ربما لن يكون التغيير في النتائج، بل في قواعد اللعبة نفسها: السياسي سيضطر لأن يتعلم كيف يعمل لايف، وكيف يجيب على أسئلة شاب يكتب بتهكم من هاتفه وهو جالس في مقهى. وهذه وحدها ثورة صامتة. إذن، السؤال لم يعد: هل سيصوّت الجيل Z؟ بل هل سيبقى السياسيون قادرين على النجاة بأساليبهم القديمة في عصر لا يرحم الساخرين؟...
عندما نتحدث عن الانتخابات في العراق، غالباً ما نميل إلى الصور النمطية: الناخب الكبير في السن الذي يحتفظ بولائه لحزبٍ أو تيارٍ منذ عقود، أو الشاب الذي يئس من التغيير وقرر أن يقاطع صناديق الاقتراع. لكنَّ ثمة جيلا جديدا بدأ يطل برأسه في المشهد السياسي، جيل وُلد مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية، يعرف اليوم باسم “الجيلZ “ هؤلاء الشباب والشابات الذين كبروا وسط حروب، حصار، انفتاح تكنولوجي غير مسبوق، واحتجاجات شعبية عارمة، قد يكونون الرقم الأصعب في أي معادلة انتخابية مقبلة.
"الجيل" Zفي العراق لا يشبه أجيال آبائهم، فهم لم يتربوا على خطاب الحزب الواحد، ولا على الأيديولوجيا العقائدية الصلبة. إنهم جيل الإنترنت، جيل “الترند”، جيل لا يثق بسهولة بأي سياسي يبتسم أمام الكاميرا ويطلق وعوداً زاهية. أحد الأصدقاء من هذا الجيل وصف الأمر بجملة دقيقة: “نحن أول جيل نستطيع أن نكشف كذب السياسيين بالبحث على غوغل خلال ثوانٍ، فلماذا نصدقهم؟.
هذه النقطة بالذات هي ما يربك الأحزاب التقليدية. فهي معتادة على جمهورٍ طيّع، يمكن التأثير فيه عبر الخطاب الديني أو العشائري أو حتى عبر الخدمات البسيطة. لكن مع الجيل الجديد، اللعبة أكثر تعقيداً: هؤلاء يبحثون عن إنجاز ملموس، عن إصلاح واقعي، عن دولة قانون لا دولة شعارات.
قد يقول قائل إن نسبة المشاركة الانتخابية بين الشباب متدنية، وهذا صحيح نسبياً، لكن علينا أن نفهم السبب: الإحباط، والشعور بأن أصواتهم لا تحدث فرقاً. ومع ذلك، فإن ما أثبتته تجربة تشرين 2019 أن هذا الجيل قادر على قلب الطاولة، ليس فقط عبر صندوق الاقتراع، بل أيضاً من خلال الشارع، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى برلمان شعبي موازٍ.
“الجيل Z “العراقي اليوم لا يقرأ الصحف التقليدية بقدر ما يتابع البث المباشر على إنستغرام، ولا ينتظر خطاباً رسمياً بقدر ما يصنع خطابه الخاص على “تيك توك” أو “تويتر”. وربما يظن البعض أن هذه المنصات مجرد وسائل ترفيه، لكنها في الحقيقة فضاءات سياسية بامتياز، يتشكل فيها الرأي العام وتُختبر فيها مصداقية الأحزاب.
فهل ستتمكن القوى السياسية من استيعاب هذا التحول؟ أم أنها ستظل عالقة في أساليبها القديمة؟.
لنتخيّل المشهد: شاب من “الجيل Z “ يبلغ 20 عاماً، يقف أمام ورقة الاقتراع لأول مرة. هو لا يعرف زعيم الحزب الفلاني الذي يملأ شوارعه باللافتات، لكنه يعرف أن هذا الحزب لم يحل مشكلة الكهرباء منذ 20 سنة. هو لا يهتم للخطابات الطائفية، بل يريد جامعة أفضل، فرصة عمل، إنترنت سريع، ومدينة آمنة يمشي فيها بلا خوف.هذا التحول في أولويات الناخب الشاب يعني أن الصراع القادم لن يكون فقط على أصوات الكبار، بل على كسب ثقة جيل جديد لا يُخدع بالشعارات، جيل يرفع هاتفه قبل أن يرفع يده.
لكن التغيير ليس مضموناً. فكما أن الجيل المذكور يمتلك وعياً نقدياً، فإنه أيضاً يعاني من تشتت، ومن نزعة لليأس السريع. وبدون تنظيم سياسي حديث يترجم مطالبهم إلى برامج واقعية، قد تبقى طاقتهم مجرد غضب رقمي لا يتجاوز حدود الشاشة.
المطلوب إذاً من الأحزاب الناشئة والحركات المدنية أن تفهم لغة هذا الجيل: لغة السرعة، الشفافية، والمحاسبة الفورية. السياسي الذي لا يملك صفحة تواصل فعالة، ولا يرد على الأسئلة بشكل مباشر، سيُعتبر خارج اللعبة. أما السياسي التقليدي الذي لا يزال يظن أن الناخب مجرد “صوت مضمون” بمجرد ولائه الطائفي أو العشائري، فسيفاجأ أن أبناء هذا الجيل ليسوا بالضرورة نسخة عن آبائهم.
قد لا نعرف بالضبط ما الذي سيتغير مع دخول “الجيل» Z إلى صناديق الاقتراع العراقية، وربما لا يتغير شيء فعلياً في الدورة الأولى أو الثانية. لكن المؤكد أن هذا الجيل قد زرع قلقاً جديداً في عقول الساسة: لم يعد يكفيهم أن يوزعوا بطانيات في الشتاء أو يطلقوا وعوداً فضفاضة على المنابر. هناك عيون تراقبهم عبر الشاشات، أصوات تسخر منهم في التعليقات، وميمات تنتشر أسرع من خطاباتهم.
ربما لن يكون التغيير في النتائج، بل في قواعد اللعبة نفسها: السياسي سيضطر لأن يتعلم كيف “يعمل لايف”، وكيف يجاوب على أسئلة شاب يكتب بتهكم من هاتفه وهو جالس في مقهى. وهذه وحدها ثورة صامتة.
إذن، السؤال لم يعد: “هل سيصوّت الجيل Z”؟ بل “هل سيبقى السياسيون قادرين على النجاة بأساليبهم القديمة في عصر لا يرحم الساخرين”؟.
اضف تعليق