ليست كثيرة تلك القصص الاجتماعية التي ان سمعتها يقشعر لها بدنك، وتدمع لأحداثها عيناك، وعند نهايتها تأخذك لحظات تأمل، تختلط فيها الأشياء، أسئلة تُطرح وأفكار تُثار. لا أدري على وجه التحديد ما الذي ذكرني بتلك القصة التي دارت أحداثها قبل عقود...
ليست كثيرة تلك القصص الاجتماعية التي ان سمعتها يقشعر لها بدنك، وتدمع لأحداثها عيناك، وعند نهايتها تأخذك لحظات تأمل، تختلط فيها الأشياء، أسئلة تُطرح وأفكار تُثار. لا أدري على وجه التحديد ما الذي ذكرني بتلك القصة التي دارت أحداثها قبل عقود، ويتعذر على النسيان أن يطويها، واستغرب من كتاب السيناريو لدينا كيف لا يستثمرون في أعمالهم الدرامية مناجم القصص التي يكتظ بها واقعنا، ومنها ما تفوق غرابتها الخيال .
كانوا يتباهون به أمام الآخرين، هكذا بدأت زميلتي روايتها، ويحرصون على وجوده مع كل ضيف يزورهم، كيف لا، وهو الشاب الريفي الذي تمكن من دخول كلية الطب يوم كانت مغلقة ولا يدخلها الا المتفوقون ذكاء ومعرفة، بحضوره يُغطي أهله على حالة الفقر المدقع التي يعيشونها، والنواقص الكثيرة التي تعوزهم، بيتهم الطيني المتهالك، رثاثة أثاثهم، افلاسهم المادي المستديم، فما أن يدخل الضيف حتى يقدمون له ابنهم بأنه سيكون طبيبا بعد سنتين .
حدث أن اتهم الشاب كيديا بالانتماء الى جهة سياسية محظورة في حينها، فتلقفته الأجهزة الأمنية وأعادته الى أهله بعد شهرين وقد فقد عقله، بالتأكيد تعجز العبارات عن وصف حال تلك العائلة التي لم يكن أمامها سوى تسليم أمرها الى الله، لكنها صارت تستحي أن يرى ضيوفهم حال ابنهم، فتخبئه في مكان بعيد عن أنظارهم راضخين لواقع اجتماعي متخلف يرى في حالات الجنون عيبا، وليس مرضا عجز الطب عن علاجه، فما العيب في ذلك؟
أعرف عائلة أخرى حبست ابنتها في غرفة مقفلة ولا تسمح بخروجها من المنزل اطلاقا، لكي لا يعرف الناس انها مصابة بمرض نفسي يجعلها تتخيل أشياء غير موجودة في الواقع، ومع ان الأبوين مسؤولان عما تعانيه ابنتهما اليافعة بسبب الاهمال وعدم الانتباه لإدمانها المواقع الالكترونية، وعزلتها عما يحيط بها ولأشهر عديدة، فصارت تتخيل أحداثا وأشخاصا افتراضيين من المشهورين على المواقع، يعيشون ويتحاورون معها، وتدخل معهم في شجارات وصداقات، وبدل الذهاب بها الى الأطباء جرى اللجوء الى ما يطلق عليهم بالشيوخ والسادة الذين زادوا مرضها تعقيدا بأساليبهم المتخلفة كالضرب والتخويف والكي، ولم تتحسن حالتها الا بعد مراجعة المشافي، ومع ذلك لم يُطلق سراح الفتاة من سجنها، بانتظار اكتسابها الشفاء التام، كل ذلك يحدث تحسبا مما سيقوله الناس عنها، مع انه مرض كبقية الأمراض وان اختلف في طبيعته، ولا عيب فيه ان جرى تحكيم العقل والمنطق .
بعض الأطباء والصيادلة الذين يسوّقون لأنفسهم باحترافية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يتحايلون على العوائل التي يعاني أفرادها من مثل هذه الأمراض، او غيرها من التي يستحون البوح بها، خصوصا تلك التي يظنون تعارضها مع المنظومة الأخلاقية للمجتمع كأمراض الذكورة مثلا، فاستغلوا خجل المرضى، وطلبوا منهم ذكر العبارة الآتية (اكتب تم فقط) ليجري عرض الحالة والسؤال والاستفسار على الخاص من صفحة الطبيب، ومن خلال الردود المنشورة على الصفحة العامة يتبين لك ان الأدوية التي تصل الى المرضى عبر خدمة التوصيل غير نافعة، وان أثمانها الباهظة ذهبت سدى، وان الأطباء لم يفصحوا اطلاقا عن تكاليف العلاج والعمليات على الصفحة العامة، وكتبوا بدلها (تم الرد على الخاص)، مما لا يمكن تفسيره الا (بالتقفيص) على المرضى وعوائلهم، فضلا عن عرض مقاطع فديو دعائية لأشخاص يقسمون بأغلظ الأيمان بأن شفائهم تم على يد هذا الطبيب، فيكيلون له المديح والدعاء بالتوفيق، ومن الأطباء ما تستغرب كونهم أطباء، فلا يمكن وصف أساليبهم الكلامية الا بالسوقية وغير المحترمة والمجافية للمهنية . قد ألتمس للناس عذرا في عدم الافصاح عما يعانون من منظور اجتماعي او أخلاقي، لكن لا عذر لطبيب او صيدلاني يستغل خجل المرضى، فهذا هو العيب وليس غيره .
اضف تعليق