q
القرآن الكريم أراد من هذا الموقف النقدي انكشاف الإنسان أمام نفسه، وتعريفه بنقاط الضعف فيه، وذلك بالتركيز على مجموعة من الصفات السلبية المهمة التي لها تأثيرات نفسية وأخلاقية وفكرية واجتماعية، حتى يتنبه الإنسان لها دائما، وبصورة مستمرة، في كافة المراحل والأطوار الزمنية والنفسية والفكرية التي يمر بها، وفي...

في حديث القرآن الكريم عن الإنسان بهذا المسمى رسما ومبنى، ويعنى به نوع الإنسان، هناك جانب لافت للغاية يستحق التأمل والنظر، وهو ذلك الجانب الذي يتصل بتوجيه النقد والذم للإنسان، والتعريف به من خلال ربطه بمجموعة من الصفات السلبية، والشديدة السلبية.

واللافت أكثر في هذا الجانب، هو تكرار هذا الموقف النقدي والذمي للإنسان في آيات عدة، مكية ومدنية، وفي سور قصيرة وطويلة، وفي حالات ومناسبات مختلفة ومتنوعة، وبطريقة تصور وكأن الإنسان يتعرض في القرآن إلى النقد والذم، أو كأن القرآن يحمل موقفا نقديا في نظرته للإنسان.

وقبل مناقشة هذا الموقف النقدي وتحليله وتفسيره، والكشف عن طبيعته وأبعاده، نحن بحاجة إلى الإشارة لقسم من هذه الآيات حتى تتضح الصورة وتتحدد، ومن هذه الآيات:

(وخلق الإنسان ضعيفا)-النساء، آية: 28- (إن الإنسان لظلوم كفار)-إبراهيم، آية: 34- (وكان الإنسان عجولا)-الإسراء، آية: 11- (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)-الكهف، آية: 54- (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) -الأحزاب، آية: 72-

والملاحظ في هذه الآيات والآيات الأخرى التي وردت فيها كلمة الإنسان، أن القرآن استعمل كلمة الإنسان في جانب الذم والقدح أكثر من أي جانب آخر، وهذا ما يلفت الانتباه أيضا.

والسؤال الذي يطرح في هذا الشأن، هل يفهم من هذه الآيات المذكورة، أن القرآن يحمل طابعا سلبيا في رؤيته للإنسان؟ وهل أنه يدعو لنزعة تشاؤمية عن الإنسان؟

أليست هذه الرؤية النقدية والذمية المتكاثرة، تولد مثل هذه النزعة التشاؤمية عن الإنسان، النزعة التي تميل إلى تغليب الجانب السلبي والجانب التشاؤمي في النظر إلى الإنسان، وتنحو بعيدا عن الجانب الإيجابي والجانب التفاؤلي!

ولو توقف أمام هذه الآيات أصحاب النزعات المغرضة من المستشرقين السابقين، وغير المستشرقين من المعاصرين، لكان من السهل على هؤلاء التوصل إلى مثل هذه النزعة التشاؤمية عن الإنسان، ولوجدوا في هذا الموقف فرصتهم في التشهير بهذه النزعة التشاؤمية، والمغالات فيها، ظنا منهم أنها تنتقص من رؤية القرآن تجاه الإنسان.

فهل يمكن تصويب هذا الرأي، والتسليم به، واعتبار أن القرآن يحمل طابعا سلبيا عن الإنسان، ويدعو لنزعة تشاؤمية في النظر للإنسان!

