نبدأ كلامنا هذا بالترحم على ارواح من غادرونا وهم يؤدون مناسك الحج ويتسابقون لنيل رضا الباري (عز وجل) ونسأل الله ان يتقبلهم قبولا حسنا وان يشملهم بواسع رحمته ويغفر لهم ويسكنهم ما اعده للشهداء والصديقين في دار الخلود، وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره نحتسبهم شهداء احياء عند ربهم يرزقون، واكاد لا اجانب الصواب ان قلت ان اغلب المسلمون يغبطونهم على نعمة ان يلاقوا ربهم بملابس الاحرام في اشرف بقاع الارض وهم في طاعة وضيافة الرحمن.. وقدر الله وما شاء فعل ولا حول ولا قوة الا بالله..

ولكن هذا التسليم بمشيئة الله وقدره قد لا تمنع الحزن الذي قد يعتري المتابع المحتسب المكلوم بفقد احبائه وهو يستمع الى التبرير الاقرب الى الصلف الذي تناقلته وسائل الاعلام عن السيد وزير الصحة السعودي خالد الفالح الذي حمل مسؤولية حادث التدافع الذي تسبب بوفاة اكثر من 700 شخص بالقرب من منى -بقضه وقضيضه-الى الحجاج انفسهم. معتبرا ان عدم التزامهم بالتعليمات "هو العامل الرئيسي وراء مثل هذه الحوادث" والاغرب ان هذا الكلام يأتي قبل تعهده بإجراء تحقيق "سريع وشفاف" في الحادث، مما يشي بالنتيجة الحتمية التي ستفضي بها هذه الشفافية المفترضة.

فعلى الرغم من تمتع الاجهزة الامنية والرسمية السعودية بغطاء -بل دثار- اعلامي كثيف يتحصل على قدرات تبريرية وتسويغية لافتة، الا ان تكرار هذه الحوادث في الموسم الذي يفترض الجاهزية الامنية والادارية الاعلى، وفي ظل تقليص كبير في عدد الحجاج وتطبيق قواعد صارمة لمنح تأشيرات السفر، قد يشير بوضوح تام الا ان هناك العديد من الجهات التي يمكن ان تتشارك مع "الحجيج غير المنضبطين" مسؤولية هذه الحوادث الاليمة.

وان كنا لا نميل الى السير خلف بعض التصريحات التي حملت سلطات المملكة العربية السعودية بوضوح مسؤولية هذا الحادث الجلل، لما يمكن ان يدرج تحت بند المناكفات السياسية، الا اننا لا نستطيع استبعاد الكثير من الاشارات التي تحدثت عن ان اغلاق مفاجئ وغير مخطط له لبعض البوابات والطرق قد يكون السبب وراء هذه الكارثة، كما انه الحديث المتكرر، وعن لسان العديد من المصابين، عن "توقف سير الحجاج بشكل مفاجئ" قد يقدم قرينة مناسبة لهذا التفسير، حتى مع اهمال الشهادات المتواترة التي تحدثت عنها العديد من مواقع التواصل الاجتماعي نقلا عن شهود عيان والتي تحدثت حول ان سبب التدافع هو اغلاق أحد المسارات المنتهية الى الجمرات من قبل الامن السعودي بسبب حضور أحد أمراء الاسرة السعودية الحاكمة وبدون تنسيق مسبق، مما ادى الى دفع افواج الحجيج نحو مسارات اخرى هي مكتظة بطبيعتها.. رغم ان الرد الرسمي السريع -والمستغرب تجاه خبر في مواقع التواصل الاجتماعي- الذي ينفى الربط بين حادث منى ومرور موكب رسمي في المكان لا يقدم الطمأنينة المطلوبة في مثل هذه الامور.

ان حوادث الحج ليست جديدة ومن الممكن ان تطرأ في اي تجمع بشري ضخم ولكن المؤلم هو في تكرار هذه الحوادث في فترات قريبة والتنصل الروتيني للسلطات السعودية من مسؤوليتها في ضمان أمن الحجاج الذين لم يتجاوز عددهم هذا العام مليون 900 ألف حاج، والقاء اللائمة على الحجاج انفسهم، كما مشهد الجثث المرمية في المسجد الحرام تحت انقاض الرافعة العملاقة وصور الحجاج الممددين بملابس الإحرام على جانب الطريق اشد وطأة على القلب مع الحديث المتكرر عن انفاق مليارات الدولارات على تطوير وتوسيع البنية التحتية لمواقع الحج وتكنولوجيا السيطرة على الحشود.

وما دمنا قرب مواقع التواصل الاجتماعي، فمن الغريب ألاّ نمر على حساب المغرد السعودي الشهير "مجتهد" في تويتر والذي يشاطرنا الثقة بأقواله العديد من الصحف ووكالات الانباء العالمية بناءً على الاعتقاد الواسع بكونه من الاسرة الحاكمة في المملكة، اذ يقول نقلا عن ما اسماه مصدر من قلب الحدث، ان الفشل الذريع جدا للقطار وتكدس الناس ساعات في انتظاره واستمرار هذا التكدس من الحشود دون ان يأتي القطار هو السبب في وقوع الحادث، فمثل هذا القول قد نجد مصداقا له في تكرار الحادثة التي جرت في اليوم السابق لحادث المشعر الحرام والذي ادى الى تعرض ما يزيد على مئتي حاج للإغماء والإجهاد والإعياء. حين حدث تعطل في النظام الآلي لقفل الأبواب بالقطار الذي كلف الشعب السعودي اكثر من ست مليارات ريال حسب السلطات السعودية، في حين أن الشركة الصينية المنفذة للمشروع كانت قد أعلنت في تقريرها السنوي ان تكلفة المشروع نحو 177 مليون دولار أي ما يقارب 630 مليون ريال. في صفقة فساد قد تكون هي وغيرها السبب في ذلك العدد المخيف من الضحايا.

مرت هذه الحادثة.. وسيمر الكثير غيرها، وسيبقى قلوب المؤمنين تهفو الى مهبط الوحي والارض التي عرفت خطى الرسول وآل بيته وصحبه الابرار، وستواصل افواج الحجيج التدفق على ارض الحرمين لأداء المناسك، ولكن هذه الذكرى المؤلمة ستبقى عالقة في اذهان التاريخ لتحكي عن التهاون في امن وسلامة ضيوف ارض الامن السلام، وستلصق في ذاكرة الايام صور جثامين الشهداء المسجاة داخل الكعبة الشريفة وعلى ارض منى الحرام، وهي تشير بأصابع مدماة الى مواقع الخلل والتقصير الذي لن يحجبه غربال السيد وزير الصحة السعودي، ولا الاعلام المداهن.

نختتم كلامنا بما بدأناه بالترحم على ارواح شهداء الاسلام، والدعاء والاستغفار، تأسيا بقوله صلوات الله وسلامه عليه: ما الميت في القبر الا كالغريق المغوث ينتظر دعوة تلحقه من ابيه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كانت احب عليه من الدنيا وما فيها، وان اهداء الاحياء للأموات الدعاء والاستغفار... وانا لله وانا اليه راجعون.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق