q
تقول العبارة "اذا لم تقدم الحكومة لنا نظاما عادلا فستخسرني كمواطن صالح"، صدمتني هذه الجملة بقوتها التعبيرية. وتساءلت لو أن فولتير عمل سائق "تك تك" في يوم من الأيام، فلن يكتب أفضل من هذه العبارة العميقة، لهذه الكلمات قوة النقد التنويري الذي يمارسه المثقف الحقيقي في بلد يعاني من فساد وسوء الخدمات...

منذ سنوات قرأت كتاب غاندي قصة تجاربي مع الحقيقة. ما أثار انتباهي في كتاب غاندي هو مراقبته لنفسه خوفا عليها من فساد السياسة. نعم كانت هذه مشكلة غاندي الحقيقية. ومن يقرأ مذكراته سيعرف عناد غاندي من أجل عدم خسرانه لنفسه كإنسان.

هل السياسة عمل خطير وتتنافى مع قيم الإنسان الأخلاقية؟ يطرح هذا السؤال دائما. لذا ينادي البعض بأن تطبيق الشريعة هو أفضل حل لهذه المشكلة. ومع ذلك لم تكن تجارب الأحزاب الإسلامية جيدة في ممارسة السلطة. لكن ليس هذا ما أريد قوله.

لدي وجهة نظر نشأت في ظل عقدين من ممارسة نظام ديمقراطي دون أن نكتشف اي أثرٍ ملموس لهذه الديمقراطية.

نعرف جميعا أزمات البلد، وما يهمني وأنا وريث قراءات شخصية جدا أن رجل السياسة يتمتع بقدرة كبيرة على تقديم الوعود والإغراءات وتغيير المواقف، تبعا للمصلحة التي تجعل الحزب مرنا وقادرا على التأثير. هذه هي قواعد اللعبة السياسية التي نشاهدها عند كل انتخابات. لنقل هي قواعد تضمن للسياسيين بقاءهم

واستمرارهم. تشبه هذه القواعد عملية تلقين قصيدة لشخص لا يقرأ ولا يكتب.

لذا أنا أقول إنني حين استمع لأحد السياسيين يتحدث أشعر بعمى البصيرة واضحا في كلامه. في حديث السياسة عندنا لا توجد معاناة غاندي ومراقبته لنفسه. ومحاولته أن ينتصر للضعفاء دون أن ينتظر منهم عونا له في خوضه للانتخابات. يتحدث السياسي في كل وقت بيقين وثقة أنه عادل ومنصف ولديه خطة، وقد تأقلم على اداء هذا الدور التمثيلي. ويا له من دور، فهو يعرف أن هناك مشكلات كثيرة وفساد وغير ذلك من أمراض جاءت بها الخصومات السياسية.

لكنه يتحدث على الرغم من كل ذلك بقين أنه لم يقصر. وهنا يتحول السياسي إلى شخص جديد خسر نفسه بكل ما في الكلمة من معنى.

ما اكتشفته في مذكرات غاندي هو ذلك الصراع الداخلي العنيف بين مبادئ غاندي وبين واقع السياسة. المبادئ تعني هنا نظرة صافية إلى واقع الناس دون تزييف. وما يحدث دائما هو جعل المبدأ أهم من المواطن، ومن عذاب الشعب. وهذا ما لم يفعله غاندي.

وهناك أمثلة من حياته تدل على انه لم ينخدع بالمبادئ على حساب هموم الفقراء.

مثلا: لم تسكر كلمة استقلال الهند غاندي، ولم يرقص لهذا الاستقلال وقد حدثت مجازر للمسلمين. لو كانت روح غاندي مصابة بالعمى لابتهج وبرر كل ما يقع، ولعوض المسملين واعتبرهم شهداء مرحلة. بكلمة أخيرة: لم يبن غاندي جسرا للهند.

اما في مجتمع كمجتمعنا تصبح سيارة الاجرة أو التك تك وسيلة لايصال رسالة ما لمن يقرأ تلك الكتابات التي تخط وتلصق في خلفية سيارة أو "تك تك".

حكم وأبيات شعرية بالعامية، وأقوال، وأمثال شعبية، كل هذا نقرأه ونحن نقف في أوقات الازدحام أو نلمحه بدافع الفضول، حين يعبر سائق "تك تك" مسرعا من قربنا.

في الحقيقة استوقفتني عبارة مكتوبة على غطاء الـ"تك تك" الجلدي الاحمر، وجعلتني أفكر بفوضى حياتنا، وحجم العذاب الذي نعاني منه.

تقول العبارة "اذا لم تقدم الحكومة لنا نظاما عادلا فستخسرني كمواطن صالح".

صدمتني هذه الجملة بقوتها التعبيرية. وتساءلت لو أن فولتير عمل سائق "تك تك" في يوم من الأيام، فلن يكتب أفضل من هذه العبارة العميقة.

لهذه الكلمات قوة النقد التنويري الذي يمارسه المثقف الحقيقي في بلد يعاني من فساد وسوء الخدمات.

أعرف بالتأكيد أن صاحب الـ"تك تك" عثر على هذه العبارة من تصفحه اليومي لمواقع كثيرة في النت. لكن اختياره لها يدل على أن هذا الشاب يعرف المشكلة التي تتفاقم يوما بعد اخر دون ان يوضع لها حلا جذريا.

ترى ما هي مشكلتنا الرئيسة التي جعلت سائق الـ"تك تك" هذا يعلن رأيه من خلال عبارة تحذرية. أظن ان مشكلتنا هي في تلك الفجوة بين النظام السياسي وبين الشعب.

وربما يكون أخطر ما يواجهنا هو شعورنا اننا نتعرض كل يوم لنوعٍ من الخداع، لا يمكننا فضحه بسهولة. وأكثر ما يحزننا هو لا مبالاة السياسيين بكل ما يجري من أحداث.

أحيانا أكتشف صدق مدرب كرة القدم اذا بكى عند فوز فريقه. فكيف أكتشف صدق أحد السياسيين وهو لا يهتم بقضايا تمس حياة شعبه، وما يريدون تحقيقه.

تاريخنا السياسي المعاصر يعلمنا هذه الحكمة البسيطة، التي لم نعد نراها في سياسيي هذه الأيام.

لم ترتبط السياسة يوما في تاريخنا بالثراء المادي، كما أنها لم تكن ساعات امتياز وأبهة ومتعة.

في أيامنا هذه ظهر السياسي العملي كبطل علينا أن نقف له بإجلال. هذا السياسي البطل لا يشبه الملك فيصل في قلقه على الشعب، ولا يشبه الزعيم قاسم في انزعاجه من فقر الناس. إنَّ السياسي في ايامنا هذه هو نموذج لا يقاس عليه. إنه عبد امتيازاته.

.........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق