إن تدخل السياسة في مسار العدالة، ولا سيما في تشديد العقوبة، يُعد من أخطر ما يمكن أن تواجهه الأنظمة القضائية، لأنه لا يهدد الأفراد فقط، بل يقوض أسس العدالة والمجتمع القانوني ككل، إن حماية القضاء من التسييس ليست مسؤولية القضاة فقط، بل هي التزام على الدولة، والمجتمع المدني، والمؤسسات الحقوقية الدولية...

تُعتبر العدالة الجنائية ركيزة أساسية في أي نظام قانوني يزعم احترامه لسيادة القانون وحقوق الإنسان، ويُفترض أن تكون العقوبة الجنائية ناتجة عن محاكمة نزيهة ومحايدة، تستند إلى معايير قانونية واضحة، دون أي تدخل خارجي، وخاصة التدخل السياسي، إلا أن الواقع في عدد من الأنظمة القضائية يظهر حالات يُلاحظ فيها تشديد العقوبات بتأثير من اعتبارات سياسية، مما يُثير تساؤلات حول مدى استقلال القضاء، ومدى شرعية الأحكام الصادرة في مثل هذه السياقات، يناقش هذا المقال أبعاد هذه الظاهرة، وآثارها القانونية والحقوقية، ويُحللها في ضوء المبادئ الدولية والمعايير الدستورية.

تشير هذه الظاهرة إلى حالات يُلاحظ فيها أن العقوبات الجنائية تكون أشد قسوة مما تقتضيه الوقائع والأدلة، وذلك نتيجة لتدخلات غير رسمية أو مباشرة من أطراف سياسية، سواء من خلال التأثير على القضاة، أو توجيه الإعلام الرسمي، أو تسخير الرأي العام، أو من خلال الضغط على أجهزة التحقيق.

في القانون، قد يُبرر تشديد العقوبة بعوامل موضوعية مثل العود، أو خطورة الفعل، أو نتائجه، أو ظروف ارتكابه، لكن يصبح التشديد غير مشروع عندما يُفرض لغايات لا علاقة لها بالقانون، بل استجابة لمواقف سياسية أو توجهات أمنية تهدف إلى "تأديب" المتهم أو تقديمه عبرة.

تنص العديد من الدساتير والمواثيق الدولية على ضرورة استقلال السلطة القضائية، فالمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تنص على أن: "كل شخص يُتهم بجريمة له الحق في أن تُفصل قضيته أمام محكمة مستقلة ومحايدة"، بالإضافة إلى مبدأ التناسب في العقوبة وهو أحد ركائز العدالة الجنائية، ويقتضي أن تتناسب العقوبة مع خطورة الجريمة والظروف الشخصية للمتهم، لا أن تتجاوزها استجابة لضغوط سياسية، وصور التدخل السياسي في تشديد العقوبة تكون من خلال الضغط على القضاء من قبل السلطة التنفيذية أو الأجهزة الأمنية، أو عبر توجيه الرأي العام ضد المتهم من خلال الإعلام الرسمي، بما يؤثر على موقف المحكمة، أو استبعاد القضاة المستقلين أو تعيين قضاة مقربين من السلطة في قضايا معينة، وقد يكون بفرض سياسات عقابية معينة في قضايا سياسية أو ذات بعد أمني.

التداعيات القانونية والحقوقية جمة على هذا السياق ومن جملتها تقويض مبدأ سيادة القانون عندما يُستخدم القضاء كأداة لتحقيق أهداف سياسية، يفقد المجتمع ثقته بالمؤسسات القانونية، وانتهاك حقوق الإنسان في تشديد العقوبات بشكل غير موضوعي يُعد انتهاكًا للحق في المحاكمة العادلة، ومن تداعياته تسييس العدالة الجنائية الذي يفتح الباب أمام ممارسات انتقامية ويُحوّل القانون إلى أداة قمع، كذلك من شأنه التمييز في تطبيق العدالة حيث يُشدد العقاب على متهمين لأسباب سياسية، بينما يُخفف عن آخرين لأسباب مشابهة.

المعايير الدولية في مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء (1985) تنص على أن: "للقضاء الحق في اتخاذ القرارات دون أي تدخل أو تأثير"، ولجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب أكدت في عدة مناسبات على أن المحاكمات التي تشهد تدخلًا سياسيًا تُعد انتهاكًا للمعايير الدولية، أما توصيات المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين فقد شددت على ضرورة حماية القضاة من أي ضغط سياسي أو اجتماعي.

أما سبل الحماية والمعالجة تكون في تعزيز استقلال القضاء تشريعيًا ومؤسسيًا من خلال قوانين تحظر صراحةً التدخل في القضاء، وتضمن تعيين القضاة وفق معايير مهنية بحتة، وفي فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية لضمان استقلال قرارات التحقيق والاتهام والطعن، وتعزيز الشفافية بإتاحة الرقابة المدنية والإعلامية المستقلة على المحاكمات، وأخيرًا في الرقابة الدولية حيث تمكين الجهات الدولية من مراقبة المحاكمات في الدول التي تُثار فيها شبهات التسييس.

ختامًا- إن تدخل السياسة في مسار العدالة، ولا سيما في تشديد العقوبة، يُعد من أخطر ما يمكن أن تواجهه الأنظمة القضائية، لأنه لا يهدد الأفراد فقط، بل يقوض أسس العدالة والمجتمع القانوني ككل، إن حماية القضاء من التسييس ليست مسؤولية القضاة فقط، بل هي التزام على الدولة، والمجتمع المدني، والمؤسسات الحقوقية الدولية، فبدون قضاء مستقل، لن تكون هناك عدالة، وبدون عدالة، لا يمكن أن تُبنى دولة قانون. 

اضف تعليق