q
وتناسى هذا الفخ الحقائق التالية المثبتة وثائقيا: الحقيقة الاولى: ان الاشكال الاولى للديمقراطية وُلدت في مدن وادي الرافدين قبل الاف السنوات من ظهورها في اثينا الاغريقية. الحقيقة الثانية: ان البذور الاولى للتفكير الفلسفي هي الاخرى زرعت في وادي الرافدين ومصر قبل ان تجد طريقها الى اثينا...

يقع بعض الكتاب والمحللين، وغالبا دون وعي او شعور منهم، بالفخ الغربي المصنوع حول "المركزية الغربية" التي تصور الحضارة والحداثة الراهنتين بانهما صناعة اوروبية غربية محضة، وهذا يشمل فروعا كثيرة من الحضارة ومظاهرها مثل الفلسفة والديمقراطية وغيرها.

على صعيد الفلسفة يجري تصويرها وكأنها صناعة اغريقية بامتياز ليكون طاليس الملطي الايوني (٦٢٤-٥٤٦) اول انسان فكّر وتفلسف. ونقرأ في الموسوعات الغربية المغالطة التالية:

"ايونيا هي مدينة إغريقية قديمة تقع على الساحل الغربي لآسيا الصغرى على البحر الأبيض المتوسط. وعُرفت هذه المستعمرة بهذا الاسم وقت قيام دولة اليونان القديمة. وهي منطقة تاريخية تقع بالقرب من مدينة إزمير (سميرنا) بتركيا. شهدت ايونيا ولادة الفلسفة، واستوطن الإيونيون هذا الساحل منذ القرن العاشر ق.م، وانتشروا فيما بعد في جزر بحر إيجة المجاورة"، ويقابل ذلك ان "العقل الشرقي" عقيل بياني لا يجيد التفكير العقلي البرهاني ولا التفلسف.

ونقرأ في المصادر الغربية ان الديمقراطية صناعة اغريقية لفظا ومفهوما وممارسة. ويقابل ذلك ان الاستبداد ميزة شرقية تجعل الشرق غير صالح لاستنبات الديمقراطية.

ونعيش كل يوم ان الحداثة الراهنة غربية الصنع بدأت بالنهضة الاوروبية في ايطاليا ومنها الى بقية ارجاء اوروبا، ثم العالم.

ويقابل ذلك ان الشرق، والشرق الاسلامي منه بوجه الخصوص، يغط في العصور المظلمة والتخلف.

واذْ اقترن ذلك كله بالاستعمار الأوروبي لمناطق شاسعة من العالم الاسلامي اضحت الحداثة والحضارة الراهنة قرينة الاستعمار الغربي الممقوت تعريفا واصلا.

وقد اسهم في اشاعة هذه المغالطات الكثيرة فلاسفة غربيون كثيرون قد يأتي في مقدمتهم هيغل (١٧٧٠-١٨٣١) الذين ينال اعجاب الكثيرين منا دون الانتباه الى دوره المخرّب في صياغة المركزية الغربية ونظرتها الاستعلائية الى الشعوب الاخرى.

وتناسى هذا الفخ الحقائق التالية المثبتة وثائقيا:

الحقيقة الاولى: ان الاشكال الاولى للديمقراطية وُلدت في مدن وادي الرافدين قبل الاف السنوات من ظهورها في اثينا الاغريقية.

الحقيقة الثانية: ان البذور الاولى للتفكير الفلسفي هي الاخرى زرعت في وادي الرافدين ومصر قبل ان تجد طريقها الى اثينا.

الحقيقة الثالثة، وهي الاهم، ان الحضارة الانسانية واحدة، وان تعددت تمظهراتها، واختلفت بعضها عن البعض الاخر. فالحضارة هي صناعة الانسان، والانسان اينما وجد يسهم بهذا القدر او ذاك بصناعة الحضارة التي تمخر عباب التاريخ وتنتقل من بحر الى اخر، وتتكامل وتنمو بمرور الزمن. لم يعرف التاريخ جزرا حضارية منقطعة بعضها عن البعض الاخر، ربما باستثناء القارة الاميركية، وان الحضارات كانت تتفاعل فيما بينها ويأخذ بعضها من البعض الاخر، حتى وهي تصطدم فيما بينها عن طريق الحروب والقتال.

كان المغول الذين انطلقوا من شرق اسيا في عام ٦١٧ هجرية ليسقطوا عاصمة الخلافة العباسية بغداد في سنة ٦٥٦ هجرية وثنيين. ولكنهم ما لبثوا بعد ذلك ان اسلموا. وكذلك الامر حصل في الصدام الاسلامي المسيحي اثناء الحروب الصليبية، وقد كان العالم الاسلامي اكثر تقدما من العالم المسيحي. وليس ببعيد القول بان الغربيين تعرفوا على افلاطون وارسطو عن طريق الترجمات العربية لمؤلفاتهم التي كاد يلفها النسيان. ولا يمكن تجاهل دور الفيلسوف الاندلسي الكبير ابن رشد في تنوير اوروبا. وهذه كلها نماذج على العلاقات التفاعلية بين اسهامات المجتمعات المختلفة في صنع الحضارة التي هي في جوهرها حضارة انسانية واحدة تجسد كلها المسيرة التكاملية للبشرية عبر تاريخها الطويل.

ما اريد التنبيه عليه هو الحذر من الوقوع في الفخ المزدوج الذي يسجل براءات الاختراع الحضارية لصالح الغرب، ويقيم جدار التخوف المسبق من الحضارة الحديثة، في نفس الوقت.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق