الفرقُ بينَ الأُممِ والمُجتمعاتِ يتمظهرُ بالإِلتزامِ والتَّطبيقِ والإِحترامِ، فبينما تحرَص الأُمم المُتحضِّرة على الإِلتزامِ بالنِّظامِ والدِّفاعِ عنهُ والتَّواصي والتَّعاون على تطبيقِ القانونِ، ترى الأُمم والمُجتمعات المُتخلِّفة تتسابق فيما بينِها لكسرِ النِّظامِ والتَّجاوزِ على القانون وتكريسِ حالةِ الفوضى في كُلِّ مكانٍ وفي كُلِّ شيءٍ. وهذا الأَمرُ لا علاقةَ لهُ بالإِلتزامِ...
والنِّظامُ، وهو ضدَّ الفوضى، جَوهر كُلَّ التَّشريعات السماويَّةِ منها والأَرضيَّة، فالقرآنُ الكريم عندنا مَثلاً هوَ (ونَظْمَ مَا بَيْنِكُمْ) كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع).
والنِّظامُ هوَ القانون والقانونُ هوَ الحقُوق التي هيَ (فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّه سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ) كما يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع).
وفي مدرسةِ أَهلِ البيتِ (ع) فإِنَّ الإِمامةَ [الوِلاية] هي أَصلُ كُلَّ ذلكَ وهيَ بمثابةِ العمودِ الفقري وحجرِ الزَّاوية في النِّظامِ والقانونِ كما يصفُها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ (الإِمامةُ نِظامُ الأُمَّةِ) وكذلكَ في قولِ الإِمامِ عليِّ بن موسى الرِّضا (ع) (إِنَّ الإِمامةَ زِمامُ الدِّينِ ونِظامُ المُسلمينَ وصلاحُ الدُّنيا وعِزُّ المُؤمنينَ) فعندما يحكُم النِّظام المُجتمع ويكونُ القانون فوقَ الجميع بلا أَيِّ شكلٍ من أَشكالِ التَّمييزِ، عندها لا يشعُر مُواطنٌ بالغُبنِ ولا يتعرَّض أَحدٌ لظُلمٍ ولا يُسحقَ حقٌّ فيعيشُ النَّاسَ بعزٍّ.
وفي قولٍ عظيمٍ لأَميرِ المُؤمنينَ (ع) يشرح معنى وضَرورة النِّظام في المُجتمعِ بقولهِ (مكانُ القيِّمِ بالأَمرِ مكانُ النِّظامِ من الخَرزِ يجمعُهُ ويضمُّهُ، فإِن انقطعَ النِّظامُ تفرَّقَ وذَهبَ ثُمَّ لمْ يَجتمِع بحَذافِيرهِ أَبداً).
ولذلكَ ذكرَ (ع) النِّظامَ وضرُورتهِ وأَوصى بهِ فساواهُ بتقوى الله تعالى ومَخافتهِ في آخرِ وصيَّةٍ لهُ لولدَيهِ السِّبطَينِ الحسنَينِ (ع) لمَّا ضربهُ عدُوَّ الله المُجرم إِبنَ مُلجِم لعنهُ اللهُ في محرابِ صلاةِ الفجرِ بقولهِ (ع) (أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللَّه ونَظْمِ أَمْرِكُمْ وصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (ص) يَقُولُ (صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ)).
وإِنَّما الفرقُ بينَ الأُممِ والمُجتمعاتِ يتمظهرُ بالإِلتزامِ والتَّطبيقِ والإِحترامِ، فبينما تحرَص الأُمم المُتحضِّرة على الإِلتزامِ بالنِّظامِ والدِّفاعِ عنهُ والتَّواصي والتَّعاون على تطبيقِ القانونِ، ترى الأُمم والمُجتمعات المُتخلِّفة تتسابق فيما بينِها لكسرِ النِّظامِ والتَّجاوزِ على القانون وتكريسِ حالةِ الفوضى في كُلِّ مكانٍ وفي كُلِّ شيءٍ.
