الحكم الجديد في دمشق لا يملك ترف الرفض، لكنه أيضًا لا يستطيع التفريط الكامل دون أن يخسر شرعيته في الداخل. وبين الواقعية السياسية ومخاطر التفكك الداخلي، تتحول سوريا إلى ساحة لتجريب كل أنواع التوازنات، تحت سقف هشّ قابل للانهيار في أية لحظة...

لم تعد السياسة في سوريا تُدار بمنطق العقائد الصلبة التي سادت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، حين كانت الأنظمة القومية ترفض علنًا أي تقارب مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وتتمسك بمفردات الصراع العربي – الصهيوني. 

اليوم، وبعد التغيير السياسي الذي أطاح بالنظام السابق، باتت المعادلات أكثر مرونة، لكنها أيضًا أكثر هشاشة، في ظل بيئة داخلية شديدة الاضطراب، ومحيط إقليمي مكتظ بالمشاريع المتنافسة.

أولًا ـ التحول في بوصلة الحكم السوري الجديد: منذ الشهور الأولى التي تلت التغيير، ظهرت مؤشرات على أن الحكم الجديد في دمشق مستعد لـ”إعادة التموضع” إقليميًا، دون الانشغال كثيرًا بالإرث القومي أو الخطابات الأيديولوجية السابقة. اللقاءات التي جرت في أبو ظبي وباكو وباريس، والتي جمعت مسؤولين سوريين رفيعي المستوى بمسؤولين إسرائيليين، تكشف عن نهج واقعي يستهدف تثبيت السلطة الجديدة، حتى لو تطلّب ذلك القفز فوق محرمات السياسة العربية القديمة.

هذا التحول يعكس إدراكًا عميقًا بأن الأنظمة الانتقالية، لا يمكن أن تثبت أركانها من دون نسج علاقات براغماتية مع القوى الدولية المؤثرة في المنطقة، خصوصًا تلك التي تمسك بأدوات الضغط المالي والسياسي والأمني.

ثانيًا ـ المعادلة الأمريكية – الإسرائيلية كقاطرة للتطبيع: الولايات المتحدة وإسرائيل تقودان حاليًا مشروعًا نشطًا لإعادة هندسة المشهد السوري، مستغلتين حاجة الحكم الجديد إلى الاعتراف الدولي والدعم المالي. هذا المشروع يقوم على عدة مرتكزات، منها: إخراج إيران نهائيًا من المعادلة السورية؛ إعادة هيكلة جنوب سوريا وتحويله إلى منطقة منزوعة السلاح تحت رقابة إسرائيلية؛ فرض تعاون استخباراتي سوري-إسرائيلي طويل الأمد؛ منع أي قوى داخلية أو حزبية ترفض التطبيع أو تحمل توجهات معادية لإسرائيل.

وتعبير المبعوث الأمريكي إلى سوريا ولبنان بأن “أهدافنا وأهداف الرئيس الشرع واحدة” لم يكن تصريحًا دبلوماسيًا عابرًا، بل إعلان واضح عن تماهٍ استراتيجي في لحظة دقيقة من التحولات.

ثالثًا ـ المشاريع العربية والتركية في سوريا ما بعد الأسد: المشروع العربي: المحور السعودي – القطري – الإماراتي يسعى إلى تثبيت أركان الحكم الجديد، خشية الانفلات أو عودة نفوذ الخصوم الإقليميين. هذا الدعم يندرج ضمن محاولة لإعادة سوريا إلى المدار العربي دون أن يُعاد إنتاج سياسات العقود السابقة. حتى أن بعض العواصم الخليجية تبدو مستعدة للتعامل مع تحولات فكرية لدى مكونات الحكم، رغم جذورها الجهادية، ما دامت هذه التحولات تسير باتجاه التهدئة والتسويات.

المشروع التركي: تركيا من جانبها ترى في التغيير السوري تتويجًا لاستراتيجية طويلة بدأت مع دعمها للفصائل المسلحة. لحظة سقوط الأسد مثّلت لحظة انتصار لمشروع التمكين التركي في شمال ووسط سوريا. ومع تصاعد الدور التركي، بدأت إسرائيل تعبّر عن قلقها من احتمال بروز قوى جديدة تحل محل الإيرانيين، لكنها لا تقل خطورة من حيث الأيديولوجيا أو التمركز العسكري، وهو ما دفعها إلى تنفيذ ضربات جوية في مواقع يُشتبه بوجود نفوذ تركي فيها، كما حدث في مطار التيفور.

رابعًا ـ عُقدة الفسيفساء السورية وتوازنات الداخل: الفسيفساء السورية بطوائفها وقومياتها تمثل ساحة مفتوحة لاختراقات الخارج، حيث يتم استخدام الأكراد والدروز والعلويين كأدوات في صراع المشاريع. تركيا ترفض أي فيدرالية قد تمنح الأكراد خصوصيات سياسية أو اقتصادية، فيما تسعى إسرائيل إلى منع بروز نفوذ تركي دائم في العمق السوري، خوفًا من أن ينتج حالة جديدة غير متماهية مع مشروعها الأمني.

الروس من جهتهم، تعاملوا ببراغماتية مع التغيير، وبدأوا بالعودة تدريجيًا إلى دمشق الجديدة، مع حرصهم على إعادة صياغة العلاقة بما يحفظ مصالحهم في طرطوس وحميم، ويمنحهم دورًا في صياغة المرحلة القادمة دون خسارة كاملة للحضور.

خامسًا ـ صراع التيارات داخل السلطة الجديدة: السلطة الجديدة تتشكل من مزيج غير متجانس من التيارات الإسلامية، التي كانت إلى وقت قريب تقاتل في خنادق العقيدة. واليوم تجد نفسها مطالبة بالحكم وفق منطق الدولة لا الجماعة. هذا التباين بدأ يُنتج صراعًا داخليًا بين تيار “واقعي” يقوده الرئيس الشرع ووزير خارجيته الشيباني، وتيار آخر أكثر تشددًا يرى في التسويات تنازلًا عن “نواقض الإيمان” ومبادئ القتال التي قام عليها العمل المسلح.

هذه المعضلة البنيوية تُهدد وحدة الحكم من الداخل، خصوصًا في حال تزايد الفتاوى التكفيرية والخطابات المعترضة على مسار التهدئة. وهو ما تخشاه العواصم الداعمة، التي تدرك أن أي اضطراب قد يفتح الباب لصعود قوى أكثر تشددًا وأقل قدرة على التفاهم مع الخارج.

خاتمة ـ سوريا كمساحة اختبار دولي: تتحرك مختلف المشاريع الدولية في سوريا وكأنها في “مختبر مفتوح”، حيث يجري اختبار موازين القوة، ومستوى قدرة الأنظمة الانتقالية على الاستجابة للضغوط وتكييف خطابها وأدواتها.

الحكم الجديد في دمشق لا يملك ترف الرفض، لكنه أيضًا لا يستطيع التفريط الكامل دون أن يخسر شرعيته في الداخل. وبين الواقعية السياسية ومخاطر التفكك الداخلي، تتحول سوريا إلى ساحة لتجريب كل أنواع التوازنات، تحت سقف هشّ قابل للانهيار في أية لحظة.

اضف تعليق