الخطيئة الحضارية والمعرفية الكبرى، التي تمارسها الحضارة الحديثة اليوم، هي أنها جاءت بمفاهيم ومصطلحات تعكس المنظومة المعرفية والعقدية الأوروبية وناتجة ومنبثقة من طبيعة العقل الأوروبي. والعمل على تعميم هذه المفاهيم والمصطلحات بحيث جعلها تشمل البشرية جمعاء بصرف النظر عن الاختلاف المعرفي والعقدي والحضاري بين الشعوب والأمم...

يشكل المفهوم والمصطلح جزءاً أساسياً في البناء النظري والمنهجي لأية نظرية أو عقيدة.. لأنه يختزن المضامين والمقولات الأساسية، التي تنادي بها أية نظرية أو عقيدة أو ثقافة.. ومن هنا نرى أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل اللغوي بين الناس، بل تتعدى ذلك، وتصبح جوهراً أساسياً في عملية التلاقح الحضاري بين الأمم والشعوب.. بحيث أنه لا يمكن أن تتم عملية تفاعل بين أمة وأخرى، شعب وآخر، بدون اللغة.. لذا فإن المفاهيم والمصطلحات وليدة البيئة المعرفية، وباختلاف البيئات المعرفية، تختلف المصطلحات ودلالاتها الذاتية والاجتماعية ولهذا نجد أن للمصطلحات والمفاهيم دلالات مختلفة، باختلاف البيئات الحضارية والتاريخية.

فمصطلح العلم أو مفهومه مختلف لدى الأمم، باختلاف حضارتهم. فأرسطو أكد أن العلم يتعلق بالضروري والخالد، وفي العصور الوسطى اعتبرت الحقيقة القصوى في النظام الديني.. وهكذا فإن فكرة العلم كما يقول (ج - جوسدف) متغيرة تاريخية. وأنه في الوقت الحالي، يمكن أن نميز بين عدة تصورات للعلم.

وعلى ما يبدو هناك علاقة سببية (جدلية) بين المصطلح والواقع الذي ينبثق منه.. بحيث أن المصطلح (أي مصطلح) في الإطار الإنساني، لا يمكن أن يفهم بعيداً عن ظرف وقوعه.. لهذا ليس من الصحيح، تجريد المصطلح من واقعه وظرفه وإعطائه طابعاً معيارياً، خارج إطاره الزماني والمكاني، حتى يصبح هذا المصطلح ودلالاته ضمن السياق المعرفي العام، الذي يحكم حركة الأفراد والمجتمع.

وثمة مسألة ضرورية في هذا الإطار، من المناسب أن تذكر، وهي أن إخراج المصطلح أو المفهوم من إطاره الزمكاني، يدخلها كبنية ودلالات في عالم التشويه، والفهم المغلوط، والتطبيق السيئ.. وهذا بطبيعة الحال، يقود حتماً إلى إعلاء بعض هوامش تاريخنا، واعتبارها أساسيات وإقصاء الأساسيات واعتبارها هامشية في الحركة التاريخية، كل ذلك يتم وفق ما ينسجم ومنطقه التاريخي، ونسقه الحضاري، بصرف النظر عن مدى انسجام هذه العملية مع الحقيقة والواقع.

 لذلك فإن الخطيئة الحضارية والمعرفية الكبرى، التي تمارسها الحضارة الحديثة اليوم، هي أنها جاءت بمفاهيم ومصطلحات تعكس المنظومة المعرفية والعقدية الأوروبية وناتجة ومنبثقة من طبيعة العقل الأوروبي. والعمل على تعميم هذه المفاهيم والمصطلحات بحيث جعلها تشمل البشرية جمعاء بصرف النظر عن الاختلاف المعرفي والعقدي والحضاري بين الشعوب والأمم.

ومن الخطأ الاعتقاد، أن المصطلحات لا تختلف في دلالاتها من بيئة معرفية إلى أخرى.. لأن المصطلحات جزء من منظومة مفاهيمية متكاملة.. وانتزاع مصطلح أو مفهوم من هذه المنظومة، لا يخلصه من المضمون المعرفي لتلك المنظومة.

