أخفقت معظم التجارب الاقتصادية التي يقودها القطاع العام في تحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي منذ النصف الثاني من القرن الماضي ولغاية الآن؛ نظرا لانعدام كفاءة الحكومات في استغلال الموارد الاقتصادية بشكل أمثل، وتفشي مظاهر الفساد والبيروقراطية في معظم الحلقات الإدارية، مما أفرغ عملية التنمية الاقتصادية في هذه البلدان من مضامينها الاقتصادية والاجتماعية لصالح تولد اقتصاد موازٍ (اقتصاد ظل) يبتلع الموارد والأموال ويزيد من قوة ونفوذ وبطش السلطات.

وفي العراق لم ينجز القطاع العام دوره المأمول، خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، وفقا لما رسمته الخطط الاقتصادية الخمسية التي أُعدت منذ نهاية السبعينات، مرة لظروف البلد السياسية ومرة أخرى لاتكال هذا القطاع على الدعم الحكومي المستمر والحماية من المنتج الأجنبي المماثل، مما ولد قطاعا عاما متكاسلا ومترهلا بالبطالة المقنعة معتمدا في تمويله على موارد الحكومة بعيدا عن مبدأ (الكلفة-العائد) في الإنتاج.

وبعد تغير النظام السياسي في العراق عام 2003 توجهت الأنظار نحو القطاع الخاص ودوره في تغير النظام الاقتصادي القائم ليكون قاطرة للنمو والاستقرار الاقتصادي في البلد بدلا من الإدمان المزمن على المورد النفطي. وفي هذا السياق أنشأت الكثير من المؤسسات واتخذت جملة من الإجراءات لأجل التمهيد إلى تحول سلس نحو القطاع الخاص والتصفية التدريجية لمنشئات القطاع العام دون الإضرار بالقوى العاملة فيه عبر زجهم في مشاريع متوسطة وصغيرة تلقى الدعم الحكومي. لكن للأسف لم تغادر هذه الأمنيات قاعات المؤتمرات وبطون الكتب والمجلات وبقيت حبرا على ورق؛ نظرا لعدم واقعيتها؛ كونها كانت وصفات جاهزة للتحول نحو القطاع الخاص بعيدة عن الواقع الاقتصادي في العراق ومتطلباته.

وتفاقمت محنة القطاع الخاص في العراق مع تدهور الوضع الأمني وعدم الاستقرار السياسي، وسياسة الاستيراد المفتوح، وعدم ملاءمة مناخ الاستثمار، وغياب الأدوات المالية الفاعلة، وتدهور البنية التحتية، وهروب رأس المال. وأدت هذه العوامل، مترافقة مع تصاعد إيرادات النفط، إلى انحسار مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني وفي الناتج المحلي الإجمالي.

إن القطاع الخاص في العراق يعاني من مجموعة من المشاكل والعوائق التي تحُول دون تطوره بما في ذلك -على سبيل المثال لا الحصر- الافتقار إلى سياسات واستراتيجيات فاعلة لدعمه، وتقادم وتعقيد الإطارين القانوني والتنظيمي اللذين صمما لاقتصاد مخطط مركزي، وعدم كفاية مصادر التمويل المتاحة، فضلا على تضرر البنية التحتية المادية، وعدم كفاية إمدادات الطاقة، وشحة الموارد البشرية المؤهلة ولاسيما العمالة الماهرة.

وقد أسهمت الأوضاع السياسية والأمنية وتدهور البنية التحتية وسوء إدارة الملف الاقتصادي من لدن صناع القرار وتعقيد الحلقات البيروقراطية وتفشي ظاهرة الفساد المالي والإداري إلى انكفاء هذا القطاع وهروب رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج وانصهار الطبقة البرجوازية في البلد.

وفي أواخر شهر آب الماضي شكلت الحكومة العراقية خلية أزمة لمتابعة الوضع الاقتصادي والمالي ورسم السياسات القادرة على التكييف مع الهبوط المتواصل في أسعار النفط، من خلال إطلاق مبادرة جديدة لتطوير القطاع الخاص في سياق المنهاج الحكومي للإصلاح الاقتصادي.

مع ذلك، يشار إلى إخفاق عدد كبير من البرامج الحكومية التي نُفّذت خلال العقد المنصرم لدعم القطاع الخاص في العراق وتذليل عقبات انطلاقه؛ لأنها كانت مجزّأة ولا تندرج ضمن استراتيجية مترابطة أو خطة تتضمن إجراءات متعاقبة يمكن أن تستخدمها الحكومة في معالجة المشاكل التي تعرقل ظهور قطاع خاص فاعل.

إن تطوير مكانة وأداء القطاع الخاص يعد قضية جوهرية يتوجب أن ترتكز عليها السياسات الاقتصادية من خلال تبني استراتيجية مثلى لتطوير القطاع الخاص تعكس الفهم الصحيح والتصور الواضح لآليات وسبل تفعيل دوره في النشاط الاقتصادي، لذا ينبغي على الحكومة إطلاق حزمة من السياسات والإجراءات المناسبة لتحفيز وتعزيز هذا القطاع في المرحلة الراهنة، لعل أبرزها:-

1- البدء بحوار بين الحكومة والقطاع الخاص، حيث تتشاور الحكومة (مجلس الوزراء ومجلس النواب) مع القطاع الخاص عند وضع سياسات أو قوانين أو أنظمة أو تعليمات تخص الأخير من خلال لقاءات وندوات مشتركة لمراجعة وتبسيط الإطار القانوني والتنظيمي المتعلق بنشاط القطاع الخاص لتذليل العراقيل التي تعيق انطلاقه.

2- توفير التمويل الكافي للقطاع الخاص عبر إصدار قوانين جديدة وإزالة التعقيدات الروتينية وتحسين فرص هذا القطاع في الحصول على تمويل ملائم يتناسب والفرص الاستثمارية في البلد، والعمل على استحداث آليات تمويل جديدة تكون متاحة لمعظم الشركات والمؤسسات الخاصة ولاسيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

3- ضرورة توفير مناخ ملائم ومحفز يساعد على تنشيط القطاع الخاص من خلال توفير البنية التحتية اللازمة والحماية الأمنية للمشروعات والمؤسسات العاملة في البلد.

4- تبني برامج متقدمة للتدريب والتأهيل تساهم في تمكين قوة العمل العراقية ورفع مستوى مهارتها بحيث تكون هذه البرامج متجانسة ومتناغمة مع متطلبات سوق العمل العراقي، لأجل رفد القطاع الخاص بأيدٍ عاملة متنوعة المهارات تتلاءم واحتياجات السوق.

5- العمل على تسهيل إجراءات منح إجازات الاستثمار وتخصيص الأراضي اللازمة للمشروعات الاستثمارية ومنح اعفاءات ضريبية وحماية جمركية من السلع المماثلة لأجل تمكين القطاع الخاص من النفاذ إلى الاسواق المحلية ومنافسة المنتج الأجنبي والاستحواذ على الاسواق المحلية.

6- إحداث شراكة بين القطاعين العام والخاص لتحقيق التكامل في النشاط الاقتصادي وبما يخدم كلا القطاعين، ويؤسس لنمو ديناميكي للقطاع الخاص يمكنه من الحصول على فرص أفضل لتوسيع نشاطه ومن ثم تعزيز مكانته وأدائه بما يعود بالفائدة على النشاط الاقتصادي ككل.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق