q
كانت هناك محاولات لتهميش اللغة العربية الفصحى، من خلال تشجيع وترسيخ اللغة العاميّة، التي هي منفصلة بشكل كبير عن اللغة العربية، فالإنسان (العامّي) قد لا يفهم كثيراً من اللغة العربية الفصحى، بسبب تركيز العامية، كما جرت محاولات لإبعاد الكلمات القرآنية عن المجتمعات العربية، وحينما تستعمل الكلمات القرآنية...

بعد أن عرفنا أن عادات المجتمعات المسلمة كثيراً ما تكون ناشئة من الثقافة الإسلامية الأصيلة، يجب علينا دراسة جذور العادات المنتشرة في المجتمعات الإسلامية.

البديل الإسلامي

هناك نقطة مهمة لابد من الإشارة إليها، ألا وهي ضرورة المحافظة على العادات غير السيئة في المجتمعات الإسلامية، فيما إذا لم يقدم الإسلام بديلاً أفضل، وأما إذا كانت العادات الموجودة في المجتمعات الإسلامية غير مناسبة فينبغي العمل على تغييرها، وإذا قدّم الإسلام بديلاً لعادة ما ـ حتى لو كانت حسنة ـ فينبغي علينا التمسك بالبديل الإسلامي؛ لأنه الأفضل.

وهنا نضرب مثالاً لكي تتضح الفكرة أكثر: لقد كان من عادات الناس في الجاهلية أن يبتدئوا كلامهم ورسائلهم بكلمة (باسمك اللهمّ)، وهذه الكلمة جيدة؛ لأنها ابتداء باسم الله عز وجل، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبأمر من الله عز وجل، غيّر هذه الكلمة إلى: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فالابتداء بكلمة (باسمك اللهم) وإن لم يكن من العادات السيئة، بل كان عادة حسنة، ولكن الإسلام بدّلها بأحسن منها؛ لذا ينبغي علينا أن نتمسك بالبديل الذي قدّمه الإسلام.

وهناك مثال آخر، وهو: حينما كان يتزوج الإنسان العربي قبل الإسلام، يقول له الناس مهنئين: (بالرفاء والبنين)، و(الرفاء) بالهمزة تعني الانسجام(1)، بمعنى أننا نتمنى أن يكون هناك انسجام بين الزوجين.

إلا أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) غيّر هذه العادة، وفي الحديث: (لما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) قالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا، بل على الخير والبركة)(2).

فهذه العادة التي سبقت الإسلام لم تكن سيئة؛ إذ المطلوب هو الانسجام بين الزوجين وأن يتحقق الإنجاب، لكن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) غيّرها، أو أمر بتغييرها بعادة أخرى أحسن، وهي: (على الخير والبركة).

العادات وشخصية الإنسان

ولكن إذا لم تكن العادة سيئة ولم يأتِ الإسلام ببديل لها فينبغي علينا التمسك بها وعدم تركها؛ لأن تركها يؤدي بنا للتأثر بعادات وثقافات المجتمعات غير المسلمة، والسبب هو أن شخصية الإنسان تتكون تدريجياً، فنحن نرى أن الناس مختلفون في تفكيرهم، وفي ثقافتهم وفي أسلوب حياتهم، وقد تكون الأمور المختلف عليها جزئية، وربما يظن البعض أنها غير مهمة، ولكن عندما تجتمع ستكوّن شخصية الإنسان.

فحينما ننظر ـ مثلاً ـ إلى الإنسان المسلم الذي يعيش في الشرق الأوسط، وننظر إلى إنسان نصراني يعيش في قارة أخرى، فإن الفارق بينهما كبير، ونقاط الاختلاف الصغيرة ربما تكون في أمور جزئية، وهذه النقاط الخلافية لا تبدو مؤثرة لوحدها، لكنها إذا اجتمعت فسيكون من شأنها تكوين شخصية الإنسان.

ولنأت بأمثلة جزئية: مثلاً: طريقة الطعام، واللبس، والأسماء، والخط، واللغة، وطريقة الحديث وغير ذلك كثير ما من شأنه تكوين شخصية الإنسان؛ لذا نرى أن بعض ما فعله المستعمرون حينما دخلوا البلدان الإسلامية هو محاولتهم تغيير هذه الأمور، بل محاربتها، لتتكون شخصية جديدة للإنسان المسلم، بحيث يكون منسلخاً عن ثقافته الإسلامية، فقد لا تكون طريقة اللباس مهمة إذا نظرنا إليها بنظرة تجزيئية، وكذا طريقة الطعام وغيرها، ولكن حينما تجتمع هذه الأمور مع أمور أخرى فإنها تكوّن شخصية الإنسان، فنرى أن الإنسان الذي تتغير عنده طريقة الطعام واللباس وغيرهما يختلف عن الإنسان الآخر بـصورة كاملة.