أم أن هذا الرأي قابل للنقد والتشكيك، وأن المسألة برمتها ليست بهذه الصورة، وبعيدة كل البعد عن المنحى التشاؤمي، ولا تمت له بصلة، بل إن المسألة هي بخلاف ذلك، وعلى النقيض منها تماما! فما هي حقيقة الرؤية والصورة إذن؟

الرؤية والصورة

ما هي حقيقة الرؤية بشأن الموقف النقدي والذمي للقرآن الكريم تجاه الإنسان؟

عند النظر في هذه المسألة، وبعد الفحص والتدقيق يمكن الكشف عن الملاحظات الآتية:

أولا: من الممكن القول إن القرآن الكريم أراد من هذا الموقف النقدي انكشاف الإنسان أمام نفسه، وتعريفه بنقاط الضعف فيه، وذلك بالتركيز على مجموعة من الصفات السلبية المهمة التي لها تأثيرات نفسية وأخلاقية وفكرية واجتماعية، حتى يتنبه الإنسان لها دائما، وبصورة مستمرة، في كافة المراحل والأطوار الزمنية والنفسية والفكرية التي يمر بها، وفي مختلف الظروف والوضعيات التي يعاصرها ويتفاعل معها، ومع جميع الأحداث والتغيرات التي يصادفها ويتبادل معها التأثر والتأثير.

وتحديد هذه الصفات جاء بقصد تذكير الإنسان بها، وتحذيره منها، والكشف له بأنه معرض للوقوع فيها، والابتلاء بها دائما وبشكل مستمر في كافة مراحل وأطوار حياته، وأنه لديه القابلية على الإصابة بها، وذلك بوصفه إنسانا مكلفا ومسؤولا، ومعرضا للامتحان والابتلاء، وهذا التأثر وهذه الإصابة ليست جبرا، وإنما على سبيل القوة وليس الفعل.

ثانيا: إن الإنسان كائن بحاجة إلى إصلاح، وعليه أن يبادر بنفسه لإصلاح ذاته من النقص والنقصان، وإذا لم يبادر وبقي على حاله من دون إصلاح فإنه سيكون من أهل النقص، وليس من أهل الكمال.

وحديث القرآن عن تلك الصفات الذمية، جاء بقصد أن يخبر الإنسان بأنه كائن بحاجة إلى إصلاح، وأنه قادر على إصلاح ذاته إذا أراد ذلك وسعى سعيه، ومن جانب آخر، إن القرآن الذي جاء رحمة وهداية وبشيرا ونذيرا، إنما يريد إصلاح الإنسان فعلا وحقيقة، وتحدث عن تلك الصفات بقصد إصلاح الإنسان، وليس لتكريس تلك الصفات في الإنسان.

بمعنى أن القرآن أشار إلى تلك الصفات لغرض أن يتخلص الإنسان منها، ويتغلب عليها، وحتى لا يقع فيها، وليس لغرض إشعار الإنسان بأنه ليس بإمكانه أن يتخلص من تلك الصفات، أو أنها فوق قدرته وطاقته، ولا قدر ولا خيار له لأنه مكتوب عليه ذلك.

ثالثا: ما أشار إليه القرآن هو ما حصل وتقرر فعلا في عالم الإنسان، وما زال يحصل إلى اليوم، وسيظل يحصل غدا وما بعد غد، فالإنسان يشعر في داخله بالضعف، وليس هناك إنسان إلا وشعر في داخله بالضعف، مصداقا لقوله تعالى (وخلق الإنسان ضعيفا)، وما أكثر النوع الإنساني الذي صدر ويصدر منه الظلم، ويقع في الكفر، مصداقا لقوله تعالى (إن الإنسان لظلوم كفار)، وهكذا حال الإنسان مع العجل والقتور والجدل والهلع والطغيان والخسران، مصداقا للآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن.

ومن هذه الجهة، يمكن القول إن ما أشار إليه القرآن هو تقرير لما حدث ويحدث في عالم الإنسان، ليتخذ الإنسان منه عبرة وموعظة حية وحسية، بمعنى أن الصفات التي تحدث عنها القرآن بإمكان الإنسان أن يتعرف عليها، ويتثبت منها، ويتعظ بها، بالعودة إلى عالم الإنسان نفسه، العالم الذي تتجلى فيه تلك الصفات بصورة حية، لا مجال فيها إلى الجحود والنكران.

في إطار هذه الرؤية يمكن تفسير لماذا ذم القرآن الكريم الإنسان!

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق