q
ان العنف والحروب فرضت نفسها وأحداثها على جميع الكتاب العراقيين أو غيرهم، ويندر أن تجد كاتبا لم يواجه العنف في كتاباته، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، إلى أي درجة ساهمت هذه الكتابات في مكافحة العنف وإيقاف عجلة النار العنيفة التي تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه؟...

يتصّف كاتب السرد بحساسية عالية، تجعله مختلف عن غيره من الناس في التعامل مع البيئة التي يجد نفسه مرغما على العيش فيها، وبسبب هذه الحساسية المفرطة يميل الكتاب إلى الخيال، وبعضهم إلى العزلة، ومنهم من يحاول أن يردم الفجوة بينه وبين الواقع من خلال الحكايات والقصص التي يؤلّفها كي يعالج بها أمراضه النفسية.

هكذا قيل عن العديد منهم، بأنهم مرضى نفسيون، يعانون من أنواع مختلفة من درجات الذهان أو الانفصام أو العصاب، ومنهم من ينتهي نهاية مأساوية كالانتحار أو الموت في الطرقات كما حدث لكثير من الكتاب المعروفين منهم على سبيل المثال أدغار آلن بو الذي تم الاعتراف بأدبه وكتاباته بعد مئة سنة من رحيله في حين كان في حياته معرَّضا للهجوم والإقصاء من المتنفذين في ساحة الأدب الأمريكي آنذاك.

ولدينا أمثلة أخرى كثيرة، فمثلا أرنست همنغواي انتهى الأمر به إلى الانتحار رغم شهرته الكبيرة و فوزه بجائزة نوبل، ففي أحد الأيام صعد إلى غرفته في الطابق العلوي وأطلق الرصاص على رأسه من دون أسباب واضحة، علما أنه خاض حربا ضروسا وكتب روايته الشهيرة وداعا للسلاح التي عدّها بعض النقاد أعظم رواياته، لكن هذا العمل الأدبي لم ينقذه من حساسيته المفرطة تجاه العنف الذي عاشه في حياته.

ليس الكتاب الأجانب وحدهم من عانى من العنف، وإنما الكتاب في العراق أيضا، تدخلت الحروب في حياتهم لتحيلها إلى العنف المستدام، فكثير من كتاب القصة العراقيين كانوا جنودا سحقتهم الحروب، ومنهم الجيل الثمانيني الذي ترعرع في الحرب الطاحنة بين العراق وإيران، ومن ثم الجيل التسعيني الذي عاش حرب الخليج الأولى كما يصطلح عليها المراقبون السياسيون، وجيل الألفين الذي عاش التحولات الكبرى في العراق.

العنف والحساسية المفرطة للكتّاب

لنصل إلى مرحلة الحرب الطائفية التي احتدمت في السنوات 2005 و2006 و 2007، بعدها بدأت مرحلة داعش وحالة العنف التي سادت هذه المرحلة، هذه كلها خلقت أجواء عنيفة عاشها العراقيون جميعا، وتأثر بها الكتاب كثيرا بسبب الحساسية المفرطة التي تضاعف من معاناتهم وآلامهم وهم يتعايشون مرغمين من نتائج العنف.

فالعنف كما هو معلوم متعدد من حيث المضامين والمعاني، وحتما ستدخل الحروب بوصفها العنف القوى والأكثر خطرا على الناس، ولأن الحروب كما هو معروف تأكل وتشرب مع العراقيين وعاشت معهم أجيالا وأجيال، لهذا فإن السرد العراقي كتب عن الحروب وانشغل بتفاصيلها، وأظهر مآسيها، فشكلت كما أعتقد ظاهرة في السرد العراقي.

لذا فإن العنف بالفعل شكل موضوعا رئيسا في القصة والرواية العراقية، والأمثلة هنا لا تعد ولا تحصى، ويدل على ذلك النقد العراقي الذي تصدى لموضوع العنف في الرواية والقصة العراقية، والحروب هي المادة الدسمة لقصصنا ورواياتنا، فعلى سبيل المثال جميع قصص مجموعتي لغة الأرض الفائزة بجائزة الطيب صالح تناولت الحرب من عدة زوايا، وأبطالها أما جنود أو قتلى أو مبتوري الأطراف، أو مشوهي النفسيات والعقول.