اللغة وجه الثقافة

تُعد اللغة من الأمثلة الواضحة لأهمية الثقافة في حياة الإنسان، فاللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة؛ لأن اللغة هي النظام البياني للثقافة، والثقافة هي النظام المعرفي للّغة، بمعنى أن الإنسان يحمل ثقافة ما، وهذه الثقافة تُعبر عنها اللغة، فاللغة في هذه الحالة هي وجه للثقافة، والثقافة وجه آخر للّغة. فهناك ارتباط وثيق بينهما؛ لذا حينما نريد أن نكتشف ثقافة أمة أو مجتمع ما ندرس أدبهم وكلامهم ولغتهم؛ لأن اللغة تمثل صورة جلية عن الثقافة والمعرفة والقيم لدى تلك الأمة وذلك المجتمع.

فليس من المهم أن يتكلم الإنسان بأية لغة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ}(3)، ولكن حينما نأتي إلى اللغة العربية نرى أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً وكاملاً بالثقافة الإسلامية؛ لأن النصوص الدينية كلها بلا استثناء جاءت باللغة العربية، كالقرآن الكريم، وأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، وكذلك أصولنا الدينية كتبت باللغة العربية، وهكذا الأمر بالنسبة للمعارف الإسلامية، وكذلك لغة الشعائر الإسلامية، فإذا أراد الإنسان أن يصلي يجب أن تكون قراءة سورة الحمد وغيرها من الأذكار باللغة العربية، وحينما يريد أداء فريضة الحج ويعقد النية للإحرام ويلبي يجب أن يفعل ذلك باللغة العربية. فقد ارتبطت اللغة العربية ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والقيم الأصيلة، وقد شرف الله عز وجل هذه اللغة بهذه الميزة.

وقد نقول: إنه ليس مهماً أن يتحدث الإنسان بأية لغة، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يكون هناك اهتمام بهذه اللغة، وحينما جاء الاستعمار حارب هذه اللغة محاربة شديدة في البلدان غير العربية، فأخرجوا اللغة العربية من مناهج الدراسة؛ لذا حينما نذهب إلى البلدان الإسلامية غير العربية نجد الغالب لا يعرفون اللغة العربية، فإذا قرأ أحدهم القرآن الكريم يقف حائراً أمامه؛ فمعظم الناس لا يفهمون معناه، وهذا من أسباب انسلاخ المجتمعات الإسلامية عن الثقافة الإسلامية.

كذلك الحال بالنسبة إلى العرب، فقد كانت هناك محاولات لتهميش اللغة العربية الفصحى، من خلال تشجيع وترسيخ اللغة العاميّة، التي هي منفصلة بشكل كبير عن اللغة العربية، فالإنسان (العامّي) قد لا يفهم كثيراً من اللغة العربية الفصحى، بسبب تركيز العامية، كما جرت محاولات لإبعاد الكلمات القرآنية عن المجتمعات العربية، وحينما تستعمل الكلمات القرآنية في كثير من الأحيان يحاولون سلخها من المعنى القرآني الموجود فيها.

أما بالنسبة للخط فليس مهما أن يكتب الإنسان بأي خط، لكن حينما جاء الاستعمار إلى البلدان الإسلامية حارب طريقة الكتابة باللغة العربية؛ لذا وجدنا الإصرار في بعض البلدان الإسلامية غير العربية لاستبدال الخط العربي بكتابة أخرى، والنتيجة أن الخط العربي بقي الآن في البلدان العربية فقط وبعض البلدان الإسلامية غير العربية، وأما سائر الدول الإسلامية فقد انتهجت للكتابة خطاً غير عربي، بعد أن كانت كذلك.

إن شخصية الإنسان تتكون عبر مفردات، هي في كثير من الأحيان تكوّن عادات يجب المحافظة عليها؛ لأن هذه العادات قد لا ترتبط بالثقافة الإسلامية ارتباطاً مباشراً، ولكن هناك ارتباط غير مباشر في كثير منها، ثم لا معنى أن نغير عادة إلى أخرى مثلها، أو أدنى منها من دون أي سبب، ولمجرد أنها من عادات بعض الشعوب، مثلاً: إذا كان شعب ما متطوراً مادياً، وله عادة معينة، وهي غير مرتبطة بجانب التطور، فليس من الضروري أن نأخذ تلك العادة من ذلك الشعب ونغير عاداتنا لأجلها، فهذا الأمر يسبب نوعاً من الانهزامية، وإذا حدث فربما يتنازل الإنسان عن قيمه أيضاً، وهذا يحدث بشكل تدريجي؛ لأنه قد يتنازل عن بعض الأمور التي يتصورها تافهة أو عادية، ثم يؤدي ذلك تدريجياً إلى التنازل عن كثير من القيم.