لهذا نجد أن عمليات الترجمة إلى اللغة العربية، لم تتعد ترجمة المعنى الظاهري للكلمة أو المفهوم، وأبقى المترجمون على المضمون المعرفي الأوروبي.. فتم نقل هذه المصطلحات والمفاهيم إلى لغة الضاد، وسحب المحتوي الثقافي والمعرفي الأوروبي إلى العالم غير الأوروبي.

فأصبح المصطلح أو المفهوم غريباً في فضاء معرفي مغاير، للفضاء المعرفي الذي ولد فيه هذا المصطلح أو المفهوم.. فالمصطلحات والمفاهيم لا يمكن أن تسقط إسقاطاً على الفضاءات المعرفية، بل تتوالد وتتجدد بشكل ذاتي في داخل الفضاء المعرفي.

لهذا نجد مثلاً أن مفهومي (التنمية والتخلف) مرتبطان ارتباطا جوهرياً بالفضاء المعرفي الذي نشأ فيها.. فالتخلف يعني التأخر الزمني والحضاري عن الأمم الأوروبية.. والتنمية تعني وجود المظاهر الاقتصادية والاستهلاكية في المجتمع على شاكلة الدول الأوروبية.. وبهذا يصبح الناظم لدلالات المفاهيم هو الفضاء المعرفي والعقدي الذي نشأت فيه.. لهذا نجد أقطاب الفكر التنموي الغربي، يرون أن التحديث من الناحية التاريخية، هو عملية التحول نحو تلك الأنماط من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تطورت في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر.. ويرى (بارسونز وليرنرو باول) "أن التحديث عملية ثقافية تشمل تبني قيم ومواقف ملائمة للطموح العملي، والتجديد العقلاني وتجاه الإنجاز، بدلا من القيم السائدة في المجتمع التقليدي". (راجع مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 39).

وهذا يعين أن النموذج الغربي، أصبح معيارا تقاس عليه بقية النماذج والشعوب.. والسبب في ذلك، تلك الاستعارة المصطلحية والمفهومية، وتطبيقها على واقع ومنظومة معرفية واجتماعية مغايرة للمنظومة التي ولدت فيها تلك المفاهيم والمصطلحات المستعارة.

وبفعل هذه الفوضى المفهومية والاصطلاحية، تصبح عملية التحديث والتقدم عبارة عن تقليد الغرب من دون بناء القوة الإبداعية، وتضخيم نوع من النشاط الاقتصادي الطفيلي دون تنمية القوى الإنتاجية تنمية إستراتيجية على حد تعبير الدكتور أنور عبد الملك.

فإن هذه الاستعارة المفهومية، وانتزاعها من فضائها العقدي، جعل العالم العربي والإسلامي، يرى في الحداثة مجموعة شكليات أوجدها النمط التحديثي الأوروبي.. وتم إغفال الحداثة كبنية ثقافية وموضوعية، مرتبطة بظروف تاريخية شهدتها أوروبا، وبالتالي فإن عزل هذه البنية عن بيئتها وتربتها لا يتأتى إلا بوجود وسيط أيدلوجي يقوم بإقصاء الفضاء المعرفي الذاتي وإحلال النمط المعرفي المغاير محله.. وفي الأخير يتم اعتبار الخبرة والتجربة الأوروبية، هما المعيار الأساسي للفشل والنجاح. وأن القيم التي صنعت هذه الخبرة والتجربة، هي القيم والمعيارية، التي ينبغي لجميع الأمم والشعوب، أن تتمسك بها وتسعى نحو تطبيقها في واقعها الخارجي.

ويقول الفيلسوف المغربي (محمد عزيز الحبابي) في نقد هذه الحالة: "إن محاكاة الغرب سوف تفضي إلى استلاب، ومحاكاته وحده تضاعف هذا الاستلاب على أن هناك مستوى ثالثاً للاستلاب وهو الأفظع، فنحن نقلد غرباً متحركا أبداً وبحركاته تنمو باطراد المسافة التي تفصلنا عنه دون أن نحافظ على أرضية ومعالم.. إنه التيه في متاهة.. فنحن لسنا مستلبين من قبل التراث العربي الإسلامي.. بل من قبل صورة وهمية عن الغرب.. تهمشنا أكثر فأكثر فنزداد انفصالاً عن مكوناتنا الأصلية".

