع الأسعار ينهش من النقد أجزاء من قيمته، ويترك أصحاب الدخول المحدودة في مواجهة صداع يومي اسمه التضخم، انه ذلك الاختلال الذي لا يطال السوق فحسب، بل يمتد ليصيب استقرار النفوس.
اليوم، وبينما كنت أطالع عرضًا مُلهِمًا لرواية زوربا اليوناني لنيكوس كازانتزاكيس 1946، شعرت أن ثمة مفارقة عميقة تتكشّف أمامي: ففي عالم يحسب كل شيء بسعره، ينهض زوربا ليذكّرنا بأن أثمن ما في الوجود لا يُشترى. فالحرية التي عاشها ليست مجانية، لكنها ليست سعريّة، إنها ثمنٌ وجوديّ ندفعه من يقيننا وطمأنينتنا.
أما الفرح الحقيقي، ذلك الذي يولد من رقصة مفاجئة أو ضحكة صافية، فلا يمكن إخضاعه لأي سوق، لأنه بلا ثمن وبلا بديل.
زوربا لا يُنكر الأسعار، لكنه يرفض أن تتحوّل الحياة إلى جداول حساب. فالقيمة الحقيقية ليست ما ندفعه، بل ما نعيشه. وهنا يظهر التباين الحاد: المثقف يحيا في رأسه، يحسب ويراجع ويحلل، أما زوربا فيحيا في جسده وروحه، يرقص ويغامر ويطلق للفرح فوضاه ونقاءه.
وقد عبّر المفكر حسين العادلي عن هذه الفكرة بعبارة لافتة حين قال: “إذا غابت المواقف الحرة، فاعلم أن النفوس قد سُعّرت، فالسعر، في أحد معانيه، ليس قيمة الشيء فحسب، بل قيمة ما نحن مستعدون للتنازل عنه من أجل الحصول عليه. وهكذا تغدو العلاقة بين السعر والقيمة ليست مسألة اقتصادية بَحْتة، بل سؤالًا وجوديًا: ما الثمن الذي نحن مستعدون لدفعه كي نحيا حياة حقيقية، لا حياة حسابات؟
يأتي جواب زوربا واضحًا: كل شيء له ثمن… إلا الفرح الحقيقي. فهو لا يُشترى، لأنه يُولد من القلب، بلا سوق، وبلا يد خفية، وبلا حسابات.
كان آدم سميث قد تحدّث عن «اليد الخفية» التي تنظّم السوق، حيث تتكفّل قوى العرض والطلب بتحديد الأسعار. غير أن زوربا يذكّرنا بوجود سوق أخرى لا تخضع لهذه اليد انها (سوق الحرية). وفي هذه السوق، الثمن لا يُسدَّد بالنقد، بل بالشجاعة، شجاعة أن نعيش بلا قيود، وأن نغامر بلا ضمانات، وأن نضحك بلا سبب، وأن نُصغي لنداء الفرح حين يأتي بلا موعد. ولا نجد هذه السوق الا في اقتصاد المعنى الذي يتناول ذلك الجزء من الحياة الإنسانية التي لا تخضع لمنطق السوق ولا قوانين السعر، بل تُحدده القيم والرموز والتجارب الوجودية.
إنه اقتصاد ما لا يُشترى وما لا يمكن قياسه بالأرقام.
فالحرية عند زوربا ليست فكرة مجرّدة ولا مقولة فلسفية، بل تجربة وجودية يتخلّق فيها الإنسان من جديد في فضاء لا ينتهي من الخيارات، وعند تعدد الخيارات وتنوعها تولد الحرية.
انه فضاء الحرية الذي اختاره زوربا، إنه البحر الذي يسبح فيه البشر بلا خوف، البحر الذي تُلغى في صيده كل الأسواق إلا سوق واحدة (سوق المعنى) بضاعتها الفرح، وأمواجها الألم الذي يتحوّل إلى رقص، ورحلتها بحثٌ دائم عن الذات قبل أن تكون سعيًا وراء الأشياء. وهكذا، حين يغنّي القلب… يسكت السوق… ويولد الفرح بلا ثمن… انه صراخ الحرية.



اضف تعليق