وكمثال على ذلك حينما رأى بعض المسلمين التطور الصناعي والرفاه، وبعض مفردات العلوم في الغرب انبهروا بها، وبدأوا يبشرون بتغيير عادات المجتمع الإسلامي، وفي مقدمتها العادات الحسنة، واستبدلوها بعادات غربية غير حسنة؛ لأن الغرب ـ كسائر المجتمعات ـ فيه نقاط قوة ونقاط ضعف، ولو كان هناك تبشير بأخذ نقاط القوة فقط لما كان في ذلك بأس، فلا بأس أن نغيّر نقطة ضعف أو عادة سيئة إلى نقطة من نقاط القوة، وإلى عادة من العادات الحسنة، ولكن حينما نأخذ العادات السيئة ونترك العادات الحسنة تكون النتيجة ما نراه الآن.

إن كثيراً من مجتمعاتنا الإسلامية تريد أن تلتحق بركب الغرب، لكن عن طريق أخذ العادات السيئة وترك نقاط القوة والعادات الحسنة، فهناك ممن يدّعون الثقافة يقولون: (يجب علينا لكي نتقدم، أن نغير كل عاداتنا، من رأسنا إلى أخمص قدمينا، ونأخذ العادات الغربية حتى نلتحق بركبهم). ونتيجة لهذه الدعوة وأمثالها أخذنا بعض نقاط الضعف وتركنا نقاط القوة.

وهناك مسألة فقهية يذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية، وهي حرمة التشبه بالكفار، وهذه المسألة قد ننظر إليها بنظرة تجزيئية، أي: يحرم علينا أن نتشبه بالكفار، وقد يعترض البعض ويتساءل: لماذا يحرم علينا أن نتشبه بالكفار؟ والجواب: إنه لا يصح النظر إلى هذه القضية بمنظار جزئي، فالمقصود بهذه المسألة أو حسبما يقول علماء الأصول: (تعليق الحكم على الوصف يُشعِر بالعِليّة)، أي: إن علّة حرمة التشبه كون هذه العادة ليست من عادات المسلمين، وإنما من عادات الكافرين، وحينما يتشبه المسلم بالكافر فقد يسبب له الانهزامية النفسية، بل إن التشبّه هو نتيجة لهذه الحالة، بمعنى أن الإنسان يحسّ بأنه ضعيف ويحتاج إلى أن يتّبع غيره، فيقلد هذا الكافر في قضيّة، ثم في قضيّة ثانية وثالثة، وحالة الانهزامية لها أول وليس لها آخِر؛ إذ إنها تجري في كل الأمور، في حالة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وهكذا... وإذا بالإنسان يرى نفسه وقد تغيّرت ثقافته الإسلامية بصورة كاملة، وترك كثيراً من القيم الإسلامية بسبب هذا التشبّه.

والحاصل: إننا حينما نتحدث عن لزوم التمييز بين عادات المجتمعات الإسلامية، وبين الثقافة الإسلامية الأصيلة فإن كلامنا يدور حول أن العادة إذا كان لها أصل في الإسلام، وفي الثقافة الإسلامية فيجب المحافظة عليها، واعتبارها مصداقاً من مصاديق الثقافة الإسلامية، وإذا لم تكن العادة كذلك فيجب أن ننظر إليها بدقة، فإن كانت معارضة للقيم الإسلامية فيجب التخلّي عنها وإزالتها، وإذا جاء الإسلام ببديل أفضل فيجب أن نأخذ ذلك البديل؛ لأنه سيشكل منظومة ثقافية متكاملة، مع بدائل أخرى، ومع قيم أخرى. ولكن إذا لم يأتِ الإسلام ببديل أفضل، ولم تكن العادة سيئة، فيجب المحافظة عليها وعدم استبدالها، خاصة بعادات غير المسلمين؛ لأن هذا الاستبدال إنما يكشف عن نوع من أنواع الانهزامية النفسية.

............................................
(1) انظر: العين 8 : 281، وفيه: (والرفاء: يكون الاتفاق، وحسن الاجتماع، ويكون من الهدوء والسكون).
(2) الكافي 5: 568.
(3) سورة الروم، الآية: 22.

اضف تعليق