وانطلاقاً من اعتبار التجربة الأوروبية، النموذج والتجربة المعيارية لعملية التقدم والتطور والنمط التاريخي الذي يجب على كل الأمم والشعوب أن تسير وفق هداه وخطوطه الكلية والتفصيلية.

وتأسيساً على هذا الاعتبار المنهجي والمعياري، تبدأ النخب الثقافية والسياسية العمل للقضاء على ما تبقى من النسق الثقافي والحضاري السابق (التقليدي)، لأنه يشكل في المنظور الأوروبي العقبة الكأداء التي تقف دون انتشار النموذج الأوروبي، ولهذا ينصب التغيير على "القيم والميول الفكرية والتصورات الدينية وأساليب التربية والتعليم، وأساليب التعبير عن الفنون وهيكل العلاقات الاجتماعية ودرجة تقسيم العمل والبناء المهني في المجتمع، والأهمية النسبية لكل نظام في القطاعات الاقتصادية" (راجع علم الاجتماع وقضايا التنمية، الدكتور محمد الجوهري، ص 95).

وبهذا يطرح النمط الأوروبي للبناء الاجتماعي والثقافي والحضاري، ضرورة إفناء كل القيم والهياكل والموروثات الثقافية والاقتصادية وفق المقاس الأوروبي.. وغالباً الدول والبلدان، التي تسعى جاهدة للقضاء على النسق الحضاري الموسوم بـ (التقليدي) لعوامل عديدة، لا تتمكن من دخول عالم الحضارة الحديثة.. ونظرة تاريخية حول مشروع النهضة العربية، الذي بدأ مع بداية القرن الماضي، نكتشف صدق هذه الحقيقة، وأن طريق التطور والحضارة، لا يمر عبر أنقاض الماضي والأنساق الفكرية والحضارية العربية والإسلامية.

والجدير بالذكر في هذا الصدد أيضاً: أن تجربة الإصلاح والتغيير التي حدثت في أوروبا انطلقت بإصلاح الثقافة الأوروبية من داخلها، وبنفس المنطلقات والمسلمات الفلسفية والعقدية، بالرجوع إلى أصولها النقية التي يؤمن بها المجتمع الأوروبي.. وهذا ما قام به (توما الأكويني). أما ما يقدم اليوم للعالم العربي والإسلامي فهو دعوة صريحة لاستبدال ثقافة المجتمع الأصلية بثقافة أخرى مغايرة وتتعارض بشكل أو بآخر مع الثقافة الأصلية لشعوب العالم العربي والإسلامي.

ولارتباط المفاهيم والمصطلحات، ببيئتنا العقدية والحضارية والتاريخية، نجد أن القرآن الكريم ينهى أولئك النفر الذين يستخدمون مصطلحاً له دلالات تنتمي إلى بيئة حضارية وعقدية مغايرة.. (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم).

فالمصطلح في الأبنية الثقافية لا يركب تركيباً أو يأتي من الخارج، وإنما هو ينبثق انبثاقاً من رحم المنابع الأصلية لتلك الثقافة.. لهذا فإننا نقول: إن الثقافة العربية بمصطلحاتها ومفاهيمها ذات الدلالات المنسجمة والبيئة الحضارية للعرب، تبدأ بالبروز والمعرفة والاستخدام على قاعدة النهضة والنهوض.. بمعنى أن (المصطلح) كبناء نظري، يختزن الكثير من الدلالات والرموز والإيحاءات التي يبثها هذا المصطلح المحدد في أرجاء فضائه المعرفي والثقافي.. ويبدأ بالتشكل والاستخدام المعرفي والعلمي، حينما يبدأ أبناء الثقافة العربية والإسلامية بالحركة والفعل الإيجابي لبناء واقعهم وفق متغيرات العصر ومتطلباته.. حينذاك تبدأ الخطوة الأولى في معالجة إشكالية المصطلح في الفكر والثقافة العربيين.

وبدون قاعدة النهضة، تبقى هذه الإشكالية مترسخة، ويبقى استخدامنا لمفاهيم ومصطلحات، تنتمي لفضاءات معرفية وحضارية مغايرة شائعاً ومستخدماً على كل الصعد والمستويات.

اضف تعليق