وهذا الأَمرُ لا علاقةَ لهُ بالإِلتزامِ الدِّيني من عدمهِ، وما إِذا كانت الدَّولة [دينيَّةٌ] أَم [علمانيَّة] لا تُؤمن بدينٍ معيَّنٍ للدَّولةِ، لانَّ النِّظامَ والقانون حاجةٌ وضَرورةٌ إِنسانيَّةٌ من المُستحيلِ الإِستغناءِ عنها فالبديلُ هي الفَوضى.
لذلكَ نُلحظُ أَنَّ نبيَّ الله يوسُف (ع) عندما أَرادَ أَن يكيدَ لإِخوتهِ للإِبقاءِ على شقيقهِ عندَهُ لم يشأ اَن يُحقِّقَ ذلكَ بالفوضى أَو خارج سُلطة القانون، وإِنَّما وضعَ خُطَّتهُ المُحكمةِ وفعلَ كُلَّ ذلكَ في إِطارِ [دينِ الملكِ] أَي قانون الدَّولة التي كان يحكمَها الملك [الفرعُون] ومن دُونِ أَن يتجاوزَ الأَخلاق أَو يتجاهلَ المبادئ والقِيَم! إِذ ليسَ من أَخلاقِ الأَنبياءِ والأَوصياءِ التَّجاوزِ على النِّظامِ والقانونِ بذريعةِ [الشرعيَّةِ الذاتيَّةِ] التي يمتلكونَها من السَّماءِ بسببِ الوحي أَو بذريعةِ أَنَّ الدَّولة غَير [مُتديِّنة].
يقولُ تعالى (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
ذات المبدأ والقِيمة الرساليَّة العُليا أَشارَ إِليها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ عندما تكالبَت عليهِ الأُمَّةُ لمُبايعتهِ خليفةً لها (دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ، واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوه أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!).
وعندما هدَّدَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فاسداً سرقَ بيت المال أَكَّد مفهُوم [القانون فوقَ الجَميع] حتَّى لا يمُرَّ بخاطرِ أَحدٍ من ضِعافِ النُّفوسِ بأَنَّ التَّهديدَ سببهُ محسوبيَّةً مثلاً أَو منسوبيَّةً أَو لانتقامٍ أَو ما إِلى ذلكَ.
يقولُ (ع) (ووَاللَّه لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ ولَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا).
تأسيساً على ذلك، فعندما ترى الفَوضى ضاربةٌ في طولِ مُجتمعٍ ما وعَرضهِ، فتيقَّن بأَنَّهُ أَبعد ما يكونُ عن جوهرِ الإِمامةِ ومعناها الحقيقي، حتَّى إِذا رفع شِعارات الإِمامة وتغنَّى بالغديرِ وافتخرَ بلافتاتهِ، فالإِمامةُ ليست شِعارات فارغة أَو لافتات ملوَّنة من دونِ جَوهرٍ أَو معنى، أَبداً.
إِذا رأَيتَ الفوضى في الفتاوى وفي منبرِ الصَّلاةِ وفي الدَّولة وفي السِّياسة والإِعلام والتَّعليم والسُّوق وفي التِّجارةِ والمُرورِ وفي الأُسرةِ والمحلَّةِ والعشيرةِ وفي كُلِّ شيءٍ فاعلم أَنَّهُ مُجتمعٌ لا علاقة لهُ بالإِمامةِ!.
كذلكَ إِذا رأَيتَ القويُّ يفلت من القانُون والمُتنفِّذ يتحايل على النِّظام فيما يصطاد القانُون الضَّعيف غير المدعُوم فاعلم أَنَّ هذا المُجتمع لم يفهم شيئاً من الإِمامةِ وروحِها وجوهرِها.
فالولائي الحقيقي ليسَ فوضويّاً بل على العكسِ فهو يُحبُّ النِّظام ويدعو إِلى احترامِ القانون ويتمسَّك بشرفهِ الوطني ولا يبيعهُ لأَحدٍ أَبداً.
أَمَّا إِذا رأَيتَ مُجتمعاً يحترِم النِّظام ويُقدِّس القانون فتأَكَّد بأَنَّهُ مجتمعٌ [ولائيٌّ] حتَّى إِذا لم يفهم من الإِمامةِ شيءٌ، لأَنَّ تقديس النِّظام والقانون هو تقديسٌ لروحِ الإِمامةِ وجوهرِها الحقيقي، وهوَ المطلُوب!.
اضف تعليق