فضلا عن حالات الفقر والتفكك الأسري بسبب هذه الحروب، لذا كما أعتقد واجه السارد العراقي ظاهرة العنف في نواح عديدة ورؤى مختلفة، فكل كاتب له تجربته وأحداثه ورؤيته، لكن الجميع يلتقي عند نقطة واحدة هي تعرية المخاض المأساوي الذي أنتجته الحروب، وعالجته السردية العراقية دونما كلل أو ملل لأن تلك الحروب أصبحت جزءا من حياة العراقيين.

علما بأن خصوصية السرد موجودة في التجربة العراقية، كونها مندمجة في ثقافته وتاريخه، وأقول هنا لكل بلد أو شعب أو أمة هويتها السردية المختلفة، فحين قرأت لكاتب من تشاد وجدت في كتاباته هوية شعب تشاد، تاريخه، تراثه وموروثه وعاداته وثقافته، وهذا ينطبق على السرد المصري مثلا، أو حتى السرد الغربي له طابعه وهويته المختلفة.

فلسفة العنف في القصص الحديثة

أما عن العمق الثقافي في السرد فهو يتعلق باسم الكاتب وتجربته ووعيه وثقافته وخبراته في مجال على النفس أو الأفكار بصورة عامة، نعم أظهر كتاب عراقيون قدرة فلسفية جيدة في كتاباتهم، وهناك أسماء وأمثلة تطرق لها النقاد ومنهم الناقد عبد الله ابراهيم وشجاع العاني وحاتم الصكر وغيرهم، أشاروا إلى قدرات بعض الكتاب العراقيين في امتلاك الناصية الفلسفية وطرحها في نصوصهم السردية، حيث كان العنف محورا أساسيا لها.

كذلك قدم كتاب عراقيون نصوصا روائية وقصصية فيها من الفكر والفلسفة ما يستحق الإشادة، كما في أعمال جليل القيسي الذي اعتمد الأسطورة بشكل لافت، أو قصص الملاذات لحمد صالح واستغواره النفسي لأعماق شخصياته، وسعد عبد الرحيم في روايته مقتل بائع الكتب على نحو خاص، هذه أعمال تتمحور حول العنف بأشكاله المختلفة وإن لم تكن الحروب هي المسبب الأساس لهذا النوع من العنف.

أما عن كتابة الروائي لمعاناته الذاتية بعد أن تلطخت بدماء المحاربين وأحلامهم، فهذا أمر بالغ الوضوح في السردية العراقية، والسبب أن معظم الكتاب دخلوا الحروب وعانوا من أتونها ونيرانها، لذا حين يكتب الروائي العراقي عن بطله وشخوصه، فهو يجيد وصف الجندي وأحلامه، ويجيد وصف العنف والاحداث الدموية ليس في ساحات القتال وحدها.

وإنما في ساحة الذات الداخلية حيث تُخاض معارك ضارية مع الذات التي حوصِرَت بالدم والنار، وأخيرا لقد أسهم السرد العراقي في رصد مشاهد العنف و وثقها سرديا، بعضها يصل إلى الواقعية التامة، وبعضها مرسوم بخليط من الواقع والخيال، أما من حيث القصدية الفنية، فهناك من كتب ما يعي ويدري به، وهناك من فرضت الأحداث نفسها وأجواءها عليه.

وهكذا نلاحظ أن العنف والحروب فرضت نفسها وأحداثها على جميع الكتاب العراقيين أو غيرهم، ويندر أن تجد كاتبا لم يواجه العنف في كتاباته، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، إلى أي درجة ساهمت هذه الكتابات في مكافحة العنف وإيقاف عجلة النار العنيفة التي تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه؟

اضف تعليق